البجعة السوداء: تداعيات الأحداث غير متوقعة

Book-Cover

مقدمة

لو قلتلك يا صديقي إن في حد عرف يشوف حلمة ودنه من غير مراية هتصدقني؟ أو إن حد عرف يجيب  لبن العصفور بجد مثلا؟ 

استنى متضحكش على السؤال قبل ما تعرف إن الناس في أوروبا قعدوا فترة طويلة متأكدين إن البجع لونه أبيض وبس، لدرجة إنهم لما يحبوا يعبروا عن حاجه مستحيل تحصل بيقولوا لما تبقى تشوف بجعة سودة، زينا كده لما بنقول لما تشوف حلمة ودنك.

 لحد سنة 1697م لما الهولنديين كانوا بيستكشفوا أستراليا ونازلين من السفينة بقى وبلد جديدة، يبصوا يلاقوا بجع أسود، ايه يا جدعان الهزار البايخ ده مين اللي لوّن البجع، مش كان أبيض بس، لا لا أكيد في حاجة غلط وريني كده البجعاية دي بتقول ايه؟ ده طلع بجع أسود فعلا، طب والكتب اللي اتألفت والناس اللي فاكرة البجع أبيض وبس، نقولهم ولا نخبي عنهم؟

ومن هنا اتغيرت دلالة الكلمة خالص وبقت تتقال عالأحداث الغير متوقعة اللي بتحصل بالفعل، وبقى في نظرية اسمها نظرية البجعة السوداء واللي ممكن يندرج تحتها أحداث كبيرة غير متوقعة زي أزمة اقتصادية، أو زي ورث كبير من جوز عمة مجهول الهوية ظهر فجأة، بس يا ترى الأحداث الغير متوقعة دي بتكون غير متوقعة فعلا؟ ولا بتكون نتيجة تصرفات احنا بنعملها؟ وايه المغالطات المنطقية اللي خلت الناس تنبهر بوجود بجع إسود؟ وهل في طريقة نقدر نقلل بيها من تأثير الأحداث الغير متوقعة على حياتنا؟ 

نرجع بقى للبجع الأسود...

البجعة السوداء بين وهدائستان وغلوائستان

بس الأول هل كل الأحداث الغير متوقعة يتقال عليها بجع إسود؟ قالك لأ

لازم  الحدث ده يكون فيه 3 صفات: نادر جدا، وتأثيره كبير جدا، ونعرف نفسره بعد حدوثه. والبجع الأسود نوعين: بجع أسود إيجابي زي ترقية غير متوقعة في الشغل أو فرصة مفاجأة للسفر، وفي كمان بجع أسود سلبي زي الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية والحروب.

والسؤال بقى هل احنا نقدر نتحكم في الموضوع ونمنع البجع الأسود من الظهور؟

نمنعه خالص لأ، لكن نقدر نقلل من احتمال ظهوره. طب ازاي؟ عن طريق إننا ندرك أخطاء التفكير اللي بنعملها وبتزود احتمالية ظهور البجع الأسود، وبتخلينا شبه اللي بيعدي شارع مليان عربيات رايح جاي وهو مغمض عينه ومتوقع إنه يوصل سليم!

وأول حاجة تعملها عشان تبقى مفتح عينك صح وأنت بتعدي الشارع هو إنك تعرف نوع العالم اللي بتنتمي ليه، واحنا عندنا عالمين الكاتب بيسميهم وهدائستان وغلوائستان:

-  وهدائستان ده تعبير عن عالم مثالي منتظم. 

-  وغلوائستان وده عالم عشوائي غير قابل للتوقع.

وعلشان تعرف الفرق ركز معايا في المثال ده.

لو اخترنا 3 أشخاص بشكل عشوائي وقلتلك إن مجموع وزنهم 200 كيلو جرام، تتوقع التقسيمة هتكون عاملة ازاي؟

طبعا في احتمالات كتير جدا بس كلها هتبقى قريبة من بعض مهما زاد الفرق بينهم، 70 75 55، اقعد غيّر براحتك بس بشرط يبقى الاحتمال منطقي يعني متطلعش واحد وزنه 20 كيلو مثلا، ولو حطيت واحد كمان معاهم هتلاقي نسبة كل واحد من المجموع مزدتش أوي، دي المعلومات المنتمية للعالم المنتظم، الفروقات ما بينها قليلة وأي تغيير فيها بيبقى صغير وقابل للتنبؤ مهما زودنا في عددهم، ممكن تبقى معلومات عن عمرك بقى أو وزنك أو طولك.

أما العالم العشوائي فهو العكس، الفروقات ما بين المعلومات كبيرة وأي حد ممكن يغير نسبة المجموع لكل واحد، زي الفلوس مثلا، لو قلتلك ال 3 دول معاهم مليون جنيه، فهتلاقي النسبة متوزعة على واحد غني جدا واتنين فقراء مثلا، وكمان لو ضفت عليهم واحد غني كمان هتلاقي نسبة كل واحد في المجموع اتغيرت.

تفتكر احنا بنعيش في أي عالم من العالمين؟ أيوة بالظبط العالم العشوائي الغير قابل للتوقع، ومشكلتنا هي إننا بنتعامل كإننا عايشين في العالم المنتظم اللي كل شيء فيه متوقع، وطول ما ده بيحصل هتفضل تعدي الشارع وانت مغمض عينيك! بمعنى إنك بترتكب أخطاء في التعامل  مع المعلومات اللي جيالك من العالم بتاعك.

وخلينا نقسم الأخطاء دي ل3 أنواع حسب زمن حدوثها ماضي ولا حاضر ولا مستقبل، وهنبدأ بأخطاءنا في تحليل أحداث ومعلومات الماضي.

كيف نتعامل مع الماضي؟

لما بنتعامل مع الماضي عقلنا بيقع في مشكلة اسمها ثلاثية الإبهام والغموض، ودي مكونة من 3 أجزاء:

- أول جزء هو وهم المعرفة، وهي إننا بنفتكر  إن احنا فاهمين وعارفين كل حاجة وإن الأمور تحت السيطرة.

- وتاني جزء هو التحوير عند استراجع الأحداث، يعني بعد أما يحصل الحدث يقولك ااااه ده اللي كنت متوقعه وعامل حسابه وتبدأ تحطله بهارات من عندك.

- أما تالت جزء هو المبالغة في التقييم، سواء في الحلو أو في الوحش.

 نيجي نشوف أمثلة بقى عالأخطاء اللي الموضوع ده بيوقعنا فيها:

-  الخطأ الأول هو الميل للرواية، لو حصل حدث انت مش قادر تفسره وسببلك ألم نفسي فهتحاول تحطه جوا قصة بحيث تخلي الحدث ده وكإنه شيء حتمي وانت ملكش تدخل فيه، طب وده بيزود البجع الأسود ازاي؟ إن دايما الأحداث المفاجأة هتعاملها كحاجة حتمية ومش هتتحمل جزءك من المسؤولية وبالتالي مش هتعرف تستعد إنها ممكن تيجي تاني بردو.

- أما الخطأ التاني فهو يجب أن يكون هناك سبب ما، أي حدث حصل لازم تدور على أسبابه حتى لو هتخلق أسباب وهمية، زي ما حصل في تجربة جابوا فيها ست وعرضوا عليها 12 شراب أبيض وقالولها اختاري 3 شرابات منهم، ولما اختارت قالوا اشمعنا بقى الشراب داااااه، فكانت الإجابات متنوعة ما بين حاسة إن لونه مش مريح أو ملمسه خشن أو مش من نفس القماشة، مع إن سبحان الله ال 12 شراب متطابقين، وده طبعا عكس البجع الاسود اللي زي ما قلنا بيظهر دايما بدون أسباب منطقية.

- الخطأ التالت بقى هو التبسيط والاختزال، زي إني أقولك كان ممكن الحرب العالمية التانية متحصلش لو هتلر اتقبل في كلية الفنون الجميلة، ايه ده بس كده؟ اه أومال انت فاكر ايه يعني. طب والمجانين اللي مسكوا العالم من بعده وكملوا حروب؟ بالظبط كده بجع اسود تاني أهو.

- آخر خطأ معانا في الماضي هو الدليل الصامت أو الانحياز للأحياء، خليني أسألك سؤال علشان توصلك، تعرف كام واحد سافر برة ونجح؟ هتبدأ تعدلي في أسماء، طب تعرف كام واحد سافر برة وفشل؟ مع إنه نفس الفعل بس دايما النجاح صوته أعلى والغرقى والفاشلون محدش مهتم بيهم ولا حد عايز يعرف هما عملوا ايه، فلو عملت كل اللي الناجحين قالوه هتبقى متأكد إنك هتنجح وهيبقى الفشل اللي من الطبيعي إنه يحصل بردو هو البجعة السودة.

النظر إلى الحاضر

خلصنا بقى من الماضي فتعالى للحاضر، في أخطاء بنعملها وقت حدوث الحدث نفسه واحنا جواه مش واحنا بنحلله:

- أول خطأ هو الانحياز التأكيدي، بختار المعلومات والأحداث اللي بتثبت صحة وجهة نظري وبتجاهل الباقي، زي ما الهولنديين شكّوا إن البجع الأسود ده بجع أصلا!

- أما الخطأ التاني فهو الاستقراء، محاولة الوصول لحكم بناء على معلومات الماضي بس، زي ما فرنسا عملت بعد الحرب العالمية الأولى ما خلصت، بَنت سور كبير ناحية الغرب علشان ألمانيا متكررش الهجوم عليها، بس في الحرب العالمية التانية ألمانيا لفّت من ورا السور أصلا.

- الخطأ التالت بقى في التعامل مع الحاضر هو التعميم، ما نراه هو كل الموجود، أنا بشوف بجع أبيض يبقى كل البجع أبيض، كل الرجالة خاينين، كل البطولات هيكسبها الأهلي، وهكذا..

- وأخيرا خطأ التخندق، وهنا باخد الأخبار والمعرفة والمعلومات من مصادر معينة بس، زي التوقعات الرسمية لخبراء الاقتصاد، المعتمدة على نماذج رياضية محددة قاصرة.

 التنبؤ بالمستقبل

هتقولي بس على فكرة بقى العلم دلوقتي اتقدم جدا وبقى عندنا قدرة كبيرة على التنبؤ بالمستقبل والأخطاء اللي انت قلت عليها دي كلها هتقل! اه.. لا ده عمنا نسيم طالب هيزعل منك اوي، طيب اسمع كده القصة دي 

 كان في شركة طيران أمريكية كبيرة جدا اسمها بان أمريكان ban American، في السيتينات أعلنت عن فتح باب الحجز قدام الناس لرحلات ذهاب وعودة للقمر، وكان خبراءها متوقعين إن الرحلات تبدأ من سنة 2000، تفتكر لمّوا كام واحد؟ 92 ألف تقريبا!.. بس طبعا الشركة خسرت وقفلت سنة 1991م، ولحد دلوقتي مفيش رحلات رايح جاي للقمر متاحة للناس عادي.

ومش كده وبس لأ، ده حتى أهم الاختراعات البشرية كانت نتيجة الصدفة، زي الكمبيوتر والانترنت و أشعة الليزر وحتى البنسلين اللي كان نتيجة تحضير بكتيريا لتجارب عادية، ده حتى أمريكا يا راجل اكتشفوها وهما بيحاولوا يلاقوا طريق جديد للهند!

انا بقولك كده ليه؟ علشان أوضحلك حجم الغرور اللي عندنا لما بنتعامل مع العلم والمستقبل، في فرق كبير ما بين الحاجات اللي احنا نعرفها، واللي احنا فاكرين إننا نعرفها، وفرق أكبر بين ثقتنا في علمنا، وجهلنا،(نرسم bars جنب بعض بتوضح حجم ال4 حاجات، الأحجام تصاعديا من الأول للآخر) ورغم كل ده بيتصرف الخبراء المتخصصين في كل مجال من العلوم بعجرفة معرفية شديدة، وبيدعوا قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل.

والظريف بقى إن في دراسة  اسمها تيتلوك جمعوا 300 خبير في مجالات السياسة والاقتصاد واطلب منهم يتوقعوا بعض الأحداث المستقبلية في مجالاتهم ل5 سنين قدام، وجمعّوا حوالي 72 ألف توقع، بس والمفاجأة إن التوقعات الغلط كانت أضعاف التوقعات الصحيحة، لأ وكمان لو كان الخبير عنده دكتوراه في مجاله فتوقعه كان بيقى أسوأ من الخبير الصحفي العادي!

وده يخلينا نسأل طب هم الخبراء في أي مجال ازاي أصلا بيتنبؤوا بالمستقبل؟

عن طريق نماذج رياضية، وهنا بيرتكبوا غلطة كبيرة جدا، فاكر تقسيمة البيانات والمعلومات بتاعت وهدائستان وغلوائستان؟ العالم المنتظم المثالي والعالم العشوائي الغير متوقع؟ الأحداث المهمة والمؤثرة بتنتمي للمكان العشوائي ومن الصعب جدا وأحيانا من المستحيل التنبؤ بيها بدقة عن طريق النماذج الرياضية، بس الخبراء بيقعوا في المغالطة اللُودِّية، وايه المغالطة اللودية دي كمان؟! يعني بيحبسوا نفسهم جوا المعادلات الرياضية وبيحاولوا يفهموا ويتوقعوا منها مشكلات الواقع.

هتقولي مهما بيعرفوا يتنبؤوا بالاختراعات، وهنا نسيم طالب بيقولك ماشي بس مش بيبقى تنبؤ من الصفر، يعني علشان تتنبأ باختراع جديد لازم يبقى معاك على الأقل خالص مكوناته الأساسية وتصور أولي عنه وساعتها هو معادش تنبؤ برده.

العجز أمام التنبؤ

طب يعني نعمل ايه بعد ما عرفنا ده كله؟ نبطل نتنبأ خالص؟

لا طبعا يا صديقي، التنبؤ على المدى القصير ممكن جدا يكون صح ومفيد زي مثلا التنبؤ بالطقس، بس مهم جدا تحط كل الاحتمالات في حسابك، مش بس المبنية على معلوماتك لا المعلومات الخفية كمان، وتتقبل إنه وارد جدا تقابل أخطاء لما تجرب أي حاجة جديدة. 

ده كده بالنسبة للبجع الأسود السلبي، طب والبجع الاسود الإيجابي؟ ايه المشكلة لما أتمنى أكسب فلوس كتير مرة واحدة أو أترقى في مكان كويس؟ مفيش مشكلة طبعا، بس متستناش من بجعة سودة إيجابية تعوضك على كل الأحداث المؤلمة والمعاناة اللي حصلتك، لإن الدراسات أثبتت إن السعادة بتزيد من التعدد مش من الحجم، يعني لو كسبت مرة بعد 9 خسارات، هتفرح أقل من لو كسبت 3 مرات بس متوزعين، حتى لو المرة اللي انت كسبتها أكبر من مجموع ال 3 مرات المتوزعين.

أما بقى في نظريات العلم، فاحنا مفروض نسمع كلام الحج بوبر، اللي عمل قاعدة وسماها الدحض، وقالك المفروض إننا لما نعمل نظرية ندور بعدها على حاجة تنقضها مش حاجة تأكدها، وده الطريق الوحيد لتصحيح المعرفة اللي معانا.

التعادل مع البجعة السوداء

في الآخر بقى بعد ما فهمنا الأخطاء اللي بنقع فيها لما بنتعامل مع المعلومات سواء الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ازاي نقلل من تأثير البجعة السوداء على حياتنا؟

1- أول حاجة إنك تتوقع بس على المدى القصير، وتحط عدد كبير من الاحتمالات وتستعد ليها، وبلاش التوقعات بتاعت 10 سنين قدام دي.

2- تاني حاجة بقى زوّد فرص ظهور البجعة السوداء الإيجابية، لإن فرص أكتر = حظوظ أكتر، عن طريق تكبير شبكة علاقاتك الاجتماعية، وإنك تاخد زمام المبادرة متبقاش رد فعل للأحداث اللي بتحصلك.

3- أما تالت حاجة فلو هتاخد قرار بالمخاطرة في أي مجال، فبلاش تحط مجهود كبير أو تستثمر فلوس كتير، كفاية 15% بس، وحط أكبر مجهودك وفلوسك في المجالات الآمنة.

وأخيرا إنك تمنع البجعة السودة من الظهور ده مستحيل، بس اللي في ايديك تعمله هو التهيؤ النفسي لظهورها، والإيمان بالقضاء والقدر وإن كل حدث بيحصل ده ابتلاء، والإنسان مش هيعرف يتحكم في كل حاجة، وطول ما هو فاكر نفسه كده هيزيد عدد البجع الاسود اللي بينط في وشه.

في اقتباس كده بيقول " لست ممن يهرولون خلف القطارات"، كل ما هتجري ورا النجاح والسيطرة على حياتك كل ما هيزيد ألمك من أي حدث يحصلك، عشان كده نسيم طالب بيقولك خليك زي الراجل الطيب اللي كان عايز ياكل عنب من فوق شجرة طويلة، بس لما معرفش يوصل للعنب، قال أصلا عادي، ده أكيد طعمه وحش، أنا رايح آكل تفاح، وبس كده سلام.