في أعقاب الحاضر
في أعقاب الحاضر
ما سبق كان تذكِرة من الماضي تتصل ببطل قصة اليوم، فقد مر أربعة وعشرون عامًا على هذا الخروج، ولم يبقَ من بني الأحمر في أفريقيا إلا شاب عشريني اسمه “سعيد”، لم يرَ الأندلس قط، ولم يشهد حضارتها ولا قصورها، ولا يعلم من أبرز معالمها إلا ألقابها، لكن ذاكرته تنبض بحكايات أجداده وقصصهم، وتتردد في ذهنه أناشيد قومه بنغماتها الأندلسية، وكيف ينسى الشعر الأندلسي؟ ظلَّ كل ليلة يبكي حالهم ويردِّد ما يأتي في باله من تراثهم، حتى يتمكَّن منه التعب، فلا يدعو الله إلا بأن يمن عليه برؤية غرناطة ولو ساعة ثم لا شيء بعد ذلك يريد.
كان دائمًا عاقدًا عزمه على الذهاب، ولم يمنعه سوى امرأة من أهله طاعنة في السن يرعاها، حتى إذا ما ماتت ركب البحر مرتحلًا إلى تلك الأرض التي تعلَّق بها دون أن يراها، مبحرًا من سبتة إلى شاطئ ملقة ثم منها إلى غرناطة متخفِّيًا على هيئة طبيب أعشاب عربي، مرَّ في رحلته بمظاهر طبيعية خلابة ليست بغريبة عن تلك الأرض من سهول وأنهار وجبال وخضرة، حتى رأى أبراجًا حمراء شامخة، وقصورًا ذات غرف ونوافذ تسعد الناظر، والقباب والمآذن تلتحف السماء، فتسرَّبت الحسرة في نفسه وغمرت كلَّه حتى صاح قائلًا:
“هذا ميراث آبائي وأجدادي، لم يبقَ لي منه إلا وقفة بين يديه كوقفة الثاكل المفجوع بين أيدي الأطلال البوالي، والآثار الدوارس…”.
ظل في بؤسه مراقبًا انتهاء “دولة النهار”، ثم اتخذ ذراعيه وسادة وافترش الأرض ونام.
بانقضاء “دولة الليل” استيقظ سعيد ليكمل جولته في تلك الأراضي المسلوبة، ويكمل ما بدأه من أفكار تحادثه عما كانت عليه المباني، وما كان يفعله قاطنوها الأصليون، كيف تشتاق الحجارة إلى بنائها وحاميها، وكيف استحالت المآذن والغرف من حال إلى حال، ظل هكذا متأملًا حتى وصل إلى باب قصر عظيم.
الفكرة من كتاب العبرات
العبرات مؤلف يحوي قصصًا تخوض في أبرز الصراعات المجتمعية حينها، وتفتح المجال واسعًا أمام فيض مشاعر مضطربة تعتصر لها القلوب شجنًا، فلا تدري أتتنهَّد عجبًا من جزالة الألفاظ أم أراقت دمعك المعاني الغنية، وقد جاء الكتاب في أربع حكايات ألفها المنفلوطي بنفسه وردت كالآتي: اليتيم، والحجاب، والهاوية، والعقاب، تلحقها أربع مترجمة أخرى، وهي: الشهداء، والذكرى، والجزاء، والضحية.
الجامع بين الروايات الثماني هو ألوان الشقاء والمآسي التي تُختتم بها، فلا تبتئس وتنفر قبل أن نبدأ، فليست تتشابه دوافعنا للحزن مع ما كانت عليه في بعض القصص، بينما ظل البعض الآخر نموذجًا حيًّا لآفات عصرنا ومشاكلنا، لذا حاول جاهدًا أن تستقي الحكمة من كل مطروح لعلَّك تظفر بما أغفله الكثيرون، أو جِد لنفسك سلوانًا بين مصابهم، فلمثل هذا السبب أوجد المنفلوطي العبَرات… للتعزية والمواساة.
مؤلف كتاب العبرات
مصطفى لطفي المنفلوطي: ولد الكاتب والشاعر نابغة الأدب عام 1876م لأب مصري وأم تركية، تلقَّى تعليمه في كتَّاب القرية أول الأمر، ثم انتقل إلى الأزهر ليستزيد من العلوم الشرعية والآداب، وانفرد المنفلوطي (رحمه الله) بكتابة بليغة أعجزت معاصريه، فكان ممتلكًا للُّغة حق الامتلاك، وله من القدرة ما يعينه على تطويعها كيفما شاء، فتنوَّعت مؤلفاته بين الشعر والمقال والمترجمات المنقولة من لغات أخرى والموضوع مما ألفه من قصص وروايات، نذكر من أعماله: مجلد “النظرات” في أجزائه الثلاثة، و”ماجدولين” و”في سبيل التاج”، وقد انتقل إلى جوار ربه في عام 1924م.