أنا الإنسان الوحيد على وجه الأرض
أنا الإنسان الوحيد على وجه الأرض
إن اصطدام المعرِّي بالناس في كل ما كتب، حتى قرَّر أن يعتزل الدنيا كلها وينزوي في قعر بيته، لا يمنع أنه حاول الاختلاط بهم في بداية حياته، فقد سافر إلى بغداد وقضى فيها عامًا ونصف العام، وعرض على الأدباء ديوانه “سقط الزند” وزار دار الكتب للتزوُّد بالعلم، لكنه لم يسلم من نعته بالأعمى من قبل بعض النحاة والعلماء، لكن الصدام الأكبر كان بسبب تشيُّع المعرِّي لأبي الطيب المتنبي، الذي كان يقدمه على كل الشعراء المُحدَثِين، ومن الذين اصطدم بهم الشاعر “الشريف المرتضى” الذي أمر بطرده عندما مدح المتنبي في مجلسه.
أصيب المعري بالعمى صغيرًا بسبب مرض الجدري، ولم يدرك من الدنيا إلا ثوبًا أحمر لبسه في صغره، ولم يكن يتأزم من إصابته بالعمى، بل اعتبره نعمة أنعمها عليه الله إذ كفته رؤية الثقلاء، لكن هذا البلاء لم يسلمه من شماتة أعدائه، فكانوا يصفونه بالكلب الأعمى، ويحرصون على ذكر العمى كي يجردوه من أهم ما يميز الكلاب وهو حدة البصر، فيكون المعري -في رأيهم- كلبًا ناقصًا، ومنهم من وصفه بالجمع بين العَمَيَيْنِ: عمى البصر وعمى البصيرة، يقول أحد خصومه: “خزاك الله من أعمى لعين.. بصيرته تناهت في عماها”.
لكن على الرغم من ذلك، فإن على الناس للمعرِّي دينًا ربما لم يستطع أحد قضاءه إلى يومنا هذا، فقد حدث أن دخل مجلسًا فعثر برجل، فقال الرجل: “من هذا الكلب؟”، فكان رد المعري: “الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا!” في لحظة واحدة استردَّ المعري إنسانيته ورمى بالتهمة الرجل وكل من يرده الخبر، مبرهنًا على علمه الدقيق باللغة التي تميز الإنسان بها عن الحيوان الأعجم، اللغة التي تضمن له سرد سبعين اسمًا للكلب.
هل للكلب سبعين اسمًا حقًّا؟ من الناس من حاول دفع التهمة عن نفسه، مصدِّقًا أن المعري غير مبالغ في مسبَّته، وكان أشهرهم العلامة السيوطي الذي تتبَّع أسماء الكلاب في كتب اللغة ونظمها في أرجوزة، ويدعونا الكاتب إلى حفظ الأرجوزة عن ظهر قلب كي نفلت من خزي المعري الذي يلاحق كل الناس.
الفكرة من كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
تتبَّع المؤلف في هذا الكتاب بعض المحطات في رحلة الأديب الألمعي والشاعر المشهور، الملقب بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرِّي.
إن المعرِّي أشهر من أن يُعرَّف، فهو من سار بذكره الركبان، وطبقت شهرته الآفاق وكثرت أخباره وتفاصيل أحواله، من قال عن نفسه: “وإنــي وإن كــنــتُ الأخــيـرَ زمـانُهُ.. لآتٍ بــمــا لم تَــسْــتَـطِـعْهُ الأوائل”، لكن هذه الأخبار بحاجة إلى من يمحِّصها بعين الناقد الثاقب والأديب الواعي، وهذا الكتاب يحاول مد يد العون لكل من حاول السير في متاهات أبي العلاء المعري.
مؤلف كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
عبد الفتاح كيليطو، أديب وكاتب مغربي، ولد في عام 1945م، يعمل أستاذًا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ويعد من أشهر نقاد الأدب واللغة المغاربة في العصر الحديث، وهو يكتب بالعربية والفرنسية، من أشهر مؤلفاته: “جدل اللغات”، و”لن تتكلم لغتي”، و”من شرفة ابن رشد”، وغيرها، وتُرجِمت أعماله إلى عدة لغات.