كتاب وعاظ السلاطين

Book-Cover

كتاب وعاظ السلاطين (المؤلف: علي الوردي)

حوار بين رجل وذئب يأكل أغنامه

الرجل: أمسكت بك! ولكن سأتركك هذه ولن أؤذيك بشرط ألا تفعل ذلك ثانية.

الذئب: سأحاول سأحاول، والآن عليَّ الذهاب؛ فهناك قطيع من الأغنام عليَّ اللحاق به.

هذا المثال غير المنطقي عند التدقيق والتركيز فيه سنجد أنه يتكرر دائمًا في مجتمعنا، ونراه تقريبًا يوميًّا من خلال وجود شخص واعظ- والوعظ هنا لا يقتصر على الوعظ الديني فحسب، وإنما يشمل الوعظ الأخلاقي والقومي والوطني أيضًا- وهذا الشخص يرى ظاهرة اجتماعية أو نفسية خاطئة، ومن ثم يبدأ في إعطاء الآخرين المواعظ والنصائح.

إذ إنه يتعامل مع الآخرين كأنه يتعامل مع ملابس؛ فنحن عندما نرى ملابس غير نظيفة نعرف أنها تحتاج إلى غسيل حتى تصلح للاستعمال، كذلك عندما يرى هذا الشخص آخرَ يتصرف بشكل غير سليم؛ فإنه يحتاج إلى بعض التوجيهات والإرشادات التي ستساعده على التصرف بشكل صحيح.

وهذا غير مناسب؛ فالإنسان لا يملك طبيعته أو سلوكه فهما نتيجة الظروف الاجتماعية المحيطة جنبًا إلى جنب مع بعض العوامل النفسية الموجودة في البيئة الخاصة به.

فإذا استمريت في الوعظ والنصح ولو لقرن من الزمان فلن يستجيب طالما لم تغير العوامل النفسية والظروف الاجتماعية المحيطة، وحتى لو استجاب فذلك سوف يكون لفترة قصيرة جدًّا وبمجرد الانتهاء من الوعظ سينسى ما قلته قبل أن تغادر؛ كمثال الحوار بين الرجل والذئب في البداية.

انتشار الوعظ

وطالما هذه الطريقة فاشلة إلى هذا الحد؛ فلماذا هي منتشرة في مجتمعنا؟

الجواب هنا يرجع لسببين:

الأول: هو أن هذا الأسلوب مجاني وغير مكلف؛ فحل المشكلة هنا لا يتطلب تفكيرًا عميقًا أو حتى قدرات تحليلية، وإنما قدرات كلامية لا أكثر، وبعدها تشعر أنك قمت بواجبك على الوجه الأمثل؛ فصاحب المشكلة لا ينقصه سوى الاستجابة وتطبيق ما قلت وسوف تتقدم مجتمعاتنا بهذه الطريقة.

الثاني: أن هذا الأسلوب ينقذ بشكل ما الفاسدين. تخيل معي شخصًا يوعظ الناس ويقول لهم: "أنتم سبب هذا الفساد، هذا الفساد هو منكم أنتم، ويرجع إلى سوء أخلاقكم وأنتم من يستحق العقاب".

أليس هذا يثير إعجاب الشخص الفاسد الحقيقي؛ فهو وجد طريقة للإفلات من تحمل المسئولية.

عقلية التاجر

عادةً ما يقوم الناس بالمغالاة في النصح والتوجيه، وذلك لاعتقاد الواعظين أنه كلما كان مستوى الوعظ عاليًا، ازداد مكسبه من الطرف الآخر. 

فهو يتعامل بعقلية التاجر الذي يمتلك سلعة قيمتها الحقيقية على سبيل المثال 100 جنيه، ولكنه يعرضها بـ 200 جنيه حتى ولو اضطر في التفاوض إلى تخفيض السعر فقد يصل السعر إلى 150 جنيهًا؛ ففي هذه الحالة هو رابح أيضًا.

هذا الأسلوب يؤدي إلى نتائج عكسية منها على سبيل المثال العزوف عن سماع الوعظ والنصائح مع عدم الإكتراث لما يقال؛ وذلك بسبب اعتياد الناس على الوعظ المتكرر، مما يجعل عدم وجود مجال للتأثير أو وجود مجال للتأثير، ولكن لا يوجد تغيير.

ويؤدي ذلك إلى صراع نفسي فيصبح الشخص بوجهين، وجه مقتنع بكلام نظري منمق (الوعظ)، ووجه عملي يتماشى مع الرغبات والمصالح.

ويسبب فشله في تطبيق هذا الوعظ على نفسه يتحول من شخص يوجه له الوعظ إلى شخص واعظ. طالما أنه فشل في إصلاح نفسه سيوجه هو النصح للآخرين ليصلحوا أنفسهم؛ فهو يمتلك مبررات تعيقه من الإصلاح أما هم- باقي الناس- فلا يمتلكون أعذارًا أو مبررات، مما يؤدي إلى انتشار الهوس الوعظي في المجتمع؛ فالكل يعظ وينصح ولا أحد يطبق!

الإحساس بالتقصير

فالكل يتحدث عن الأمانة والصدق والنزاهة، ولكن عند التعامل المباشر مع الناس والاختلاط والتعامل مع أمور الحياة المختلفة نكتشف أن هذا كله ما هو إلا حيل كي لا يشعر هؤلاء الواعظون بالتقصير، وهم في حقيقة الأمر يتصرفون عكس كلامهم تمامًا.

ولكن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد بل كلما زاد الوعظ زاد الإحساس بالتقصير، وكلما زاد هذا الإحساس زادت الانتقادات والبحث عن عيوب الناس، مما يجعلهم متصيدين للعيوب والنواقص، وهذا يجعلهم دومًا مراقبين لحياة الغير؛ فالهدف من الوعظ والنصح قد تحول من المساعدة إلى مجرد الرغبة في عدم الشعور بالتقصير فقط.

إصلاح المجتمع

عملية إصلاح المجتمع ليست بالردع أو الوعظ، فالإنسان لا يتغير بسببهما.

إنما يكون التغيير الحقيقي من خلال البيئة المحيطة، وهذه البيئة تشمل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية

وينتج عنها الأخلاق، بمعنى أن البيئة هي سبب الأخلاق؛ فالمشكلة ليست في الناس ولكن في ظروفهم.

مثال:

إذا قمنا بالتجربة على شخصين مختلفين؛ شخص يعيش في بيئة جيدة، والآخر يعيش في بيئة سيئة؛ فإذا نُقل الشخص الأول إلى بيئة سيئة وترعرع فيها سوف يكبر بأخلاق وصفات سيئة من خلال ما اكتسبه من بيئته وتأثره بالآخرين الذي أصبح يشبههم، وينطبق هذا تمامًا على الشخص الآخر أيضًا.

بيت القصيد هو تحسين البيئة فبدون تحسينها لن يتحسن السلوك والضغط على الناس باستمرار، والنصح الزائد لن يجدي نفعًا.