من خيال الكتب إلى حقيقة التجربة
من خيال الكتب إلى حقيقة التجربة
كان المازني في وقت من حياته لا يرى في الدنيا غير الكتب، ولا ينظر إلى الحياة إلا من عيون مؤلفيها، وكان دأبه أن يعوض تجربته الشخصية بالتجارب التي يعيشها مع الكتب، ففي النهاية لن يطول عمره ليجرب كل شيء، وما دام ذلك فليعتمد على الكتب في كل التجارب، فأصبح لا يعرف الحزن أو الفرح، ولا يحس المشاعر التي تلتاع بالنفوس، لكنه يعرف أثرها ووصفها مما قرأ، لكن هل كانت الكتب تُغني حقًّا؟ اختبر المازني نفسه على كبر فرأى ما قرأ وحصل كأنه وهم، وخبر الدنيا فوجدها غير ما قرأ وما سمع، وها هو في الأربعين من العمر، يرى نفسه يخطو إلى الدنيا مع ولده الصغير.
ظلت هذه الحال من التبجيل والتوقير بين المازني والكتب حتى اضطر إلى بيع مكتبته، فكان لزامًا عليه أن يغير حاله مع الحياة، فما عادت هناك مكتبة يهرع إليها طلبًا للجواب، ولا كتاب يغنيه عن السلوى ويقيه عاقبة التجربة، فوجد الشك يتسلل إلى كل ما كان يثق به، وتغيرت الحال، فأصبح عقله هو الحاكم على كل ما يرى وما يجرب، ورأى نفسه تخرج من سباتها، بعد أن سُلبت طويلًا بواسطة آراء وتجارب غيرها، وتضاءل تأثير الكتب شيئًا فشيئًا في نفس المازني، فما عاد ينظر إلى الأمر نفسه برأي واحد، ولا إلى الشخص بعين واحدة، فأضحى ذلك العالم الخيالي ذو الرأي الواحد والحقيقة الواحدة، عالمًا فسيحًا يسع كثيرًا من الآراء والتجارب.
وقد ألزم المازني نفسه في القراءة طريقة تقيه ضياع الوقت وعناء الطلب، فلا يُرهق نفسه في تجربة كتاب لا يدري عاقبته، وتعليله لهذا أن الوقت لا يسع جميع الكتب الجيدة، فكيف يسع الرديء؟ ولذلك كان يقلل من قراءة الكتب الحديثة، ويقتصر على ما غربله الزمن وأجمع الناس على جودته، كما لم يُرهق نفسه كثيرًا بالحفظ، ليس لضعف ذاكرته فقط، لكن كيلا يتأثر أسلوبه بما يقرأ، وفائدة القراءة تحصل سواءً حفظ أم لم يحفظ.
الفكرة من كتاب العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة
هذه السيرة ليست كما اعتدنا من سير الأعلام والكتاب، فقليل من الأدباء من يمتلك هذه الصراحة التي لم يتحرج المازني من بثها في جميع مقالاته، فنراه كثيرًا ما يتطرق إلى كتابته، فيذكر ندمه على كثير مما كتب وتعجبه من إشادة القراء بما يكتب، ثم هل يجرؤ كاتب في بداية القرن العشرين أن يُصرح بعدم فهمه للفلسفة؟ ومعرفته لفضل أساتذته وأقرانه حتى من باعد الخلاف بينه وبينهم؟ وإنك على مدار الكتب لتجد من هزله ما تحسبه جدًّا، ومن فكاهته ولا مبالاته وسخريته ما يُحيرك، فلا تخلط هذا بذاك، وتوخَّ المعنى البعيد الذي تكشفه طريقته في المبالغة وفهمك لطبيعة شخصيته.
وقد تحرى مُعد هذا الكتاب أن تكون جميع المقالات حول ما اتصل بالقراءة والكتابة وشؤونهما في مؤلفات المازني، فيكون الكتاب أقرب إلى تصنيف الأدب وأشبه بسيرة ذاتية تصف أحوال صاحبها وتعكس روحه وتتتبع آراءه وتجربته.
مؤلف كتاب العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعر وأديب وصحفي، وُلد المازني عام 1889م بمحافظة القاهرة، بعد تخرجه في المدرسة الثانوية رغب المازني في دراسة الطب، لكنه عدل عنه إلى الحقوق ثم انتهى به الأمر في مدرسة المعلمين، اشتغل بالتدريس بعد تخرجه، لكنه ضاق بقيود الوظيفة وآثر الصحافة، عُرف عنه أسلوبه الساخر الرشيق الذي ينتمي إلى السهل الممتنع، كما كان بارعًا في الإنجليزية ونقل عديدًا من أشعارها إلى العربية. من مؤلفاته:
صندوق الدنيا.
حصاد الهشيم.
عود على بدء.
رواية إبراهيم الكاتب، بجزئها الثاني: إبراهيم الثاني.
معلومات عن المُحرر:
عبد الرحمن بن حسن قائد: نال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراه، قرأ على طائفة كبيرة من العلماء في مختلف الفنون ولازم بعضهم وحفظ جملة من المتون العلمية، عمل أستاذًا للحديث وعلومه في المركز العلمي لتعليم القرآن والسنة بجدة (تحت إشراف جامعة أم القرى)، كما شارك في مشروع آثار ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي والمعلمي الذي أشرف عليه الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله، عمل محققًا ومراجعًا ومصححًا من سنة 1423م حتى اليوم.
من تحقيقاته:
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيّم.
الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيّم.