أثر الاستشراق في فساد الحياة الأدبية
أثر الاستشراق في فساد الحياة الأدبية
ولكي يتمكَّن الأوروبيون من تحصيل هذه العلوم تكوَّنت لديهم “طبقة المستشرقين”، وكانت مرحلة من أهم مراحل إفساد الحياة الأدبية وهي مرحلة “الاستشراق والمستشرقين”، وأشار “محمود شاكر” إلى فساد الحياة الأدبية، والذي قصد به مناهج المستشرقين وسيطرتهم على التعليم إما بسبب المستشرقين الذين درسوا في الجامعات المصرية، أو بسبب تأثر المصريين الذين سافروا في البعثات بمناهج هؤلاء المستشرقين في بلادهم.
إن الغرض الأساسي الذي جاء به الاستشراق كان لأجل الأوروبيين وليس لأجل الشعوب العربية المُسلمة، ومع الحروب الصليبية ظهر العديد من الفلاسفة والمستشرقين الأوروبيين الذين اجتهدوا في التعلُّم والتعليم ليرفعوا عن أنفسهم وعن بلادهم الجهل، فنشأ بذلك حاجز منع الأوروبيين من الانبهار بحضارة الإسلام التي كانت في أشد مراحل ازدهارها، فقاموا بمحاولة رسم التراث العربي الإسلامي بصورة تُناسب القارئ الأوروبي حتى لا ينبهر كما انبهر أسلافه.
يقول “محمود شاكر” عنهم: “أهمُ وأعظَمُ طبقةٍ تمخَّضتَ عنْها اليَقَظةُ الأوروبية، لأنهم جُنْدُ المسيحية الشمالية الذين وَهَبُوا أنفُسهم للجهادِ الأكبر، ورضُوا لأنفُسهم أن يظلوا مَغْمورين في حياةٍ بدأت تَموج بالحركة والغِنَى والصيتِ الذائع، وحَبسُوا أنفسهم بين الجدْران المختفية وراءَ أكدْاس من الكتُب، مكتوبةٍ بلسانٍ غيرِ لسان أمَمهم التي ينتمون إليها، وفي قلوبهم كُل اللَّهيب المُمِض الذى في قلب أوروبَة، والذي أحدثته فجيعة سقوط القسطنطينية في حوزة الإسلام”.
ما فعله المستشرقون لا علاقة له بالمنهج الذي تنتمي إليه العلوم والثقافات العربية؛ وذلك بسبب الفروق الشاسعة في اللغة والثقافة والدين، وهي الأدوات التي يتم بناء الإنسان في مرحلة ما قبل المنهج، ولا يخفى أيضًا أن المستشرقين في أغلبهم يتبعون الهوى ولا يتحرَّون الحق في منهجهم، وإنتاجهم إنما كان لأجل خدمة مصالح أوطانهم، وحتى لا ينبهر القوم بالثقافة العربية والإسلامية فيكون ذلك سببًا في دخولهم إلى دين الإسلام.
الفكرة من كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا
إنَّ المدخل الوحيد لاستخلاص واستنباط أصول الثقافة العربية والإسلامية عند “محمود شاكر” هو منهج “التذوُّق” الذي تحدَّث عنه في مختلف كتاباته، وليس في كتابنا هذا فحسب، وقضية التذوق عند محمود شاكر هي قضية حياته المحورية التي تجلَّت في كل كتاباته، الأمر الذي تعدَّى إذن القراءة المجردة للنصوص، أو حتى القراءة النقدية التفصيلية، وإنما تغلغلت حتى بلغت العظم منها والنخاع، وهي درجة عظيمة من النفوذ في البيان العربي، درجة مكَّنته من بلوغ منزلة فريدة من الاجتهاد والتغلغل في اللسان العربي فاستطاع أن يقرأ التراث العربي والإسلامي ويستنبط أصوله، بل استطاع “تذوُّق” طعم النص حتى استخلص تلك الأصول والمنهجية منه، ولم يُجرِ “محمود شاكر” تلك المنهجية على الشعر فقط، وإنما على النصوص المنثورة أيضًا، فكان منهجًا عامًّا له على كل ما قرأ.
مؤلف كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا
محمود محمد شاكر: لُقِّب بأبي فهر، وُلِد في 1 فبراير عام 1909، وتوفي في 7 أغسطس 1997 م، وقد نشأ الأستاذ محمود شاكر في بيئة متديِّنة، إذ كان أبوه كبيرًا لعلماء الإسكندرية ثم وكيلًا للجامع الأزهر، ولم يتلقَّ إخوته تعليمًا مدنيًّا، أما هو وقد كان أصغر إخوته، فقد انصرف إلى التعليم المدني، فتلقَّى أولى مراحل تعليمه في مدرسة الوالدة أم عباس في القاهرة سنة 1916 ثم بعد ثورة 1919 إلى مدرسة القربية بدرب الجماميز، وهناك تأثَّر كثيرًا بدروس الإنجليزية لاهتمامهم بها ولكونها جديدة عليه، ولما كان يقضي أوقاتًا كثيرة في الجامع الأزهر فقد سمع من الشعر وهو لا يدري ما الشعر!! ومن الجدير بالذكر أنه حفظ ديوان المتنبي كاملًا في تلك الفترة.
ألَّف الأستاذ “محمود شاكر” هذا الكتاب في عام 1978، تقريبًا في نفس الوقت الذي ألَّف فيه “إدوارد سعيد” كتابه “الاستشراق”، هذا الكتاب “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا” لم يكن منفصلًا وإنَّما صدر كمقدِّمة لكتاب “المتنبي”.