استرح: لماذا تنجز المزيد عندا تعمل أقل

Book-Cover

المقدمة

الراحة.. أسطورة صنعتها البشرية وتناقلتها جيلًا بعد جيل، لا نجد لها ذكرًا إلا في المخطوطات والبرديات القديمة وحكايات الجدات، أسطورة نسمع عنها، لكننا لا نراها.

امتلأ التاريخ بكثير من الأشخاص الذين يدّعون الوصول إلى سرها، وبالأخص في عصرنا الحالي الذي يروج فيه كثيرٌ من المدربين والكتّاب ما يسمونه الراحة، يطالبونك بإنجاز أكبر قدر من المهام، والتعامل مع الراحة على أنها مجرد ضرورة جسدية وأمر جانبي، أو يقولون "اعمل بذكاء وليس بجهد"، كأن الراحة هروب من العمل!

لكنني -أخضر- بحثت بين تلال من الكتب والمخطوطات حتى توصلت إلى كتاب اليوم، كتاب "استرح.. لماذا تنجز المزيد عندما تعمل أقل؟" للكاتب "أليكس سوجونج - كيم بانج Alex Soojung - Kim Pang"، الذي يرفض هذين المفهومين عن الراحة ويقدم في كتابه مفهوم الراحة الأسطوري بوصفه مهارة يمكن لأي إنسان امتلاكها من خلال عدد من الخطوات والمهارات التي سنتعرض لها بعد قليل.

هل الراحة أسطورة أم واقع يمكننا تحقيقه؟

نحن والراحة

1. أول شيء يركز عليه الكاتب هو أفكارنا عن الراحة التي تجعلنا نراها في صورتين سلبيتين:

- صورة نرى فيها الراحة شيئًا جانبيًّا نفعله وقتما يتاح لنا فعله.

- وصورة أخرى نرى فيها أن الراحة نشاط سلبي، نتمدد على الأريكة ونتصفح بلا هدف.

 2- وثاني شيء يركز عليه هو نظرتنا إلى العمل على أنه الشيء الذي يعطي لحياتنا معنًى، فأنا أعمل إذًا أنا موجود، وإن كنت لا أعمل فأنا لست موجودًا ولا قيمة لي! وهل يصح هذا؟!

"عن أي راحة تحدثني؟ لولاها لكنت أعمل الآن وأنجز مهامي! العمل! العمل! سأُضغط بسببه عندما أرجع بعد هذه الراحة، آخر مرة، هذه آخر مرة أترك فيها العمل وأرتاح!".

فكما ترى يا صديقي.. نحن نتعامل مع الراحة كأنها ذنب أو شيء مناقض للعمل، لكن الحقيقة أنها جزء لا يتجزأ من العمل، وأجدادنا فهموا هذه الحقيقة قديمًا وكانوا يعطون الراحة حقها كما يعطون عملهم حقه.

ستقول لي إن الماضي لم تكن فيه كل هذه المشتتات الموجودة حاليًّا، ولا كل هذا الضغط أو ساعات العمل الطويلة هذه.

هذا من وجهة نظرك، لكن بالنسبة إلى أجدادنا كان كل شيء جديدًا ويشبه ما لدينا، الثورة الصناعية والنمو الاقتصادي والعولمة، بالإضافة إلى حربين عالميتين، هذا بالنسبة إليهم -مع بعض الأشياء الأخرى- كان يمثل تحديات كبيرة صعبة، لكنهم استطاعوا أن يتغلبوا على هذه الضغوطات، وهذا ما يمكن أن نتعلمه منهم في تعاملنا مع مشتتات عصرنا الحالي. 

ملحوظة صغيرة قبل أن نكمل.. يقصد الكاتب بالعمل هنا العمل المبدع المتجدد المليء بالتحديات التي تعطي لحياتنا معنًى.

أربع ساعات

ولأننا نقصد العمل الإبداعي، فبقليل من تأمل الكاتب لحياة المبدعين من حولنا، وجد -على الرغم إنتاجهم الكبير- أنهم لا يتعبون ويعملون كل يوم من 12 إلى 15 ساعة كما نظن، لكنهم كانوا يعملون عددًا محدودًا من الساعات ويتركون باقي اليوم حرًّا ملكًا لهم، منهم من يتسلق الجبال أو يتمشى قليلًا أو حتى يفكرون في هدوء.

وهذا شيء نلاحظه مثلًا على علماء ومؤلفين وكتّاب وأساتذة جامعات، وعلى سبيل المثال لا الحصر..

- نجيب محفوظ الذي كان موظفًا حكوميًّا يكتب بعد الظهر من الساعة الرابعة حتى الساعة السابعة.

- ويليام أوسلر أبو الطب الحديث، كان ينصح طلابه أن يعملوا من أربع إلى خمس ساعات في أعمالهم الخاصة، ما داموا منهكين بشدة في مهامهم بصفتهم أطباء.

- ماركيز كان يكتب أربع ساعات في اليوم.

- جي إتش هاردي عالم الرياضيات، كان دائمًا يقول إن "أربع ساعات من العمل الإبداعي في اليوم هي أقصى فترة يعمل خلالها عالم الرياضيات، مع أخذ استراحة كل ساعة".

فالعمل الإبداعي الذي يعطي حياتنا المعنى لا يشترط أن يستغرق من يومنا أكثر من أربع ساعات، هم بالفعل عملوا لآلاف الساعات، لكن من خلال التزام القليل المتصل -الأربع ساعات- بحيث يتركون مساحة لراحتهم تساعدهم على الاستمرار.

الروتين الصباحي

ولتضمن الأربع ساعات ستحتاج أن تثبّت ميعادها في يومك دون أن تتعارض مع جدولك، ويرشح لك الكاتب أن تثبّتها في بداية يومك لارتفاع الطاقة الإبداعية في هذا الوقت، وأيضًا لتضمن باقي اليوم لراحتك ولا تشغل بالك بالعمل من بعد انتهاء روتينك الصباحي.

وهذا بسبب أن العالم لا يعطينا الوقت أصلًا لنرتاح، الراحة ليست شيئًا يأتي في نهاية العمل كما نظن جميعًا، على العكس، الراحة لن تأتي إلا عندما نعطيها مساحة في يومنا ونحترم هذه المساحة، ونتعامل معها بصفتها ضرورة، وهذا عن طريق أن ننتهي من الأربع ساعات المخصصة للعمل في الوقت المناسب "أول اليوم"، ويكون باقي اليوم ملكنا، فلو توافرت لنا ساعة راحة نعلم أننا يمكن أن نرتاح خلالها لأننا أنهينا عملنا في الصباح بالفعل.

لكن يا أخضر ربما أجلس للعمل صباحًا ولا أكون مُلهَمًا بالشكل الكافي!

تحتاج يا صديقي أن تغير فكرتك عن الإلهام، لأن الإلهام ليس هو ما يقود العمل، بل العمل هو الذي يجلب إلينا الإلهام، وما دمنا نعمل توجد احتمالية أكبر لأن يهبط علينا الإلهام في أثناء عملنا هذا، لذا يجب أن تكون عندك مساحة خاصة ثابتة اسمها الروتين الصباحي، أو كما قال بابلو بيكاسو "الإلهام موجود، لكن يجب أن يجدك تعمل".

مهارة التوقف

وأحيانًا تواجهنا مشكلة عندما نتوقف عن العمل، وهي أننا نترك العمل الذي بين أيدينا حتى ننتهي من كتابة المشهد الذي بين أيدينا مثلًا، أو أننا يجب أن ننهي مذاكرة المحاضرة التي بين أيدينا حتى آخرها، أو أيًّا كانت المشكلة اللي بين أيدينا.

يخبرك الكاتب هنا بمهارة اسمها مهارة التوقف، تقول المهارة إنه لا بأس أن تتوقف في منتصف العمل، بل هذا أفضل، فكما قال إرنست هيمنجواي في نصيحته للكتّاب المبتدئين "إذا توقفت في خِضَمِّ أمر ما فسيعمل العقل الباطن عليه، لكن إذا فكرت فيه بوعيك وقلقت بشأنه فستثبطه وسيتعب عقلك قبل أن تبدأ".

ببساطة اترك بعضًا من العمل لعقلك الباطن، بمجرد أن ينتهي روتينك الصباحي، توقف عند الجزئية التي وصلت إليها حتى لو شعرت أن بإمكانك الاستمرار، تجاهلها واجعل عقلك الباطن في الخلفية يفكر فيها ويحللها مع نفسه حتى ترجع إليها في اليوم التالي ومعك عقلك مستعدًّا متحمسًا لإكمال العمل عليها.

والتوقف عن العمل نوع من الانضباط الذاتي فقدناه في بيئات العمل الحالية، إذ إن الإفراط في العمل هو الهدف، والمشكلة أن الإفراط في العمل لا يعطي عقولنا الفترة الكافية لتفكر في المهمة وتحللها بنفسها، وهذا يؤدي إلى نتيجة عكسية، عقلنا الواعي لن ينجز كل شيء إبداعي وحده، اترك جزءًا من الكعكة لأخيك الباطن أيها الواعي!

تذكر دائمًا أنك لا تعمل عملًا رائعًا بأن تجري إلى خط النهاية من أول يوم أو أول أسبوع أو حتى شهر، لكن الأعمال الرائعة ستتم عندما نتوقف كل يوم عند نقطة استراتيجية نستطيع أن نكمل من عندها.

 مهارة التوقف ستساعدك على أنت تتبع منهجًا أكثر ثباتًا واستدامة دون التضحية بالإبداع أو إجبار نفسك على بلوغ أقصى حد.

استعادة الطاقة

هكذا نكون قد عرفنا ما سنفعله في وقت العمل، يبقى أن نعرف ما سنفعله في وقت الراحة، أو وقت استعادة الطاقة.

توجد ثلاثة عوامل رئيسة في عملية استعادة الطاقة، فكر في هذه العوامل كأنها فيتامينات إن توافرت في وقت راحتك فستعود عليك بفائدة أكبر.

أ) أول هذه العوامل هو الاسترخاء، وهو بطبيعة الحالة العامة نشاط مبهج، غير معقد، وكلنا نمارسه. 

ويعرّف الكاتب الاسترخاء على أنه "مجرد حالة من النشاط المنخفض والتأثير الإيجابي"، وحسب هذا التعريف لا يشترط أن يكون الاسترخاء مجرد راحة سلبية، لكنه يمكن أن يكون نشاطًا خفيفًا لا يستهلك كثيرًا من جهدك الواعي كالرسم أو التلوين أو حتى الاستحمام الذي يضبط مزاجك، وسنتكلم عن هذا بالتفصيل بعد قليل.

ب) العامل الثاني في استعادة الطاقة هو السيطرة، والمقصود بها وعيك بطريقة إدارتك لوقتك وطاقتك وانتباهك وإنفاقك لهم، ألا تكون مجرد ريشة تتقاذفها عواصف الحياة، يجب أن تملك بعض السيطرة والحدود الواضحة بين وقت العمل ووقت الراحة ووقت البيت ووقت الهوايات.. إلى آخره.

المساحات الواضحة التي سترسمها وتسيطر عليها ستعطيك وقتًا أطول وأوضح للراحة، لأنك ببساطة إن لم تفعل هذا فلن تستطيع أن تجد وقتًا للراحة، وستضيع طاقتك وتنفد، وتكون منهكًا كل يوم، بالكاد تنام لتستيقظ في اليوم التالي لتذهب إلى عملك.

ج) والعامل الثالث هو الانفصال عن العمل، أي أن تكون قادرًا على الهروب من انشغالات العمل بمجرد أن تترك مكتبك، فمثلًا لا تستخدم مجموعات العمل على واتساب وقت الراحة؛ هذا الانفصال سيساعدك على أن تسترخي في وقت راحتك من دون منغصات.

لكن الأهم من مجرد أن تغلق الإنترنت ولا ترى الرسائل هو أن تستطيع أن تنفصل نفسيًّا، وألا يكون وقت راحتك كله انشغال بـ"ترى هل أرسل أحد شيئًا على مجموعة العمل ولم أره أم لا؟"، أنت هكذا لم تنفصل عن العمل، بل شُغِلت به أكثر يا صديقي، وفر طاقتك وامنح مخك فترة الانفصال هذه ليتعافى ويسترد طاقته.

العمل العميق

وكما تكلمنا عن الاسترخاء وقلنا إنه نشاط منخفض بأثر إيجابي، وإن الراحة لا يشترط أن تكون راحة سلبية فقط، دعنا نتكلم عن نوع مخصص من الاسترخاء اسمه "اللعب العميق"، وهذه هي الأنشطة والهوايات المجزية التي لها معنًى وأهمية بالنسبة إلينا نحن الأشخاص.

نتعامل مع هذه الأنشطة على أنها ألعاب، لأن اللعب شيء بسيط نتعلم به منذ الصغر مهارات جديدة ونصقلها دون أن نشعر، اللعب محفز للعقل والجسد وغالبًا ما يكون عفويًّا، وحتى لو كان اللعب شاقًّا جسديًّا كالتمارين الرياضية أو صالة الألعاب الرياضية، فهو يفصل دماغنا عن العمل ويخرج توترنا وانفعالنا في الحركة.

والأشياء كألعاب الفيديو لا تعد عملًا عميقًا، لأنها تقدم متعة وإلهاءً لحظيًّا ولا تعلمك أي مهارة ولا تكشف لك أشياء جديدة عن نفسك كأنشطة اللعب العميق.

فترى ما هو اللعب العميق؟

لتميز نشاطًا ما وتقول إنه لعب عميق، يجب أن تجد فيه صفة من أربعة:

- أن يستحوذ على العقل، يقدم إليك تحديات ومشكلات تحلها وفي الوقت نفسه لا تستهلك من جهدك، ببساطة تندمج في اللعبة وتتعلم أمورًا جديدة وتكتشف أمورًا عن نفسك لم تكن لتعرفها من خلال عملك اليومي.

- أن يقدم إليك سياقات جديدة مختلفة تستعمل فيها المهارات التي تملكها أصلًا، بمعنى أنك تملك المهارة لكنك لا تستخدمها بشكل مختلف، فالأمر ممتع ولا يحتاج أن تتعلم مهارات من الصفر وتجهد نفسك.

- أن يحقق لك الإشباع ويكون مرضيًا لك بعد أن تنهيه.

- أن يقدم إليك تواصلًا مع ماضيك، يذكرك بطفولتك، الأنشطة التي كنت تحب أن تمارسها وتوقفت عن ممارستها، كأن تتمشى في الطرق التي كنت تتمشى فيها مع والدك، أو تعود إلى الاطلاع على الفلك الذي كنت منبهرًا به وأنت صغير ولسبب ما توقفت عن الاطلاع عليه، وهكذا. 

واللعب العميق لا يتزاحم مع العمل الأساسي كما قلنا، بل إنه وسيلة لتستعيد طاقتك، وتتحدى ذاتك، وتستعيد شغفك وتحسن قدرتك على الانتباه وحل المشكلات، وتوجد ميزة أخرى في اللعب العميق هي أنه يضع حدودًا واضحة بين العمل والراحة، لأنك عندما تنشغل بالنشاط الخاص باللعب العميق، كحجز الكرة أو الجري أو الرسم، تندمج فيه وتنفصل عن العمل ومشكلاته، ولا تفكر إلا في حل النشاط الذي بين يديك، وهنا يظهر لك فضل الراحة الإيجابية على الراحة السلبية، وهي أنك تخرج الضغط الجسدي لعملك في هذا النشاط، وتخرج معه الضغط النفسي من دماغك.

النوم

وأخيرًا.. بما أن راحة اليوم تبدأ من النوم، دعنا يا صديقي نوضح لك بعضًا من فوائد النوم التي ستساعدك على أن تكون أكثر إنجازًا في يومك.

عندما ننام ينشغل مخنا في إصلاح الأضرار الجسدية وتوليد الأحلام، ويساعد النوم على نمو الخلايا الدماغية الجديدة، وتفسير التجارب، كما يساعد على الحفاظ على التركيز، والأهم أنه يدعّم الذاكرة ويحفظ التجارب والمهارات الجديدة التي تعلمناها، فلتستفيد بوقت عملك لن تكون الإجابة أن تعمل أكثر وتقلل نومك، بل أن تحافظ على وقت نومك لتستفيد بما تعلمته في وقت عملك وتستعمله في اليوم التالي. 

الخاتمة

والآن دعنا نعد روشتة للحلقة لتحدد ما تحتاج أن تفعله: 

- خصص لعملك الإبداعي روتينًا صباحيًّا، واعمل عددًا محدودًا كل يوم لتضمن الاستمرارية لمدة طويلة، وحبذا لو تتوقف في منتصف العمل وتكمل في اليوم التالي.

 - حافظ على الراحة الإيجابية بجانب الراحة السلبية، لأنها ستساعدك على أن تنفصل عن وقت العمل وتستكشف نفسك خارجه.

 - حافظ على النوم لترسخ المهارات والذكريات التي تتعلمها طوال يومك.

أود أن أؤكد لك شيئًا يريد المؤلف نفسه أن يقوله لك.. أولًا: الراحة ليس مقصودًا بها الخمول أو الكسل. ثانيًا: الراحة ليست حقًّا مكتسبًا؛ العالم لن يمنحك الراحة على أنها هبة أو شيء ستفعله وقتما تنهي كل مهامك، الراحة شيء يجب أن تنتزعه من يومك بأن تقاوم رغبة الانشغال وتنفصل وتستريح!