أسباب تضخم التشخيص، وزيادة الاضطرابات النفسية في العصر الحالي

أسباب تضخم التشخيص، وزيادة الاضطرابات النفسية في العصر الحالي
إن تضخم التشخيص يرجع إلى عوامل خارجة عن الطب النفسي، إذ تعبث شركات الأدوية بالدليل التشخيصي والإحصائي وتشجع على إساءة استخدامه، ويدلل على ذلك النمو الهائل في استعمال الأدوية النفسية الذي نتجت عنه أرباح ضخمة، فنحن الآن نرى، بما لا يدع مجالًا للشك، أن تشخيص الأمراض النفسية أصبح عملة رخيصة، وهو ما جعل السواء في المقابل عملة نادرة، وهذا التشوه في الحقيقة يحرم المرضى الحقيقيين تلقي العناية والعلاج اللازم لهم.

ليس هذا فحسب، فمن الأشياء التي أسهمت في تضخم التشخيص أيضًا ما يُعرف بالطب الوقائي، إذ يُطالع الإنسان في كل مكان وعلى شاشات التلفاز وعبر مواقع التواصل الاجتماعي إعلانات ودعايا تحثه على إجراء الفحوصات الطبية للكشف عن المرض مبكرًا، أو من أجل تجنب المرض في المستقبل، وكشفت كثير من الدراسات أن الكشف المبكر عن المرض لم يكن جيدًا للمرضى، وأنه يزيد العبء بعلاجات مكلفة غير ضرورية، هذا إلى جانب الخسارة المجتمعية الناتجة عن إنفاق عشرات المليارات بشكل سنوي في ما يمكن أن يستفيد منها المرضى الحقيقيون، والسبب أن هذه الفحوصات المبكرة للكشف المبكر عن المرض وضعت لها معايير طبية منخفضة حتى تدفع غالبية الناس إلى الإقدام عليها، وهذا ما أدى إلى تصنيف الطبيعيين على أنهم مرضى.
ومكمن المشكلة في تضخم التشخيص هو تلك التعريفات الفضفاضة للمرض النفسي، التي يصعب على الأشخاص في وجودها أن يعدوا أنفسهم أسوياء، فمشكلاتنا التي اعتدنا وجودها أصبحت تصنف الآن اضطرابًا نفسيًّا، بالإضافة إلى أن قلة تسامحنا مع الآخرين وعدم تقبلنا للاختلافات الفردية تدفعنا إلى تصنيفهم على أنهم مرضى، فالطفل الكثير الحركة لا يُوصف بأنه الأنشط بين زملائه في الصف، بل يُصنف بأن لديه اضطراب فرط الحركة والانتباه ومن ثم لا بد من صرف الدواء له، وبناءً على ذلك فإن كثيرًا مِمَن وُصِموا بأنهم مرضى نفسيون هم في الحقيقة أسوياء بشكل لا ريب فيه، وتلقوا علاجًا لا يحتاجون إليه!
قبل الخمسينيات من القرن المنصرم، كانت الأدوية النفسية قليلة، وكانت ذات آثار جانبية إدمانية، وفي بعض الأحيان قاتلة، لكن بداية من السبعينيات راجت تجارة الأدوية النفسية ذات الآثار الجانبية القليلة، وقد أدى ذلك إلى تحوّل مجموعة صغيرة من المرضى إلى مجموعة أوسع من الأسوياء القلقين، ومع الوقت أصبحت هذه الأدوية جزءًا لا يتجزأ من حياة الشعوب وعلى رأسها الشعب الأمريكي، كما صارت نقمة على المرضى ونعمة لشركات الأدوية، إذ تتجاوز مبيعات الأدوية النفسية 700 مليار دولار كل سنة!
الفكرة من كتاب إنقاذًا للسواء.. ثورة مُطلع ضد تضخم التشخيصات النفسية DSM-5، شركات الأدوية الكبرى، وتحويل حياة السواء إلى حياة مرضية
يرى آلن فرانسيس أنه في الوقت الذي يشعر فيه مواطن في آسيا أو إفريقيا أن بلاده متأخرة في مجال فهم علل النفس البشرية والطب النفسي، يوجد مواطن آخر في الولايات المتحدة وأوربا يتلقى تشخيصًا كاذبًا، ويأخذ علاجًا دون الحاجة إليه بسبب ترويج أمراض زائفة، الهدف من ورائها تحقيق الربح لشركات الأدوية الكبرى، لذا يؤكد المؤلف أهمية وضع حد فاصل بين المرض والسواء للحفاظ على حياة الأشخاص الطبيعيين والأسوياء، فليس كل حزن يعد اكتئابًا، وليس كل طفل كثير الحركة يُشخص بأنه مصاب بفرط الحركة وتشتت الانتباه، ويحذر المبالغةَ في تشخيص السواء، فالمجتمعات ليست غالبيتها مريضة، بل العكس.
مؤلف كتاب إنقاذًا للسواء.. ثورة مُطلع ضد تضخم التشخيصات النفسية DSM-5، شركات الأدوية الكبرى، وتحويل حياة السواء إلى حياة مرضية
آلن فرانسيس: هو أستاذ فخري ورئيس سابق لقسم الطب النفسي والعلوم السلوكية في كلية الطب بجامعة ديوك، ترأس فريق عمل الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع DSM4، وكان مساعدًا مع المجموعة الرئيسة للدليل التشخيصي والإحصائي الثالث DSM3، من مؤلفاته:
Differential Therapeutics
Your Mental Health
Essentials of Psychiatric Diagnosis
معلومات عن المترجم:
سارة اللُّحَيْدَان: مترجمة سعودية، من ترجماتها:
نضال من أجل الرحمة: بناء التعاطف داخل عالم ممزق.
الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي.