كتاب ‎لا تصدق كل ما تفكر فيه

Book-Cover

كتاب ‎لا تصدق كل ما تفكر فيه (المؤلف: توماس كيدا)

فتاة تسير بالسيارة سارحة بخيالها في جدتها الحبيبة المتوفاة، في هذا الوقت نفسه سيارتها كادت أن تصطدم بأخرى، ولكن بسبب تفكير الفتاة في جدتها أدى ذلك إلى تأخرها لبضع ثوانٍ ومن ثم نجاتها. من هنا بدأت الفتاة الاستغراق في التفكير؛ إذ إنها اعتقدت أن روح جدتها كانت تراقبها، في الوقت نفسه وهي التي حفظتها من سوء وقوع الحادثة.

لماذا افترضت هذا الافتراض؟ يوجد الكثير والكثير من السيارات تمر الطريق كل يوم، وعلى حسب نظرية الاحتمالات حدوث الحوادث أمر متوقع وحدوث الاصطدامات الوشيكة أمر أيضًا متوقع، وهذا يدل على أن ما حدث لها هو أمرٌ طبيعيٌ، إذا لماذا اعتقدت الفتاة هذا؟

هذا ما يُسمى بالسلوك الخرافي؛ الخرافة هي الاعتقاد بأن شيئًا ما يؤثر في شيء آخر مع عدم وجود علاقة منطقية بين الشيئين، وعلى الأرجح يكون ما حدث ما هو إلا محض صدفة.

هناك لاعب كرة السلة قام بتنطيط الكرة ثلاث مرات قبل رميها رمية حرة وإصابة هدفه، فهو من الممكن يربط بين التصويب الناجح وعدد مرات تنطيط الكرة، لأنه أخذ إصابة الهدف دليلًا لخرافة مرات تنطيط الكرة، وهذا ما يجعله يقوم بتكوين طقوس للتصويب وسيقوم باستخدامها في كل مرة يريد فيها أن يحصل على النتيجة الأولى نفسها.

لماذا تتكون الخرافات؟

نحن كائنات تبحث عن السببية، لدينا الرغبة في تكوين الأنماط المختلفة من حولنا ومن ثم رؤية الأحداث العشوائية وكأنها تحدث بنظام محكم، وأن وراء هذه الأحداث أسبابًا واضحة وإن لم توجد هذه الأسباب سوف نضع لها نحن الأسباب ونصدق أنفسنا بأنها صحيحة، وبهذا نكون نحن المسيطرين على هذه المواقف.

كل ما كان الموقف يتسم بعدم اليقين وعدم إمكانية السيطرة عليه كلما زادت نسبة ظهور الخرافات من حوله. فمثلًا يؤدي عدم اليقين دورًا مهمًّا في الألعاب الرياضية، ولهذا نجد الشخصيات الرياضية بصورة عامة مشهورين بتكوين الخرافات.

التنبؤ بما لا يمكن التنبؤ به

نحن لدينا رغبة كبيرة في التنبؤ بالأمور، نريد أن نتنبأ بكل ما سيحدث لنا من زواج وعمل وسفر وغيره من الأمور، هذه الرغبة الشديدة تؤدي دورًا قويًّا في التصديق على قدراتنا في توقع الأشياء غير القابلة للتوقع، وهذا يجعلنا غير محايدين في التعامل مع التنبؤات؛ ننظر فقط للمرات التي أصاب فيها المدّعون، ونتجاهل المرات الكثيرة التي فشلت فيها هذه التنبؤات.

فعلى سبيل المثال إذا جاءت لك صديقتك تقنعك أنها ترى المستقبل في أحلامها، فقمت بتسجيل أحلامها على ورق ووجدت أن بالفعل عشرة بالمائة من أحلامها قد تحققت ولكن الباقي لم يتحقق، إذا قمت بسؤالها بعد فترة من الزمن على أحلامها؛ فعلى الأرجح ستتذكر فقط المرات التي أصاب حلمها الحقيقة وستنسى ما بقي من أحلامها التي لم تتحقق، وهذا ما يجعلها تصدق أن لها القدرة على معرفة المستقبل من خلال أحلامها. هذه الفكرة تُطبق على جميع أشكال النبوءات بشكل عام؛ فنحن نتذكر فقط المرات التي صادفت تلاقي الحقيقة مع النبوءة وننسى ما دون ذلك.

النبوءات تشعرنا بالسيطرة

نحن لا نحب الشك ونريد ان نشعر بأننا مسيطرون على كل ما حولنا، والنبوءات هي ما تحقق لنا هذا. هنا أنا لا أتحدث فقط عن التنجيم ولكن أيضًا توقعات حركة الأسهم والاقتصاد والطقس لفترات طويلة، فهذه أنظمة معقدة كل جزء منها يتكون من الآف أو ملايين المكونات وبين كل مكون ومكون آلاف وملايين التفاعلات المعقدة، ومن المستحيل عمليًّا معرفة نتيجة المتغيرات المتفاعلة بصورة مسبقة بناء على علم أو دراسة إلا إذا كان فقط هذا مجرد احتمال.

التأطير

تخيل لدينا موقفان؛ الموقف الأول: أنت قمت بشراء تذكرة حضور مباراة كرة قدم بمائة جنيه، ولكن عند وصولك الأستاد لاحظت بأن التذكرة قد فُقدت، هل ستدفع مائة جنيه أخرى لتشتري تذكرة أخرى أم لا؟

الموقف الثاني: يوم آخر ذهبت لتشتري تذكرة حضور المباراة؛ ولكنك عندما فتحت حافظتك وجدت أن هناك مائة جنيه مفقودة منك، هل ستشتري التذكرة حين ذاك أم لا؟

إجابة الناس عن هذين السؤالين مختلفة، ومشاعرهم اتجاه كل خسارة ليست متساوية.

لماذا قراراتنا ومشاعرنا تختلف مع أن الخسارة متساوية في الموقفين؟

الحسابات العقلية

الإجابة تكمن في أن عقلنا يتعامل مع المال من خلال ما يسمى بالحساب العقلي، في الحالة الأولى نضع المائة جنيه الأولى في حساب والمائة جنيه الثانية في الحساب العقلي نفسه، وستفكر حين ذاك بأنك ستدفع مائتي جنيه لتقوم بمشاهدة المباراة، أما في الحالة الثانية فستضع المائة الأولى والثانية في حسابين عقليين مختلفين، لذلك أغلب الناس ستميل إلى شراء التذكرة في الحالة الثانية وليست الحالة الأولى.

الإدراك بالحسابات العقلية مهم جدًّا لأنه يؤثر بشكل كبير في قراراتنا المالية- ركز على تصرفاتك المالية وستلاحظ هذا- لاحظ مثلًا تعاملك مع المال الورقي والمال في بطاقة الائتمان، وأيضًا تعاملك مع المال من مرتبك الشهري والمال الذي يأتي من المنح والمكاسب غير المتوقعة، مع أن في الحالتين هذا المال ملكك ولكنك ستصرف الأخير بطريقة أكثر تهورًا.

التغلب على المشكلة

أسهل طريقة للتغلب على هذه المشكلة وتجبر نفسك على أن تتعامل مع المال كله بطريقة متساوية أيًّا ما كان مصدره هي أن تضع كل هذا المال في حساب بنكي واحد قبل أن تصرفها، على سبيل المثال إذا فزت في إحدى المسابقات ضع المال الذي فزت به في الحساب البنكي نفسه الذي ينزل عليه راتبك، وبهذا ستكون أكثر تريثًا في طريقة صرفك لها.

الذكريات الكاذبة

إذا سمعت شخصًا ما يقول إن ذاكرته ضعيفة هنا هو يقصد بأنه غير قادر على تذكر أحداث الماضي في الوقت الحالي، أليس كذلك؟ نحن نتعامل مع الذكريات على أنها تُخزن في مكان ما ويتم استدعاؤها من المكان نفسه، وهنا هذا الشخص لا يستطيع استدعاءها من هذا المكان بكفاءة، لكن ذاكرتنا لا تعمل بهذه الطريقة، الذكرة ليست مخزن الماضي، ولكن هي إعادة بناء الماضي ومع مرور الوقت تجاربنا الجديدة تغير ذكرياتنا المُخزنة من قبل، وفي كل مرة نستدعي حدثًا ما حصل من قبل بهذا نعيد بناء الذكرى هذه، ومع توالي عمليات إعادة البناء فنحن نبتعد عن الحقيقة أكثر فأكثر.

مشكلة الخلط

عدم معرفتنا بالآلية هذه يوصلنا إلى خطأ شائع يسمى "الخلط".

نحن نخلط تجارب الماضي ببعضها بعضًا وبأحداث الحاضر، من الممكن نسب تعليقات شخص ما بشخص آخر، أو نعتقد بأننا فعلنا شيئًا ما في وقت محدد أو في مكان محدد في حين أننا فعلنا هذا في وقت آخر أو في مكان آخر.

ولهذا لا بدَّ ألا تكون واثقًا بدرجة كبيرة في ذاكرتك، هناك احتمال كبير بأن تكون على خطأ وأنت غير واعٍ بذلك.

الإدراك المتأخر السليم

قبل أي حدث يتكون لدينا شكوك، من الممكن أن يحدث بعضها والبعض الآخر لا يحدث، لكن بمجرد أن نعلم بالنتيجة ننسى كل هذه الشكوك عدا الذي اتفق مع النتيجة ونتذكره كأنه كان واضحًا طوال الوقت.

عندما ننسى كل الشكوك التي لم تحدث نحن نعيد هيكلة الماضي بصورة غير واعية بناءً على معرفتنا بالنتيجة التي حدثت بالفعل، وهذا ما يسمى بالإدراك المتأخر السليم. إذًا لماذا هذا الإدراك من المهم أن نكون على وعي به؟ لسبب بسيط وهو لأنه يؤثر في طريقة إصدار أحكامنا على الآخرين؛ فعلى سبيل المثال إذا خسرت حصتك في السوق أو تعرض عملك إلى خطر، في هذا الوقت ستحمل الشخص المسؤول النتيجة، وسترى أن كل الأدلة كانت تشير إلى ذلك، أنت غير المتخصص كنت على يقين من أن هذا كان سيحدث بالفعل كيف هو المسؤول والمتخصص اتخذ هذا القرار الخاطئ؟! في الحقيقة كان هناك الكثير من الشكوك الموجودة بالفعل قبل ظهور النتيجة، ولو كنت مكانه كان من الممكن أن تأخذ هذا القرار نفسه أو على الأغلب ستأخذ قرارًا أسوأ منه.

الثقة الزائدة

أخيرًا، مع كل هذه الأخطاء التي تحدث لنا فهذا أمر طبيعي أن نأخذ الكثير من القرارات الخاطئة، لكن لماذا لا نأخذ في الاعتبار هذه الأخطاء؟ الإجابة تكمن في ثقتنا الزائدة في أنفسنا وفي قدراتنا على إصدار الأحكام، نحن دائمًا نتذكر الأوقات التي حققنا فيها النجاح، وننسى تلك الأوقات التي وقعنا فيها في الفشل أو من الممكن نعيد تفسير فشلنا بطريقة تتسق مع اعتقادنا الإيجابي بشكل عام في قدراتنا مثل أن نلقي الاتهام على شخص آخر، لهذا نبالغ في تقدير معرفتنا وقدرتنا في جميع مجالات الحياة تقريبًا.

الأحكام الحدسية

وهذا يُترجم على أننا نرى أحكامنا الحدسية أنها شديدة الدقة وأكثر دقة من الاعتماد على البيانات الإحصائية مثلًا. فعلى سبيل المثال إذا أردت أن أتوقع مستقبلك - سأرى أنني إذا استخدمت حكمي الموضوعي- سيكون انطباعي عنك أو عن إجاباتك على ما طرحته عليك من أسئلة ستكون أكثر أهمية من درجاتك، وأنها ستتوقع درجة نجاحك المستقبلي. وهذا بالطبع غير صحيح. هناك الكثير من الدراسات تثبت بأن التنبؤ الإحصائي أدق من التنبؤ الحدسي، بما في ذلك التنبؤ بنجاح الطلاب في الحياة ومحاولات انتحار المرضى النفسيين والرضا الوظيفي وغيرهم.

الخلاصة، نحن نحتاج أن نتحلى بقدر معقول من التواضع في توقعاتنا مهما كنا على ثقة كبيرة بها.