بين باريس وليفربول ونحن!
بين باريس وليفربول ونحن!
يختلف الحب عندنا عما في باريس، فعندنا الحب حب الهوى العذري، وهو مُقدَّس ومُنزَّه عن الشهوات، إذ تكمن لذة ذلك الحب النبيل في الحنين والتشكِّي والتغنِّي بأبيات الشعر كما عهدنا، أما باريس فعندهم الحب على نوعين: حب شريف لكنه بعيد عن الحب العذري، إذ يُباح فيه أن يُفضي كل حبيب إلى حبيبته فيكون منه ما يكون بين المرء وزوجه، والفارق بين ذلك الحب وغيره هناك أنه يكون حقيقيًّا لا لمصلحة مادية ولا لغيرها، كما أن الحبيبين يقاسيان فيه ألوانًا من العذاب، وهو الحب الذي أنتج شعر فرنسا وآدابها وفلسفتها، ويرى الدكتور زكي مبارك أن لكل أمة نصيبًا من ذلك الحب فلا تتفرَّد به فرنسا وحدها، بل هو عين الحب الطبيعي -عنده- الذي يطغى على مشاعر الإنسان فيفيض بالحب والحنان دون أن يُشترط لذلك أن يكون المحب فاجرًا، وأما الحب الذي تفرَّدت به باريس فهو “الحب الأثيم” الذي يتشابه قليلًا مع الحب الشريف هناك، لكنه حب ظاهري يرضى فيه الشاب -هروبًا من مسؤولية الزواج- بفتات الحب وما يناله من الفتاة هنا وهناك في أي مكان مصادفةً، بينما هي ترافقه لفقرها وحاجتها، وذلك النوع من الفتيات الباريسيات هو أخطر ما يواجه الشرقيين والمصريين هناك -وبخاصةٍ في الحي الذي يسكنه الطلاب- وكم من شاب لجأ إلى مثل تلك المستنقعات فأوجعته الأمراض التي أعجزت الطب والأطباء أو أفلسته، فلا هو تعلَّم ولا حقَّق أهداف سفره فعاد إلى بلده كما جاء منها!
نصح زكي مبارك بأن تكون هناك دار مصرية في باريس تأوي طلاب مصر وتجمع شملهم لئلا ينفرط عقدهم فتأويهم الحانات والمقاهي، ولم يكن في وقته شيء كهذا، بل قُبل اقتراح البعض بالرفض فوجد بعض الطلاب تلك الأماكن مأوًى لهم للأسف، ويفرِّق صاحبنا بين أخلاق باريس وإنجلترا، فأخلاق باريس صريحة واضحة وصادقة لا مكر فيها ولا دهاء، بخلاف إنجلترا التي يدَّعي أهلها -في نظره- الفضيلة والأخلاق بينما هم يفعلون كل الخبائث في تكتُّم شديد، ولو أن أحدهم افتضح أمره نبذوه لا لأنه ارتكب خطأً وإنما لأنه عجز عن ادِّعاء الفضيلة.
الفكرة من كتاب ذكريات باريس
رحل زكي مبارك إلى باريس في بعثة دراسية لخمس سنوات فكان يدوِّن يوميات منفصلة يمزج فيها الصورة بالوجدان، والفكر بما تبصره العينان؛ فنقل إلينا نبض باريس حيًّا من مدينة وسكان ومعالم وطباع ومشاهد ووقائع، كما نقل إلينا نبضه هو في تلك التجربة من أحاسيس ومشاعر وتعليقات ومقارنات.
إنها حبيبته، برغم كل ما فيها فهي حبيبته حتى قال عنها: “وستظل باريس قبلة روحي ما بقيت في النفس ذكرى ما لقيت عندهما من عطف ورعاية وحنان”، فما الذي جعل زكي مبارك يحب باريس كل ذلك الحب؟ وأي تجربة تلك التي بهرته رغم كل ما وُجِّه إليها من انتقادات؟ هذا هو ما تقوله لنا ذكرياته في باريس.
مؤلف كتاب ذكريات باريس
زكي مبارك: شاعر وناقد ومفكر وأديب مصري وُلد عام 1892 بمركز أشمون بالمنوفية، درس في الكتَّاب منذ طفولته وحصل على ثلاث درجات دكتوراه لاحقًا، وكان من أحد المشاركين في ثورة 1919م بأشعاره الحماسية، ثم عزف عن المشاركة السياسية لأسباب رآها وسافر إلى العراق فمُنح هناك “وسام الرافدين”، وتوفي عام 1952م تاركًا خلفه إرثًا أدبيًّا وفكريًّا مختلفًا ألوانه، ومنه:
“مدامع العشاق”.
“وحي بغداد”.
“ليلى المريضة في العراق”.
“النثر الفني في القرن الرابع”.
“الأسمار والأحاديث”.