العلم والفن
العلم والفن
إن العلم في حد ذاته ليس محل اتهام، لكن الأيديولوجيا الكامنة وراءه التي تقول إن المعرفة العلمية هي وحدها الممكنة وإنها وحدها تعني العلم، هي محل الاتهام والنقد، فعندما ننظر إلى الفن فهو نشاط من الحساسية، ثم ننظر إليه بمعيار العلم نجد أننا في مواجهة مع العدم، لأن العلم الحديث يُعرِّف نفسه باستبعاد هذه الحساسية، وبناءً على ذلك فإن الفن يجد نفسه أجنبيًّا عن العلم، كما يجد العلم نفسه غريبًا عن الفن، ومن ثمَّ فإن مجال العلم لا يتداخل ولو جزئيًّا مع مجال الفن الذي هو الحساسية والحياة، لأن الذي يجعل صورة فوتوغرافية ملتقطة بالمجهر جميلة هي قوانين علم الجمال للحساسية، وليست القوانين الرياضية أو الفيزيائية التي يسعى العالِم إلى فك شفرتها.
وبناءً على أن الفن لا يستطيع أن يشتغل إلا عبر الحساسية، فإن التوازنات والتناسبات في أي تصميم لا تجد نفسها في الصيغ الرياضية الجامدة، كما لا تجد نفسها خارج الفنان، بل داخله، ومن ثمَّ إذا كان الفن إعمالًا لقوى الحساسية داخل الفنان، فإن عالم الحياة لا يمكن فهمه إلا بها، فكل ثقافة لا بد أن تحتوي في داخلها على الفن واحدًا من أبعادها الماهوية، ومن ثمَّ يوجد فقط عالَم واحد هو عالم الحياة، بينما توجد سلوكيات محتملة حياله، كسلوك العِلم في تعطيل خواصه المحسوسة وعدم الاكتراث بها.
وتطبيقًا على ذلك، يوجد دير يُدعى “دير دافني” وهو معبد قديم شُيدت فيه كنيسة للفت أنظار الحجاج وجذبهم لاعتناق المسيحية، وبمرور الزمن احتاجت هذه الكنيسة إلى الترميم لتعود الحالة المادية لأثرها الفني إلى ما كانت عليه، وبالطبع فإن الأثر الفني يفسد إذا اختفى الحامل المادي له -الجدران والأعمدة- أو تلف تلفًا جسيمًا، إلا أن الأثر الفني في الواقع ليس ماديًّا، بل يتجاوز الحامل المادي، وقد أدى جهل المعرفة العلمية بالمكانة الوجودية للأثر الفني إلى الخلط بينه وبين ترميم الحامل المادي، وذلك للاعتقاد بأن الأول يتداخل مع الثاني، إلا أن الحاصل هو أن الأثر الفني الأصلي لا يعود موجودًا في حال تم تجديد الحامل وترميمه، وقد أدت الهمجية العلمية بأدواتها من أجهزة ومعدات إلى تدمير ما أنجزه الفنانون والحرفيون على مرّ القرون، لذا عندما تنظر إلى أثر فني أعيد ترميمه ولا تجد فيه الحياة، فهذا راجع إلى الهمجية العلمية التي هي عدو الحياة.
الفكرة من كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
يُبين المؤلف في هذا الكتاب أنه لأول مرة في التاريخ يحدث انفصال بين العلم والثقافة إلى حد الصراع في ما بينهما في معركة وجودية حتى الموت، فنحن نشهد في عصرنا الحالي انفجارًا علميًّا يقابله انهيار وتدمير للإنسان، كما نشهد تطورًا علميًّا يسير جنبًا إلى جنب مع تداعي الثقافة وأفولها، كأن انتصار العلم هو اندثار للثقافة. ومن ثمَّ يُنادي المؤلف في طول الكتاب وعرضه بفصل العِلم عن الأيديولوجيا المرافقة والمفسرة له، وهي الأيديولوجيا المادية الهمجية التي تختزل الكون في مجموعة موضوعية من الظواهر المادية، وتقتصر في تفسير الحياة على الطرائق الرياضية الفيزيائية.
مؤلف كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
ميشيل هنري : هو فيلسوف وروائي فرنسي، كما أنه كاتب ومفكر، وأحد روّاد علم الظواهر (الفينومينولوجيا)، وعلوم الاجتماع والسياسة والفن، وكان يعمل أستاذًا في جامعة (بول فاليري مونبلييه) في فرنسا، كما عمل بالتدريس في جامعات فرنسية وأجنبية عديدة، من مؤلفاته:
I Am the Truth: Toward a Philosophy of Christianity.
Seeing the Invisible: On Kandinsky.
Words of Christ.
Material Phenomenology (Perspectives in Continental Philosophy).
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.