كيف تصلح قلبًا مكسورًا

Book-Cover

مقدمة

"أشعر كما لو كنت محققًا يفتش في مسرح الجريمة، ويعرف أن مفاتيح حلها هناك، لكنه لا يستطيع جمعها وتركيبها".

للوهلة الأولى التي تسمع فيها هذه الجملة يمكن أن تظن أن الأمر له علاقة بجريمة أو حدث عامر بالإثارة والغموض، وأن من يقولها شخص محتار في تتبع الأدلة ولا يستطيع أن يُوقع المجرمَ الذي حيره، ويلبسه الأساور المعدنية. 

يمكن أيضًا أن تفكر في احتمالات أخرى، لكني لا أظن أن واحدًا من هذه الاحتمالات هي أن صاحب هذه الكلمات شابة جميلة اسمها "كاثي | Kathy"، وأنها تقولها لطبيبها النفسي "جاي وينش" في عيادة نفسية، وأن مسرح الجريمة هذا هو قلبها المحطم، ومفاتيح الحل هذه لن تضع مجرمًا في السجن، وإنما ستحرر روحها التي تعاني ألم الانفصال المرير عن أكثر شخص أحبته في حياتها. 

ويمكن في وسط الاحتمالات والتكهنات أن تقول إن كاثي إنسانة هشة ضعيفة تضخّم الأمر، وما ضرها إن خسرت علاقة كانت تمثل لها شيئًا كبيرًا في حياتها؟ هي ليست أول أو آخر شابة تتعرض لهذا، وربما حتى تنصحها أن تمارس الرياضة وتمضي قُدمًا لأن هذه خلطة مجربة.

لكن الحقيقة التي يقولها لنا طبيبها النفسي -مؤلف كتاب اليوم- هي أن كاثي واحدة من أقوى النفسيات التي قابلها في تاريخه المهني، وأنها لم تقدر فقط على تقبل صدمة إصابتها بسرطان الثدي، وإنما كانت تملك عزيمة حديدية على تحمل رحلة العلاج المؤلمة لتُشفى وترجع إلى حياتها التي تحبها.

والأصعب من هذا كله أنها بمجرد أن شُفيت وقررت أن تخطط لحياتها الجديدة وتفتح قلبها لشريك حياةٍ يملؤه، تفاجأت بانتكاسة جديدة وعودة السرطان مرة أخرى، لكنها بالرغم من هذا -كما فعلت أول مرة- استطاعت أن تتغلب على الألم النفسي وتواجه الألم الجسدي بشجاعة وصبر مبهرَين، لتُشفى للمرة الثانية وتقرر مرة أخرى دون يأس أن تفتح قلبها للحياة وتعيش.

لكن تخيل أن البنت القوية التي استطاعت أن تواجه أخطر مرض على الأرض بنفسية حديدية، كُسِرَ قلبها بعنف عندما خسرت أحب شخص إليها في اللحظة التي ظنت فيها أن الحياة تبتسم لها على يديه، قبل أيام من زفافهما المنتظر.

 هنا يأخذنا الطبيب النفسي "جاي وينش | Guy Winch" في رحلة سيكولوجية فلسفية للاطلاع على ألم كاثي وكل ألم شبيه له.

ألم الفقد والانفصال عن حبيب لم نتخيل حياتنا من دونه، سواء كان زوجًا أم أخًا أم صديقًا أم حتى حيوانًا أليفًا.

فدعونا نطّلع على هذه الرحلة، ونعرف كيف يمكننا أن نتعامل مع الألم الذي اختبرناه كلنا تقريبًا، أيًّا كانت شدة هذه التجربة.

 هل حقًّا تنكسر القلوب؟

قبل الكلام عن تحطم القلوب وجرح المشاعر وباقي مصطلحات أغاني التسعينيات، دعونا نسأل بجدية بعيدًا عن الرومانسيات المستهلكة.. هل القلوب تتحطم فعلًا؟ وهل هذا تعبير مجازي أم فيه شيء من الواقعية؟

- لحقيقة أن هذا حقيقي وغير حقيقي في الوقت نفسه، لكن قبل أن نشرح المقصود يجب أن نلتفت إلى نقطة مهمة في كلام "وينش" عن كسيري القلوب، أو ذوي القلوب المكسورة، وهي أنهم عادةً ما يتعرضون للهجر والتململ من دائرتهم القريبة عندما يتأخر شفاؤهم من جروحهم القلبية عن الوقت المنتظر، وهذا لأن الناس عادةً لا يُقدِّرون الوقت الكافي لتخطي هذا الحادث النفسي الأليم، وهذا ناتج عن عدم تصور حقيقي لماهية انكسار القلب.

- وهنا يمكننا أن نرجع إلى سؤالنا وإجابتنا.. هل القلوب تنكسر فعلًا؟ الإجابة نعم.. ولا!

- دعونا أولًا نشرح سبب قولنا "لا"، والسبب سهل، وهو أن جراحنا النفسية والعاطفية لا تسبب كسرًا ماديًّا للقلب ككسر العظام أو جروح الجلد، لكن مع ذلك توجد إصابة طبية حقيقية موجودة وإن لم نكن قادرين على رؤيتها.

- هذه الإصابة اهتم بها أستاذ علم نفس في جامعة ميتشيجان اسمه "إيثان كروس | Ethan Kross"، وقرر هو وفريقه البحثي أن يدرسوا الأمر بشكل علمي وفسيولوجي، فذهبوا لزيارة مجموعة من الأشخاص الذين مروا بانفصال عاطفي مؤلم وأخضعوهم لاختبار باستخدام جهاز fMRI، وهو ماسح ضوئي يقيس نشاط المناطق الدماغية.

- ما الاختبار؟ لا.. إنه بسيط، سينظر كل واحد من حضراتكم إلى صورة الشخص الذي انفصل عنه هذا الانفصال المؤلم، ويحاول أن يقلل من مشاعر الألم التي يشعر بها، ونحن سنقيس نشاط أدمغتكم في هذه اللحظة، وبعدها سيتعرض كلٌّ منكم لجهاز آخر اسمه جهاز تحليل الخلايا الحسية، ومهمة هذا الجهاز أن يُعرِّض جلودكم لحرارة مؤلمة بدرجات مختلفة بدايةً من الألم الخفيف حتى الألم غير المحتمل، وأيضًا سنقيس نشاط الدماغ في كل لحظة، وقد كان.. فماذا تظنون بشأن النتيجة؟

- أظهَر المسح الضوئي أن المناطق التي كانت تنشط في أدمغة المتطوعين عندما مروا بالموقف الأول هي نفسها المناطق التي كانت تنشط في أدمغتهم عندما تعرضوا لاختبار الألم الجسدي، وتحديدًا عند المستوى الأقل بدرجتين من الألم الذي لا يحتمل.

- وهذا معناه أن انكسار القلب إصابة جهازية وجسدية فعلًا، تؤثر في أنشطتنا ومشاعرنا وحالاتنا الذهنية والمزاجية بوجه عام.

- وأن هذه المشاعر يمكن أن تتسبب في عَرَض فسيولوجي آخر وهو إفراز هرمون التوتر أو الكورتيزول بصورة أكبر، وهذا يعني أن مناعة الجسم يمكن أن تتأثر بالفعل، وربما تجد أن الحمى التي أصابتك في وقتٍ قلبك حزين فيه، أو في فترةٍ أعصابك مضغوطة فيها، أتعبتك أكثر من أي مرة أُصبتَ فيها بالحمى، وهذا ببساطة لأن مناعة جسمك أصبحت أقل، لأن قلبك أثر فيه.

- حسنًا.. هل هذا يعني أن نستسلم؟ قطعًا لا، لكن قبل أن تقرر أن تقاوم يجب أن تعرف أولًا ما يمكن أن تخطئ فيه خلال هذه المقاومة.

فخ القلب المحطم

تخيل مثلًا أن لديك التواءً أو إصابة خفيفة في رجلك، وبدلًا من أن تهتم بعلاجها وتداويها أو حتى تريحها، قررت أن تتمشي عليها وتجري أيضًا لأنك لست مقتنعًا بأنك مريض، أو لا تريد أن تعترف بهذا، فماذا في ظنك ستكون النتيجة ساعتها؟

- مع الأسف، كثير منا يقع في هذا الفخ وهو يحاول أن يتعافى من ألم نفسي مر به، يتجاهل الألم ويُشعر نفسه بأنه لا توجد مشكلة وأنه على ما يُرام، ويظن أن هذا فلَاحٌ منه، فليس هو الذي تكسره الدنيا أو تظلمه وما إلى ذلك.

- والحقيقة أن الأمر ليس بهذه بالبساطة، لكنه أيضًا لا يحتاج إلى تعقيدات كثيرة، أنت إنسان، عندك عواطف ومشاعر وقلب حي بالحب والمودة والعطاء والرجاء، وكل هذه الأمور تعرضت لرجة عنيفة بسبب خسارة شخص عزيز، وهذه الرجة من الطبيعي أن تؤلمك وتترك أثرًا في نفسك، وهذا الألم ليس دليل ضعف، وإنما دليل على كونك إنسانًا طبيعيًّا.

- ولذلك كان الفيلسوف والمفكر البوسنيّ "علي عزت بيجوفيتش | Alija Izetbegović" يقول: "بين الحزن واللامبالاة سأختار الحزن"، لأن الحزن من وجهة نظره اختيار إيماني، اختيار تعلن به لنفسك أن قلبك حي وكما يتألم يسعد، وإلا فموت القلب عند الحزن سيميته عند الفرح، وربما حتى يُميت مشاعر الإيمان فيه.

لذلك إن رجعنا إلى هذا الفخ فسنجد أن النجاة منه سهلة، نعم، أنا حزين متألم، لكني لن أستسلم لهذا وسأحاول أن أخرج منه. 

- لكن عند محاولة الخروج هذه يمكن أن نقابل الفخ الثاني الذي سيؤخر تعافينا كثيرًا.

- في مقال آخر لجاي وينش عن الشعور بالذنب يقول: "إن قليلًا من الشعور بالذنب يُفيدنا، بينما قد يُسبّب الكثير منه فسادًا وفوضى"، وهذا بالضبط الفخ الذي نقع فيه في لحظة الانفصال والفقد، أو لحظة التحطم القلبية، الشعور المفرط بالذنب.

- أتذكر كاثي وكلامها عن المحقق الذي يبحث عن مفاتيح الحل؟ هذا هو الفخ، أن تحمّل نفسك الذنب وترفض الواقع، وتحاول أن تراكم اللوم عليك ليتناسب مع كمية الألم الذي تشعر به.

- وهذا لأن بعضنا أحيانًا لا يقتنع بأسباب انفصال الطرف الآخر مهما كانت واقعية، ويراها أبسط من أن تدفعه إلى أن يهجرنا، ونظل نراجع حساباتنا ونحتار، بالتأكيد فعلتُ كذا، بالتأكيد قصرت في كذا، بالتأكيد.. بالتأكيد.. بالتأكيد.

- نرفض الواقع ونعيش في توهمات الذنب، وهذا يجعلنا نُضيع الباقي من وقتنا وعمرنا في الجري وراء أشياء لا فائدة منها، لكن ساعتها لا نكون محققين في مسرح جريمة كما فكرت كاثي، وإنما كما قال وينش، نكون مدمنين، ونعاني أعراض الانسحاب.

- "ريتش | Rich" خطيب كاثي مثلًا أخبرها بأسباب موضوعية منطقية إن سمعها أي أحد فسيتقبلها ببساطة ويراها أسبابًا وجيهة للانفصال، وكل هذه الأسباب لم تكن متعلقة بأن كاثي سيئة أو مذنبة، وإنما بعدم وجود المشاعر والحماس نفسه للعلاقة عند ريتش، وهذا وارد ومفهوم، لكن كاثي وأي أحد مكانها لا يستطيع في هذه اللحظة أن ينظر إلى الأمر من الخارج، لذا لم تصدق هذه الأسباب وقررت أن تحفر في اللاشيء لتحمّل نفسها ذنوبًا ما أنزل الله بها من سلطان.

- وظلت لشهور طويلة تراجع تفاصيل كل كلمة، وكل رسالة، وكل همسة بينها وبين ريتش لتستطيع أن تصل إلى الخطأ الذي وقعت فيه وجعله ينفصل عنها، في حين أن السبب كان أبسط من هذا بكثير، لكن الألم كان أشد من أن يتقبل أي سبب بسيط.

- هذا الفخ يسميه علماء النفس "الإدراك السلبي"، وهذا إدراك يحصرنا في نقد ذواتنا وتصويرها لنا بشكل سلبي، ولا يسمح لنا بأي نظرة رحيمة أو واقعية تجاه ذواتنا، وساعتها يمكن أن نتخيل أن هذا شيء من النبل حتى لا نحمّل الطرف الآخر الذنب، لكن المفاجأة هي أننا لا نحتاج إلى أن نحمّل أي أحد ذنب أي شيء، وإنما نحتاج أن نتعافى من التجربة.. فقط.

تواصل مع نفسك تَنْجُ

وكأي شيء في الحياة، التفريط في إدراك آلامنا العاطفية يضرنا كالإفراط في التفكير فيها والتوقف الطويل عندها، لذلك فمفتاح العلاج والتخطي يحتاج إلى التغلب على الأمرين، ومن ثم نحترم آلامنا، ونرفق بأنفسنا ونتوقف عن اللوم الكثير.

- يُقال إن الوقت أفضل طبيب للجروح، هذا مثل صحيح، لكن غير الصحيح هو أن نشاهد أنفسنا ولا نحاول أن نسرِّع وتيرة هذا الوقت، وأول خطوة يمكن أن تساعدنا على هذا أن نتخلى تمامًا وفورًا عن كل شيء قادر على إيقاظ مشاعرنا التي نحاول أن نغلبها، كالصور، والمحادثات، والهدايا، والذكريات. كل شيء قادر أن يوقظ المشاعر الجريحة هو مشرط موضوع بجانب الجرح، يهدده مع أي حركة بأن يفتحه من جديد، لذلك قبل أن تبحث عن العلاج، ابتعد عن مضاعفات الألم.

- وفِعلُنا هذا يسميه وينش التعاطف مع الذات، تذكر دائمًا أنك أقرب الناس إلى نفسك، ومن ثم يجب أن تكون الأكثر رفقًا ورحمةً بها، لأنك إن لم تقدم إليها الدعم المناسب فسيصعب جدًّا أن تنتظر هذا الدعم من شخص آخر.

- وكما قلنا.. قليل من الشعور بالذنب مفيد، هذا عندما يكون في نطاقه المقبول الذي يجعلك تكتشف الأخطاء التي تسببت في الألم الحالي، كما يجب أن تتقبل الواقع وتفسيرات الطرف الآخر لأنك لست مطالبًا بالكشف عما في الصدور.

- وكما قالت عالمة النفس "ميلاني كلاين | Melanie Klein": "الشعور بالذنب قد يكون علامة على قدرتنا على إدارة تجاربنا الإنسانية، متقبلين أنها ليست نقيةً ولا تشوبها شائبة".

- لكن الإغراق في اللوم والعقاب الذاتي سيقودانك إلى تحقير ذاتك ويعطلانك عن حل المشكلة، فربما حينها تظن أنك حللت المشكلة وانتهيت من وجعها، لكن الحقيقة أن كل ما فعلتَه هو أنك ضغطت على زر غفوة المنبه، وبعد قليل سيرجع المنبه ليرن ويزعجك مرة أخرى.

- ومن الطرائق التي ينصح بها وينش لإحسان التعاطف مع النفس، أن نبحث عن أشخاص يعانون آلامًا نفسية شبيهة، ونقدم إليهم الدعم ونساعدهم على أن يخرجوا من دائرة أعراض الانسحاب أو الشعور المفرط بالذنب وجلد الذات. 

- وكما يَطمئن الخائف عندما يُطمئن من معه، أنت أيضًا تستطيع أن تتداركَ مشاعرك وترفق بنفسك عندما ترفق بالآخرين وتساعدهم على تدارك مشاعرهم.

- ولنقُلْ أيضًا إننا في مراحل ما بعد الانفصال نحتاج إلى شيء مهم يُغفله أغلبنا، وهو أن نرجع مرة أخرى لنتواصل مع ذواتنا، وإننا بعد شهور أو سنين في حياة نعبر عنها بـ"نحن"، نحتاج أن نستكشف شكل الحياة التي نعبر عنها بـ"أنا".

- نحتاج أن نعرف أنفسنا، وما يريحنا، وما هو مناسب لنا، وما لا نستطيع أن نكمله، وما ننتظره. 

- نحتاج أن نعرف أننا نستمد قيمتنا الحقيقية من الشخصية التي استطعنا أن نشكلها ونصقلها على مدار السنين، وليس من اختيار أحد لنا أو حبه لنا، وكما أن اختيار أحد لك لن يصنع منك شخصًا أفضل من حقيقتك، فعدم اختياره لك لن يجعلك شخصًا أسوأ مما أنت عليه.

- باختصار.. أنت الذي يحدد من أنت وليس الناس، ولو عرفت هذا فستعرف أنك من الوارد أن ترفض من لا يناسبك دون أن ترى أن هذا شيء قاسٍ أو تقف عنده الحياة، وساعتها ستقيس هذا على نفسك وتعرف أن انفصال شخص عنك ليس نهاية العالم، وليس مؤشرًا إلى أنك تحتاج أن تشتري سوطًا وتبدأ في جلد ذاتك.

أخيرًا.. دعونا نَقُلْ إن الحياة واسعة والناس مختلفون، وتوافق بعضهم مع بعض هو ما يحدد إذا كانوا سيستمرون أم لا، وليس أفضلية أحد فيهم على الآخر، لذلك فالانفصال أو حتى الفقد ليس آخر الدنيا، فما دمت على قيد الحياة فأمامك خطوات يمكن أن تخطوها، وطريق لم تكتشفه، والبكاء على أول الطريق يمكن يحرمك رحلة لم تكن تحلم بها.