لا بأس إن لم تكن بخير

Book-Cover

 

مقدمة

كلنا نعرف شعور الفقد ولو بنسبة ما، فالحياة والحب يحتمان علينا هذه التجربة، أن نجد أنفسنا في يوم من الأيام فاقدين عزيزًا علينا أو أقرب شخص إلينا لصالح الموت. 

ربما تسمعني الآن بعدما تحققت أسوأ كوابيسك، وبداخلك مئة سؤال لا تجد لهم جوابًا، كيف أتجاوز الأمر؟ كيف أتقبله؟ هل ستمر الأيام؟ هل يختفي الألم؟ ماذا أفعل؟ 

تجيبنا ميجان ديڤاين || Megan Devine عن هذه الأسئلة وأكثر في كتابها "لا بأس إن لم تكن بخير: مواجهة الحزن والفقد في ثقافة لا تفهم" من خلال خبرتها ومعرفتها بصفتها معالجة نفسية بعد تجربتها المريرة مع الحزن والفقد بصفتها أرملة. 

١- أيام الفقد الأولى

دعنا نبدأ من الأيام الأولى بعد موت شخص تحبه، ربما لا توجد كلمات كافية في اللغة تصف كم يكون الوضع مفجعًا وقتها، في لحظة تجد الدنيا تتبدل من حولك، كأن السماء انطبقت على الأرض ولم ينتبه أحد، الناس يتحركون من دون أرض تحتهم، وأنت تُدفَع وسطهم، وها أنت ذا تمشي، تارة على الأرض، وتارة على السماء، تبحث عن مخرج لكنك لا تجد، كل شيء حولك يذكرك بمن مضى، وما كان يمكن أن يكون، الألم والحزن والغضب يحاصرونك من كل ناحية، وعقلك يكرر عليك اللحظة التي تغير بعدها كل شيء، كأنك تبحث عن ثغرة في القصة، كأنك تحاول أن تخلق نهاية بديلة، نهاية لا موت فيها ولا ألم ولا خسارة. 

صحيح أن من يحبونك يساندونك، حتى وهم لا يرون أن الأرض أصبحت السماء والسماء أصبحت الأرض، يحاولون أن يهونوا عليك بكل الطرائق، لكن لا شيء مما يقولونه يريحك، على العكس، في الغالب سيضايقك كلامهم أكثر، كلام مثل: "لقد عشت معهم أيامًا جميلة، احمد الله!"، و"ستتجاوز وتصبح أفضل"، أو "إنه درس لتشعر بالنعم التي تغمرك"، أو "عوضك الله بطفل! ما زلتما شابّين بصحتكما". كلام يوحي بأن تتجاوز الأمر سريعًا، وأن لا داعي إلى كل هذا الحزن، كل شيء يمكن أن يُصلَح، وربما يحمل هذا الكلام معنى أنك كنت بحاجة إلى ما حدث لتتعلم درسًا كبيرًا، لأنك من دونه لم تكن لتتعلم، لذا أنت تستحق!

هذا الكلام ليس فقط قاسيًا ومهينًا، بل إنه يشعرك كم أنت وحيد في هذه الفترة، وأن لا أحد قادر على فهمك، حتى من يحبونك، فتضطر أن تنفرد بنفسك وتخفي الألم داخلك.

بالإضافة إلى أنك ستجدهم دائمًا يحاولون الضغط عليك لتتجاوز وترجع إلى حياتك العادية، لأن ألمك لا يريحهم، ولأن هذه هي النهاية الوحيدة التي يعرفونها لقصة كهذه من خلال الأفلام والروايات والمسلسلات وحتى الشخصيات المؤثرة، يجب أن يتغلب البطل على كل شيء، سواء كان مرضًا أم إعاقة حركية، أم حتى الموت، حتمًا سينتصر البطل ويرجع إلى حياته العادية ويصلح كل شيء، ليس هذا فحسب، بل سيبني حياة أحسن وأنجح، ويطور من شخصيته ويتعلم الألمانية والبرمجة، وهكذا تنتهي الحكاية.

هذه ثقافة عامة لم يسلم منها حتى المتخصصون، الذين يرون أن فترة الحداد "الطبيعية" ستة أشهر فقط، ويحددون لها مراحل معينة سمعنا بها جميعًا، وهي: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، وأخيرًا التقبل، وبعده ترجع إلى حياتك الطبيعية، وأي شيء يخرج عن هذا الشكل يعدونه مشكلة تستدعي العلاج النفسي.

٢- بعبع الألم

مقصد هذه الثقافة أن تساعدك، هذا حقيقي، لكنها تتجه إلى الاتجاه الخطأ تمامًا، لماذا؟ لأننا خوافون، نعم، البشر لا يخافون شيئًا بقدر خوفهم الألم، لدرجة أننا نخاف حتى أن نرى غيرنا يتألم، لذا نحاول أن نواسيه بكل الطرائق الممكنة، نقول له انظر إلى المستقبل، ما زالت أمامك حياة جميلة لتعيشها، أو انظر إلى الماضي، لقد عشت مع من خسرته أيامًا كثيرة جميلة وصنعت ذكريات جميلة، أو أنت تحتاج أن تفكر بإيجابية أكثر، ألا تعرف أن تفكيرك يجذب واقعك فعلًا؟

بالتأكيد سمعتَ كثيرًا من هذا الكلام، لكني أعرف أنه يوجد كلام أصعب منه بمراحل، كلام غير مراعٍ لمشاعرك تمامًا، لكنه يتخفى وراءه خوف عميق من الألم، الفرق أن الخوف يتحول إلى مهاجمة لك، فتجد أحدهم يقول لك: "كان من المفترض ألا توافق أن يسبح ابنك في هذا المكان الخطر"، أو "لم يكن هنالك داعٍ إلى أن تسوق المرحومة بهذه السرعة"، كلام مليء باللوم، يلومك أو يلوم من مات، ليطمئن نفسه، لأنك ذكرته بأن الموت والألم قريبان جدًّا، وأنه يمكن في أي لحظة أن يكون مكانك، أو مكان من مات، فيقول لنفسه "هذه الأشياء لن تحدث لي أبدًا؛ أنا لست متهورًا ولا غبيًّا، لن أسوق بسرعة ولن أسمح لابني أن يسبح في بحر كهذا، أنا في أمان، ومن أحبهم في أمان".

٣- حقيقة الألم

الحقيقة أن هذا الخوف يمنعنا من أشياء كثيرة جدًّا، يمنعنا من أن يفهم بعضنا بعضًا ويساند بعضنا بعضًا، والأهم أنه يمنعنا من أن نشعر.

دعني أبدأ أنا وأكسر هذا الخوف، فالحقيقة المؤلمة التي لا يقدر أحد على أن ينطقها، هي أن الوضع سيئ فعلًا كما تتخيل، وعلى عكس كل ما يقال لك، أنت لن تتجاوز هذا، لن ترجع إلى حياتك العادية، لن تنسى، والوقت لن يشفي جرحك، والحزن لن يختفي، ولا الألم سيُشفى، ما أنت فيه لن ينصلح، لأنه أصلًا ليس مشكلة، ليس مرضًا، إنه رد فعل طبيعي من عقلك وجسمك للموت أو الحادثة الأليمة التي مررت بها، مثله مثل أي رد فعل على أي شيء نمر به في الحياة، سواء كان حلوًا أم مرًّا.

إنه شعور ضروري في تجربتك الإنسانية، لا تستطيع أن تتخلى عنه لأنه جزء منك، فلو أنكرته أو حاولت أن تكبته، فلن يختفي، بل سيرجع إليك في صورة اضطرابات نفسية كبيرة كالاكتئاب والقلق المزمن، وحتى محاولتك أن تغلفه بمعنًى ما لتستطيع أن تقبله ليست مضمونة، فستقول مثلًا إنه يوجد درس أو عبرة وراء هذا الألم، درس يجب أن تبحث عنه وتتعلمه وتفهمه لتحزن بشكل صحيح على من مات، وحتى لا يكون قد مات بلا جدوى، أترى قسوة الادعاء على نفسك؟ لو حدث واستطاع أحد أن يخرج من هذه التجربة بحكمة أو تطور في الشخصية فعلًا فهذا شيء جميل، لكن هذا سيكون نتاج جهده، وليس نتيجة حتمية للألم يجب أن يمر بها كل شخص يمر بالظروف نفسها.

فلا سبيل للألم غير أن نتقبله، وهذا لا يعني أننا سنعيش حياة مؤلمة تعيسة، لكن دعنا نقُل إنها ستكون حياة من دون النهايات السعيدة التي نسمعها في القصص، صحيح ستوجد السعادة، لكنها ستكون داخل الألم والحزن والخسارة، داخل حياة جديدة خلقها هذا الحادث.

أعرف أنه ليس سهلًا أن نتقبل الألم ولا الحزن، ليس سهلًا أن نسلم لهما أنفسنا وحياتنا، لكنك لا تحتاج إلى أكثر من أن تسمح لهما بالوجود دون مقاومة أو هرب أو محاولة للسيطرة عليهما، اشعر فقط، ويمكن وقتها أن تستطيع أن تلمس الجمال الموجود فيهما، وتصل إلى أنقى صورة من صورهما، التي هي الحب، حبك للشخص الذي مات، وحبك لنفسك، وحبك لحياتك التي كنت تعيشها والتي كنت ترسمها للمستقبل. 

إن استطعنا فعلًا أن نغير نظرتنا إلى الألم بهذا الشكل فسنقدر على تخفيف حدته، ونقلل معاناتنا في المستقبل.

٤- ما الذي يحدث داخلي؟

ولكن قبل أن أخبرك كيف نفعل هذا، سأحاول أن أشرح لك كيف يكون شكل فترة الحداد داخلنا.

مبدئيًّا العقل لا يكون فاهمًا ما يحدث، ما معنى أن الشخص الذي أحبه مات؟ أو ما معنى أني خسرت رجلي في حادثة؟ العقل لا يكون قادرًا على أن يتفهم الموقف، لأن العادي أنه عندما نتعرض لموقف جديد، يحاول عقلنا أن يفهمه من خلال تحليله وربطه بأشياء قديمة مخزونة بداخله، لكن في هذا الموقف لن يجد عقلك روابط قديمة يفهم من خلالها، لأن كل ما يعرفه وكل المعلومات التي يملكها، تكون عن حياة يشاركك فيها الشخص الذي مات، فأن تقول له إنه لم يعد موجودًا، هذا شيء غريب بالنسبة إليه، لأن بقية المعلومات القديمة المخزونة بداخله تقول له غير ذلك، فالحدث يظل عالقًا نوعًا ما، والعقل لا يستطيع أن يفسره.

سيحاول عقلك بعدها أن يبسط الأمر ليفهمه، من خلال أن يكرر عليك مشهد الموت أو الطريقة التي وصل إليك بها الخبر، أو يوظفها في الأحلام سواء بشكل مباشر أم من خلال رموز، لكن في كل الأحوال لا تحتاج أن تبحث في هذه الأحلام، يكفيك أن تلاحظها وتفهمها ليس أكثر.

وبالطبع تسبب هذه العملية تراجعًا في الذاكرة والتركيز، وهذا طبيعي وقتها، لا تقلق، كما أن الدراسات أثبتت أنه عندما نخسر شخصًا قريبًا منا، يتغير البايوكيمستري الخاص بنا، يؤثر في ضغط الدم، والنوم، والشهية، والهضم، وضربات القلب، مما يزيد معاناتنا.

كما أن القلق بشكل عام طبيعي مع الحوادث والصدمات مثل هذه، لأنك تكتشف أنك لست في أمان، أنت وأحباؤك في خطر في كل لحظة، ولن تقدر على أن تطمئن نفسك وقتها وتقول هذا مجرد خيال في دماغي، لأنك فعليًّا رأيت الخطر يتحقق. 

ولكنك تستطيع أن تهدئ نفسك وقت نوبات القلق عن طريق تمارين التنفس، حاول أن تركز على نفسك لدقائق وتطيل الزفير، وستجد أن أعصابك تهدأ، وبعدما تهدأ أكد لنفسك أنك بخير، صحيح أن الدنيا ليست أمانًا، لكنها أيضًا ليست خطرًا، أنت بخير، وإن حدث أي شيء ستستطيع أن تتصرف وقتها.

٥- كيف أتخلص من الألم؟

نحن عمومًا نحاول أن نسيطر على المعاناة، لأننا لا نستطيع أن نقلل الألم ولا الحزن، كل ما نقدر عليه أن نخفف المعاناة التي تقبع داخلهما، وسنفعل هذا من خلال خمسة محاور، أول شيء أن نشعر، دعنا نقل إن ألمنا محبوس داخل صندوق صغير في غرفة واسعة، فكيف نستطيع أن نخففه ونحن لا نعرف حجمه الحقيقي؟ ألا ينبغي أن نفتح الصندوق ونعطي الألم مساحته الحقيقية؟ أم سنظل نخفيه؟ ربما تكون الخطوة الأشجع في هذه الرحلة هي أن نفتح الصندوق دون خوف مما بداخله، ونحن نعرف أنه في كل الأحوال سيملأ علينا الغرفة، لكن وقتها سنستطيع أن نعمل في بقية المحاور.

أنت لا تحتاج أن تحجم الألم في صندوق لتتخطاه، أنت تحتاج أن تفهمه لتتعلم كيف تعيش معه، ابدأ بأن تعبر عنه بطريقة صحية، بشكل إبداعي يجعلك قادرًا على أن تلمسه وتجسده بشكل أفضل، يمكن مثلًا أن تكتب عنه، إذ ثبت علميًّا أن الكتابة من 10 دقائق إلى 15 دقيقة تستطيع أن تقلل التوتر وتحسن المزاج، اضبط المؤقت على عشر دقائق فقط واكتب عن أول ما يخطر ببالك، يمكن أن تكتب قصة، أو رسالة للشخص الذي خسرته أو حتى الموت نفسه، اكتب أي شيء تشعر به في هذه اللحظة، وبعدما ينتهي الوقت اكتب في جملًا بسيطة عما شعرت به وأنت تكتب وبعدما كتبت. إن شعرت بأن كلماتك تهرب منك ولا تستطيع أن تكتب، يمكن أن ترسم، أو تنحت، ولا تحتاج أبدًا أن تكون موهوبًا، جرب، فربما ترتاح لهذه الطريقة، تستطيع أيضًا أن تجمع صورًا من المجلات، أو تلتقط صورًا، أو حتى تطبخ، أي شيء ترتاح له نفسك وترى أنك تستطيع أن تحكي به عن نفسك سيؤدي الغرض.

وفي ما بعد ستجري تجربة لمدة أسبوع واحد فقط، تسجل ما تفعله خلال اليوم، أي كم ساعة نمت، ماذا أكلت، بم شعرت، مجرد ملاحظات بسيطة، ليس المطلوب منك كثيرًا، ومن ثم تحلل الأنماط التي سجلتها وترسم قائمة مقسومة نصفين، الأول للأشياء التي وجدت أنها تشعرك شعورًا أفضل ولو لدقيقة واحدة، وهذا النصف سترجع إليه في الأوقات التي يشتد فيها الألم، والنصف الثاني ستكتب فيه الأشياء التي وجدت أنها زادت من معاناتك لتتجنبها في ما بعد.

رابع شيء يمكن أن تفعله هو أن تتعلم كيف تشتت نفسك وقتما تحتاج إلى هذا، ففي أوقات كثيرة ستشعر بأن دماغك سينفجر من الألم والقلق والتوتر، أريد منك وقتها أن تشغل نفسك عما بداخلك وتنظر إلى العالم من حولك، وتوجد تمارين كثيرة تساعدك على هذا، أشهرها أن تقول بصوت عالٍ خمسة أشياء تقدر أن تراها، ثم أربعة أشياء تقدر أن تلمسها، وثلاثة أشياء تقدر أن تسمعها، وشيئين تقدر أن تشمهما، وواحد تقدر أن تذوقه.

وخامس شيء يمكن أن تفعله هو ألا تعزل نفسك، وتحاول أن تساعد من حولك على أن يساعدوك، كما سيساعدك أن تنضم إلى مجموعة داعمة تمر بظروفك نفسها، لأن الروابط والمشاركة تخفف من المعاناة، وتهدئ الألم، وتلطف الحزن، لأنها تقول لك إنك مفهوم، وكل ما تشعر به حقيقي، وإنك لست وحدك.

أهم شيء في كل هذه الخطوات أن تكون حنونًا على نفسك رحيمًا بها، لا تجبرها على شيء لا تقدر على فعله لأي سبب من الأسباب، ولا تقسو عليها وتطلق الأحكام بأي شكل من الأشكال، أنت على الطريق الصحيح، من الطبيعي أن تقع في نوبات ألم وحزن قوية أحيانًا، هذا طبيعي وصحي، وطبيعي أيضًا أن تجد أنك لا تريد أن يتحسن الوضع، لا تريد أن تتوقف عن الحزن أو تنسى، لا تخف من نفسك وقتها ولا تشعر بالذنب.

٦- لا أريد أن أنسى

أحيانًا لا يرغب الناس في النسيان، أو يخافون التخلص من الحزن أو الألم، لأنهما يكونان آخر رباط بينهم وبين الشخص الذي مات، إن فقدوه، فوقتها سيفقدون الشخص للمرة الثانية، المرة الأخيرة، لكن هذا لن يحدث، لأنك لست في مرحلة ستمر بها مرور الكرام، لا يوجد خط ستتجاوزه وبعدها تنسى كل شيء وترجع إلى حياتك العادية كما قلنا، أنت في حياة جديدة، حياة شكلتها الصدمة والموت والخسارة، أنت شخصيًّا تغيرت، هذه التجربة أعادت تشكيل شخصيتك وهويتك ومعرفتك، لا يوجد رجوع إلى حياتك التي كانت قبل هذه التجربة، الطريق الوحيد الموجود الآن هو المستقبل، فلا تخف أن تتحرك، لأن هذا لا يعني أنك نسيت من ذهب ولا أنك تخليت عنه، على العكس تمامًا، مهما تحركت فسيتحرك الحزن والألم معك، لكن ليس بعنف كما حدث في البداية، بل بسكينة، الدنيا ستتوقف عن الدوران، والسماء والأرض سيثبتان في مكانيهما، لأن الألم والحزن أصبحا جزءًا منك، جزءًا مهمًّا ضروريًّا مثله مثل الحب. 

وتذكر يا صديقي أنه لا بأس إن لم تكن بخير!