أسباب وجيهة للمشاعر السيئة

Book-Cover

 مقدِّمَة

صاحبنا خالد بَقِيَ له شهران ليتخرّج، كان يعيش أيامه بشكل طبيعي جدًّا، ويحاول أن يصنع ذكريات أكثر مع أصحابه ويذاكر من بداية السنة، وكل شيء على ما يرام.

لكن فجأة دون مقدمات انطفأ خالد، وبدأ ينسحب من كل الأنشطة ولا يذهب إلى الجامعة، ويفقد الشغف بالمذاكرة تمامًا، وساء نظام أكله ونومه.

- فنسأله: ماذا حدث يا بني؟

- يرد: لا أعلم! 

- هل أحزنك شيء ما؟ لا. 

- هل يمر أحد عزيز عليك بأزمة؟ لا. 

- هل سمعت خبرًا ضايقك أو أقلقك؟ لا.. لم يحدث شيء، هل هذا تحقيق أم ماذا؟!

والحقيقة يا صديقي أنه من الطبيعي أن يغضب، لأن كل هذه الأسئلة هو نفسه يبحث عن إجاباتها ويتمنى أن يكتشف ماذا حدث!

وأنتَ تعرف يا صديقي أنه من السهل جدًّا أن تقول للناس إن معدتك تؤلمك لأنك أكلت كثيرًا على الغداء، أو إنك أُصبت بالصداع لأنك سهرت أمس، أو لا تقدر على الحركة لأنك مصاب بالحمى، لكن إن قلت "أنا مكتئب" أو "أنا خائف"، يجب أن تقدِّم السبب المقنع لهذه المشاعر حالًا، وإن لم يوجد سبب ملموس فستجد مَن حولك يهمّشون معاناتك دون قصد، وبالتأكيد لن يذهب بك أحد إلى المستشفى!

وطبعًا هذه التفرقة ستجعلك حزينًا أكثر لأن لا أحد يرى معاناتك، لكن أنا هنا اليوم لأكلمك عن كتاب "أسباب وجيهة للمشاعر السيئة" لراندولف مارتن نيس، الذي سيعرّفنا من خلاله طبيعة الاضطرابات النفسيّة، ولماذا يصبح فهمها صعبًا وتشخيصها أصعب، وكيف يمكن أن نكون على وعي بمشاعرنا ومشاعر الآخرين ونقدّر أسبابهم الخفيّة.

تعالَ نرَ ماذا قال راندولف مارتن نيس.. 

صعوبة التشخيص 

 في البداية.. اعلم أنّ اللحظة التي يسأل فيها المريض نفسه "لماذا أنا متعب نفسيًّا؟"، يكون الطبيب أيضًا محتارًا ويسأل السؤال نفسه "لماذا هذا الشخص متعب نفسيًّا؟"، نعم.. كما سمعت. :)-

المريض النفسي يكون كاللغز بالنسبة إلى نفسه وبالنّسبة إلى الأطبّاء، وهذا لأن الطبيب مطلوب منه أن يفرّق بين أعراض وحالات كثيرة متشابهة، بالإضافة إلى أنه يجب أن يعرف إذا كانت هذه المشاعر طبيعية غير كارثية أم وصلت فعلًا إلى درجة الاضطراب، لكن المشكلة أنّ الشخص المضطرب ليس لديه وقت لكل هذه الحيرة، ويتمنى أن يجد تفسيرًا ليرسو على بر.

تخيّل يا صديقي أن مشكلتك ليست أنك تحتاج إلى علاج، لا.. أنت تريد أن يعرّفك أحد ماذا أصابك، وسبب ما يحدث لك، ومن ثم تناقش أمر العلاج في ما بعد. :)

التنقل بين الأطباء النفسيين من أصعب الأمور، خصوصًا عندما يشخّص كلّ منهم الحالة بشكل مختلف، ويعطي تفسيرًا ونصائح حسب وجهة نظره!

والحقيقة أنّ كل هذا التخبُّط يجعل المريض يستاء أكثر، وبصراحة معه حقّ، لأن معرفة المشكلة نصف الحلّ، لكن من أين نأتي بالحل ونحن لا نفهم المشكلة؟ 

وهذا يجعلنا ندرك أيضًا أنّ مهنة الطبّ النفسي صعبة، ومع ذلك، عندما يشاهد الطبيب الشخصَ وهو يرجع إلى حياته الطبيعية بالتدريج، ويرسل إليه رسائل شكر من القلب يشرح له فيها كيف تحسنت حياته وتغيرت، ربما يجعله هذا يحاول أن يجتهد ويصبر في مجاله أكثر ويفهم كيف يمكن أن يكون على وعي بأسباب المشاعر السيئة.

والسؤال الذي يمكن أن نسأله الآن: هل يوجد سبب معيّن للمشاعر السيئة؟ كلّ طبيب يا صديقي يرى الطب النفسي من وجهة نظره، فلو كان المعالج يبحث في العوامل الوراثية والأمراض الدماغية تجده يميل إلى استخدام العقاقير، بينما من يركز على التفكير المشوَّه يمِل إلى العلاج المعرفي، ومن يؤمن بأن أغلب المشكلات تنبع من التفاعلات الأسرية يركّز على العلاج الأسري. 

وهذا يفسر لك لماذا يمكن أن تذهب إلى طبيب يخبرك بأنك مصاب باكتئاب، وآخر يخبرك بأن هذا قلق عُصابي، وثالث يقول إنك متأثر بسبب سفر والدك وهذه مجرد مشاعر عابرة، ومن ثم يُدخلونك دوامة لا آخر لها! 

يا إلهي! أخبروني بسبب معاناتي بالضبط! 

انتظر يا صديقي واهدأ!

يجب أن تفهم أن تحديد مصدر الخلل صعب جدًّا في المرض النفسي، على عكس المرض العضوي أو الجسدي الذي يسهل اكتشافه بعمل إشاعات وتحاليل وفحوصات تبين لك أين تكمن المشكلة بالضبط.

لذا اعترض الأطباء النفسيون الذين يتحلون بالنزاهة والثقافة وأرادوا أن يعيدوا هيكلة الأمور، وأن يفصلوا الاضطرابات بعضها عن بعض، ويضعوا مقاييس لكل اضطراب، ربما يسيطرون على هذا التخبط، فلا يُقال بشكل فضفاض "أنت مصاب باكتئاب"، بل "أنت مصاب باكتئاب درجته كذا، بسبب كذا، وأعراضه كذا، وعلاجه كذا".

التفريق بين العَرَض والمرض

فكما قلتُ لك.. الاضطرابات النفسية مشكلاتها متداخلة، ويمكن أن تؤدي أسباب كثيرة إلى اضطراب واحد، أو سبب واحد يؤدي إلى أعراض مختلفة، بالإضافة إلى وجود مشكلة جوهرية في الطب النفسي، وهي أنّ التشخيص النفسي يفتقر إلى منظور خاص بالوظائف الطبيعية المفيدة للأعضاء، ببساطة.. طبيب الباطنة يعرف وظيفة الكلى مثلًا، ولا يخلط بين الآليات التي يدافع بها الجسم عن نفسه ووجود الالتهاب أو المرض، فنجده قادرًا على التفريق بين العَرَض والمرض، وهذا جانب ضعيف في الطب النفسي.

لذا يلفت الكاتب نظرنا إلى وجود خطأ طبي متمثل في عبارة "النظر إلى الأعراض بوصفها أمراضًا"، أي من الخطأ أنّ نصنف الانفعالات المفرطة على أنها اضطراب بشكل مباشر دائمًا دون أن نفهم الموقف الذي أدى إلى استثارة المشاعر السلبية أصلًا، التي يمكن جدًّا أن تكون مشاعر طبيعية، بل وضرورية الحدوث أيضًا.

وأكرر أنّ ضحيّة كل هذا التخبط هو المريض الذي يقف محتارًا، ولسان حاله يقول: اتركوني وأكملوا نقاشاتكم بعيدًا عني، أنا أريد أن أتعالج! هل أخبركم بشيء؟ لن أتعالج، ألغوا رحلتي.

اختلاف العقول وبعض أسباب المرض

لا يا صديقي.. لو كنتَ أنت الشخص المحتار هذا، فأنا لا أحب أن أراك محتارًا، أنا متعاطف معك حقًّا، أكمل معي إلى النهاية، وركزّ على الأسباب التي سأشرحها لك: 

مبدئيًّا العقل البشري ليس آلَة، أي لا يسير وفق خطة أو كتالوج معيّن، ولا توجد نسخة واحدة طبيعية نقيس عليها كل شيء، وهذا لأن العقل كأجزاء الجسم، به اختلافات وراثية في الأدمغة، ومن ثم ينتج عنها اختلاف السلوك والقدرات، واختلاف مواطن الضعف والقوّة عند كلّ شخص.

لكن الكاتب شرح أسبابًا عامّة تفسّر لنا قابلية الأمراض بأنوعها سواء كانت نفسية أم جسدية: 

السبب الأول: عدم التوافق: وهو ناتج عن العيش في البيئة الحديثة، فعلى الرغم من توافر كلّ شيء حولنا يا صديقي، فإن هذه الحالة انعكست علينا بالسلب، وعلى الرغم من أنّ الشخص العادي حاليًّا يعيش في رفاهيات أكثر بكثير من ملك مُتَوَّج في القرون الفائتة، وعندنا وفرة في كل شيء تقريبًا، ووقت كافٍ للراحة والعلاج، فالغريب أن هذه الوفرة أنتجت إصابات بأمراض جسدية كالسكر والبدانة، وإصابات باضرابات نفسيّة كالاكتئاب واضطرابات الأكل وفرط الحركة والتشتت وغيرهم.

السبب الثاني: المقايضات: الطبيعي يا صديقي أنّ الجسم لن يصل إلى حالة مثالية، لأن لو واحدة من السمات تعمل بشكل أفضل، فهذا سيتسبب في أنّ سمة أخرى تعمل بشكل أسوأ، وهذا ينطبق على كل شيء حولك، فلو وجدت ميزة في أي شيء فستجدها على حساب نقص آخر وتكلفة معينة، فمثلًا جهازك المناعي يمكن أن يستجيب بقوة أكبر، لكن سيكون هذا على حساب الزيادة في تلف الأنسجة، أو يمكن أن تكون منظومة التوتر عندك أقلّ حساسية، لكن هذا على حساب التأقلم بدرجة أقل مع الأخطار، لذلك فالحساسية المفرطة للألم والقلق سيئة بالتأكيد، لكن القليل منها أيضًا شيء سيئ!

السبب الثالث: الاستجابات الدفاعية: التي تجعل الأشخاص يطلبون المساعدة لعلاج الأعراض وليس الأمراض، فالألم والحمى والسعال والقيء كلها استجابات وقائية مهمّة، وأيضًا القلق والغيرة والغضب والحالة المزاجية المنخفضة ينطبق عليها الأمر نفسه، فعلى الرغم من أن الاستجابات الدفاعية صعبة مكروهة فإنها مفيدة أحيانًا ويجب أن تحدث لنا! 

فلو كنت مصابًا بالالتهاب الرئوي فمن مصلحتك أنّ يحدث رد الفعل اللاإرادي الخاص بالسعال بشكل جيد!

ولو حدث لك تسمم، فالاستفراغ ضروري في هذا الوقت مهما كان مؤلمًا! 

ولذلك يخطئ بعض الأطباء عندما يصفون علاجات تمنع الاستجابات الدفاعية الطبيعية أصلًا، لأن منعها يمكن أن يعرّض الناس لمرض أشد، كما أن غياب بعض المشاعر السيئة يمكن أن يتسبب في تعب أكبر!

لذلك يا صديقي بعض المشاعر -وإن كانت حادّة شديدة- تعد ضروريّة، وتكون مجرد عرض طبيعي ورد فعل للموقف الحاصل. 

المشاعر

لنقف عند موضوع المشاعر هذا ونتكلّم عن كيفية ضبطها بحيث لا تزيد على المعدّل الطبيعي ولا تنعدم.

وهذا الضبط يتطلّب منا تغيير عادات التفكير، أو تخفيف المشاعر بشكل مباشر عن طريق التدريب والتأمل والعقاقير، وتوجد طريقة أخرى وهي الانتظار فقط، لأن المواقف تتغير مع الوقت، وينجلي الضباب الشعوري ويذهب إلى الجحيم، والغضب بطبيعة الحال لا يستمر.

أهم شيء وأنت تفعل هذا كلّه ألا تخجل من شعورك، وأن تُدرك أنّ القدرة على الاستجابة بصورة ملائمة عند تغير الظروف مطلوبة، وهذه هي النقطة التي تهم الجهاز المناعي النفسي، أمّا ما يُقلق فعلًا فهو تجمُّد الشعور عند لحظة واحدة، لأن فائدة أي شعور تعتمد تمامًا على الموقف، فمثلًا الحزن والقلق مشاعر مفيدة في وقت مواجهة التهديدات أو الفقد، أما الاسترخاء السعيد في هذه المواقف فبالتأكيد سيكون مقلقًا ولا فائدة له! 

وتخيّل معي مثلًا لو ظهرت فرصة عمل جيدة جدًّا لأي شخص، ساعتها ستكون مشاعر الرغبة والحماس مفيدة جدًّا، أما مشاعر القلق والحزن فستكون مضرّة منغِّصة.

لكن الحكم على مشاعر الشخص وكيفية استثارتها يتطلّب معرفة قيم الفرد وغاياته واستراتيجياته في التفكير والتعامل، إذ يمكن أن يحدث موقف معيّن يستثير مشاعر عكسية داخل أشخاص مختلفين، فمثلًا خبر المولود الجديد ربما يسبب مشاعر ضيق أو حتى اكتئاب لأسرة مكوّنة من ثمانية أفراد، بينما يتسبب في دموع السعادة لأسرة أخرى كانت محرومة من الأطفال!

وهذا يعلّمنا أنّ القيم متباينة وأنّ المشاعر لا تنشأ من الأحداث، وإنما تنشأ من تقييم الشخص لما تعنيه الأحداث، كما أن الغايات والأهداف تتغير داخل الشخص نفسه بمرور الوقت.

إذًا لنتفق أنّ لا أحد متطابق تمامًا مع أحد، لذا فالمشاعر أيضًا من هذا المنظور لا تُعَدُّ شيئًا جامدًا، وإنما هي شيء مختص بآمال الناس وأحلامهم ومخاوفهم وخصائصهم الفردية المتعددة، فبدلًا من أن نفترض أنّ هذه المشاعر إيجابية جيدة أو سلبية سيئة، يمكن أن نحلل نسبة ملاءمة الشعور للموقف، وهل يمكن أن يكون مفيدًا في هذه اللحظة أم لا.

القلق والرهاب

الآن ستقول لي: طمأنك الله يا أخضر، لقد فهمت أن استثارة المشاعر شيء طبيعي غير محرج.

سأرد عليك: أحسنت يا صديقي، لكن لا تنسَ ضبط المشاعر حتى لا يتحول الأمر إلى اضطراب أو كارثة! 

ودعني آخذ شعورًا سيئًا كالقلق مثلًا لأقيس لك عليه الأمر..

يقول سورين كيركجارد: "من تعلَّم الشعور بالقلق بالطريقة الصحيحة فقد تعلَّم الشيء الأهم"، سأشرح لك..

تخيّل معي أنك أمام البحر والجو جميل وكل شيء على ما يرام، لكن جاء تيّار هواء شديد وأصبح الموج عاليًا، وعلى يمينك أناس غير مكترثين، مستعدون أن يغامروا بحياتهم، مندفعون في السباحة، ولن يشعروا بالقلق تقريبًا إلا عندما يأخذهم الموج بعيدًا لا قدّر الله!

أما على يسارك فيوجد أناس يشعرون بقلق شديد، لدرجة أنهم لا يرضون بأن يقتربوا من البحر نهائيًّا، ولا يستطيعون أن يستمتعوا بالأجواء، وبدأت تظهر عليهم أعراض انهيار صعبة.

بالتأكيد كلا الفئتين عندهما مشكلة، لأن القلق عند بعض الناس يمكن أن يُحفَّز لأتفه سبب ويدمّر حياتهم ويمنعهم من أشياء كثيرة، بحجة "لا.. لاينبغي.. لا أقدر.. سأموت!".

والقلق الزائد هذا نلاحظه أيضًا عند بعض النساء اللاتي إن تأخر أزواجهن قليلًا ولم يردوا على الهاتف، تبدأ عقولهن تتخيل سيناريوهات مرعبة، ترى هل حدثت له حادثة؟ هل أصابته أزمة قلبية؟ بينما الزوج يقف أمام البيت مع العم إبراهيم صاحب المتجر يحلل مباراة الأهلي والزمالك!

على الجانب الآخر، التهوّر وعدم القلق يمكن أن يُفقِد الشخص حياته، ونرى هذا عند الأشخاص الذين يمكن أن يفعلوا أي شيء ويتعرضوا للحيوانات الخطيرة دون خوف من أي مجازفات، على العكس، يفتخرون بمهارتهم وشجاعتهم، لكن المؤلم أنّ كل سنة يموت منهم كثيرون.

والمشكلة تكمن في عدم إدراك الجانب الآخر هذا، فمن يعاني من نقص الرهاب لن نراه في عيادات القلق، لكن سنراه في السجون والمستشفيات.

ما وراء الاضطرابات

حسنًا.. اتفقنا أن انعدام المشاعر أو زيادتها ليس صحيًّا، لكن ما الذي يحوّل المشاعر من طبيعية الشدّة إلى اضطراب فعلي؟

سأخبرك.. ولنأخذ اضطراب ما بعد الصدمة مثلًا، بعد إجراء دراسة على بعض الأشخاص اتضح أنّ من يعانون اضطراب ما بعد الصدمة بعد التعرض لأحداث مؤلمة، يكون لديهم تاريخ عائلي من الإصابة بالقلق أو حدث لهم هذا الاضطراب من قبل، قلق أو اكتئاب، أو عاشوا أحداث انفصال مبكر للأبوين.

والعنصر التنبؤي الأقوى للإصابة باضطراب ما بعد الصدمة هو وجود تاريخ من التعرض لأحداث صادمة.

أمّا اضطرابات الأكل فيمكن أن تنشأ بسبب الخوف المفرط من السمنة أو الشعور بالذنب لقلّة الإرادة، لأن الفشل في خسارة الوزن يسبب الإحباط وانخفاض الروح المعنوية ونقص تقدير الذات، وأما حالات الإدمان فتنشأ بسبب البحث عن المتعة المؤقتة، خصوصًا عند المَلُولِين المزاجيين أو الفئة الفقيرة التي مرت بصعوبات وصدمات كثيرة. 

والغيرة المرضية تنشأ عن الخوف من مغادرة شريك الحياة أو الخوف من التعرّض للخيانة، 

أما البارانويا فتنشأ بسبب الخوف من أنّ يتآمر الناس ضد الشخص. 

ننتقل الآن إلى الحالة المزاجية المنخفضة التي يمكن أن تؤدي إلى الاكتئاب، ومعرفة سببها يتضح عندما يسأل الطبيب عن التفاصيل الشخصية، ويراعي صراعات الإنسان وحياته الداخليّة، إذ يمكن أن يكون السبب مكبوتًا في أعماق الشخص، لدرجة أنّه شخصيًّا لا يكون واعيًا به.

ككثير من الناس في العيادات تشعر وهمّ يتكلمون أنّ حياتهم على ما يرام، وأنه لا يوجد أي سبب للقلق أو الاكتئاب، لكن إن استكملت معهم الحديث، فربما تجد أحدهم يقول لك: "بصراحة.. في نفسي شيء لا أعرف كيف أقوله، أنا متعلِّق بشخصيّة متزوجة وتعول، ويصعب أن تنفصل عن شريكها!"، بالإضافة إلى أسرار أخرى كثيرة يصعب على الشخص أن يصرّح بها إلا بعد فترة.

إذًا فالحالة المزاجية المنخفضة لا تنبع دائمًا من اضطراب دماغي أو خلل كيميائي، بل من الممكن أن تكون استجابة طبيعية حدثت بسبب السعي وراء هدف يستحيل تحقيقه، لذا نرى أنّ بعض الناس يتعافون حرفيًّا إن تخلوا عن المنافسة، أو إن ابتعدوا عن العلاقة المستحيلة التي يحاربون من أجلها.

ويوجد مقياس يساعد الطبيب على تتبع الموارد المختلفة، ويتكون من أسئلة تخص الحياة الاجتماعيّة والوظيفة والعائلة والأطفال والصحة والحبّ وغيرهم من العوامل التي تؤثر في حياة الإنسان، المهم أنّ يصرّح الشخص بالتفاصيل وإن كان يراها غير مهمّة، لأن مشاعر الإنسان دقيقة جدًّا.

البحث مستمر

وقبل أن أنهي معك الحلقة يا صديقي، أريد منك أن تطمئن أنّ الجهد ما زال قائمًا من الأطباء في الطبّ النفسي التطوري الذي يحاول أن يبني جسورًا يسد بها الفجوات والآراء المتعارضة، بدلًا من أن يلقي باللوم على سبب محدد.

وبالطبع أرجو أن تكون دائمًا بخير يا صديقي العزيز، وألا تحتاج إلى كلّ هذا المجهود، وإن أردت أن تبوح بشيء فاكتبه لنا في التعليقات، فربما تعرف سبب مشاعرك السيئة إن تكلمت بصوت عالٍ.