كيف تتكون اللغة؟ ومن يضعها؟
كيف تتكون اللغة؟ ومن يضعها؟
لا شكَّ أن اللغة من أقدم النظم البشرية، وصفة لازمة للجماعات لا يُتصوَّر أن تقوم دونها أو تنفكَّ عنها، ليس لجماعات البشر فقط، بل إن الحيوانات كذلك لها لغات تتواصل بها، واللغة باعتبارها أداة للتعبير تتطوَّر وتنمو مع تقادم الزمان وتجدُّد المعاني والاكتشافات، كما أنها تضمر كلما توغلنا بها ناحية الزمان الغابر حتى تثوبَ إلى أصلها الأول، وهو الإشارة حيث لا يُعقل أن يتم التواصل ما بلفظ غير متواضَع عليه بعد، لذا يمكن استصحاب الإشارة بوصفها عاملًا مساعدًا في إظهار المعاني.
ولا ريب أيضًا أن اللغة التي تحدَّث بها آدم قد انقرضت، بل انقرضت لغات كثيرة بعدها كالهيروغليفية والقبطية، فاللغة ليست توقيفية كما يزعم بعضهم، بل يتواضع الناس عليها، واللغة العربية لهجة من لهجات العبران وليست من وضع يعرب بن قحطان كما يدعون، أما الاستدلال بالآية الكريمة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾، على أنه كان يعرف لغة كاملة ناضجة، فهو رجم بالقول دون برهان، فليس بين معنى الآية وقولهم قدر طرفة عين من حجة، والأقرب إلى الحق أن تلك أسماء لمسميات عاقلة علمها اللهُ آدمَ ليبين فضله على الملائكة، وربما تكون أسماء الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) لتعلم الملائكة فضل الإنس وأنهم ليسوا سفاكين كما ظنوا، ذلك لأن لفظ التعليم في القرآن يأتي بمعانٍ كثيرة، فتعلَّم سليمان (عليه السلام) لغة الطير لا يعني أنه يستطيع تأديته بأصواتها، بل يفهم ما تريده الطيور، وتعليم الكلاب الصيد يعني تمرينها عليه.
فاللغة آلة جمهورية ينشئ ألفاظها الجمهور حسب الحاجة، والحاجة يعوزها الكثيرون في وقت واحد، فيستحيل أن يعد إنسان لغة ثم يفرضها على شعب، يريد منهم أن يتقنوها، وقد فشلت محاولة جمع العالم كله على لغة واحدة مسماة لغة “الإسبرنتو” وعُدَّت عملًا صبيانيًّا، وأن اختلاف اللسان دليل على أن اللغة من مزاج الأمة العقلي والنفسي.
الفكرة من كتاب كينونة اللغة العربية
ليست اللغة وسيلة للتفاهم وأداة لنقل المعاني فحسْب، بل هي تعبير عن مدنية الإنسان التي مكَّنته من اختراع هذه الأداة العظيمة لينقل بها مشاعره وأحاسيسه وأفكاره، ويؤلفَ شعوبًا ومدنًا وحضارة، وفي هذا العرض الموجز نستكشف عواملَ نشأة اللغات وكيف تنمو وتنتظم وتتطوَّر، ومن واضعها، وما وضعها وبنيتها، وندرس جانًبا من خصائص اللغة العربية وبعض المشكلات التي تواجه دارسيها.
مؤلف كتاب كينونة اللغة العربية
الدكتور عبد الفتاح بدوي: كاتب وعالم، يعدُّ كبار علماء الأزهر الشريف، وُلد بقرية طحلة مركز بنها بمحافظة القليوبية عام ١٨٩٨، درس في المعهد الأزهري بالإسكندرية، وحصل على شهادة الدكتوراه الملكية عام ١٩٢٩، وعمل مدرسًا بكلية اللغة العربية منذ عام ١٩٣٣ حتى وافته المنية (رحمه الله) عام ١٩٤٨.
ومن مؤلفاته: “كتاب في العروض والقوافي”، وله جهود وآراء متميزة في قضية الأضداد في اللغة، وكتب في التاريخ، وذكر الزركلي ترجمته في الأعلام.