إجهاد التعاطف
مقدمة
في يوم ما، صحوتُ أشعر بعجز رهيب، وكان قيامي من على السرير -هذا الفعل السهل- تحديًا لا أقدر عليه، وكنت أرى أن كل الخطوات صعبة ثقيلة كأن روحي نفسها تقاوم تحركي، وليس عندي طاقة ولا قُدرة لأفعل أي شيء.
وفي ظل إحساسي هذا رجعت بالذاكرة إلى الخلف قليلًا وتذكرت كيف بدأ الأمر، بدأ بروتيني العادي جدًّا، أمسك الهاتف كل يوم وأتصفح الأخبار، لكن الأخبار كلها كانت سيئة، زلزال هنا ومجاعة هناك، وحروب وصراعات وعنف لا نهاية له، وكلما قرأت أكثر شعرت بثقل العالم على كتفيّ أكثر، ولم أستطع التوقف عن متابعة الأخبار أو ترك الهاتف، في العمل وفي البيت ومع أصحابي، أصبحت أتكلم عما يحدث وما يفترض أن نفعله، كنت أشعر بمسؤولية رهيبة تُوجب عليّ أن أشارك وأتكلم، وأخاف أن يفوتني شيء حتى وصلت إلى المرحلة التي أنا فيها الآن، لا أستطيع أن أتحرك.. ماذا أصابني؟
هذه التجربة الصعبة تحدث في أيامنا هذه أكثر مما نتخيل بسبب كثرة الأخبار السلبية التي تحيط بنا من كل ناحية، أنا لا أستبعد أن تكون قد مررتَ بهذا الشعور يا صديقي كما مررتُ به، لذا يجب أن نعرف ما هو إرهاق التعاطف.
مفهوم إجهاد التعاطف
يُعرّفه موقع "كليفلاند كلينك | Cleveland Clinic" الأمريكي بأنه فقدان القدرة على الاهتمام والانخراط في ما يحدث حولك، وهو نتيجة سلبية للتعرض لأحداث مرهقة أو صادمة، وتظهر أعراضه عاطفيًّا وجسديًّا.
وتصفه الدكتورة النفسية "سوزان ألبرز | Susan Albers" بأنه استنزاف عاطفي وجسدي يحدث نتيجة الاهتمام ورعاية الآخرين بشكل متواصل ومتكرر، وبمرور الوقت، يشعرون بتخدير في المشاعر وصعوبة تقديم الرعاية والرغبة في البعد عن الناس جميعًا.
وحسب تعريف ثالث، هو متلازمة تتكون من أعراض كثيرة تشبه أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، لكن سببها الجذري مختلف، لأن معاناة إجهاد التعاطف هنا تمثل صدمة ثانوية، لأن من يعانيها ليس الشخص الذي تعرض لكارثة فعلًا، وإنما الشخص الذي يتعامل مع من وقعوا ضحايا الصدمة، كالأطباء النفسيين والممرضات ورجال الشرطة والصحفيين وغيرهم، وهذا هو الفرق بين إجهاد التعاطف واضطراب ما بعد الصدمة.
لكن يوجد سؤال مهم، هل معنى هذا الكلام أن من يعانون إجهاد التعاطف هم فقط أصحاب المهن التي تقوم على الرعاية وتحتوي على جانب اجتماعي؟
الإجابة لا، هؤلاء بالفعل تكون احتمالية أن معاناتهم أكبر بسبب تجاربهم، لكنه أيضًا ينتشر بين العاديين لأنه -ببساطة وبعيدًا عن كل هذه التعريفات- إجهاد يؤثر فينا وفي حياتنا عندما نهتم بآلام الناس، سواء كنا نعرفهم بشكل مباشر كأهلنا وأحبابنا الذين يمرون بظروف صعبة، أم الناس الذين نراهم ونتابع أخبارهم ونشعر أنهم قريبون منا أو أنهم يتعرضون لمأساة إنسانية صعبة.
فربما من كثرة سماع مشكلات صاحبتكِ النفسية، تتأثرين وتشعرين بإجهاد التعاطف، ويمكن أن يحدث هذا معي بسبب الفيديوهات التي أشاهدها عن أحداث بشعة في العالم ومعاناة الناس، كل هذا بالإضافة إلى إحساسي بالعجز لأني أراهم ولا أستطيع مساعدتهم بالرغم من كل التقدم الذي وصل إليه العالم.
حسنًا.. كيف أعرف أني مصاب بإجهاد التعاطف؟
أعراض إجهاد التعاطف
لإجهاد التعاطف أعراض كثيرة جدًّا نقسمها خمسة أنواع:
1- الأعراض المهنية:
- كانخفاض الروح المعنوية وانخفاض الدافع والإحساس بانعدام الهدف، وهذا طبعًا يؤثر في عملك، ولا تملك طاقة بعدها لتفعل شيئًا، وربما ترى كل شيء بلا جدوى.
- ويمكن أن يظهر أيضًا في التغيب عن العمل تمامًا، وهذا نتيجة أعراض عاطفية وجسدية أخرى تجعلك غير قادر على الذهاب إلى العمل وتشعر أن عقلك وجسمك مُستنزفين.
2- الأعراض المعرفية التي تؤثر في أدائنا العقلي:
- كالارتباك والإحساس بالتيه.
- وتكرار المشهد الصادم الذي شاهدته أو سمعته في عقلك باستمرار.
- هذا بالإضافة إلى التمسك بالرأي والشعور بالجمود وعدم تقبل أي نقاش أو أي شيء مخالف لرأيك.
- وطبعًا الشعور بالإرهاق الدائم وضعف التركيز.
- بالإضافة إلى التهيج وسرعة الغضب لأتفه الأسباب، بسبب وجود طاقة غضب مضغوطة داخلك من العالم والناس، فتخرج لأتفه سبب.
- ومع الأسف.. يمكن أن يتطور الأمر إلى أن يصبح أفكارًا لإيذاء النفس أو الآخرين.
3- أما الأعراض العاطفية التي تظهر على شخص يعاني إجهاد التعاطف، فتكون على هيئة:
- قلق.
- وتقلبات مزاجية صعبة جدًّا يمكن أن تبدأ من مجرد الشعور بالتخدير العاطفي، أي اعتياد المشهد وأن يصبح الأمر مألوفًا بالنسبة إليك، وتصل إلى انفجارات عاطفية شديدة وانهيارات نفسية.
- ومع الأسف.. من الأعراض العاطفية التي يمكن أن تقابلك، الإحساسُ بثقل على قلبك وعلى دماغك يستنزف طاقتك تمامًا، كأنك تجرّ نفسك لتتحرك وتأكل وتشرب.
- بالإضافة إلى الخوف والاكتئاب والحزن الشديد.
- وأخيرًا الشعور بالذنب، ويعرف بذنب الناجي، ويحدث عندما تشاهد أحداثًا صعبة مر بها الآخرون ونحن لا، فنشعر بالذنب لسلامتنا وحياتنا الطبيعية.
كانت هذه هي الأعراض العاطفية التي يمكن أن تظهر عليك فتعرف أنك مصاب بإجهاد التعاطف، لكن هل توجد أعراض أخرى غير الأعراض المهنية والمعرفية والعاطفية؟ نعم..
4- الأعراض السلوكية، وتظهر في:
- اضطرابات النوم والتعرض لكوابيس، لأن عقلك -حرفيًّا- يتصارع مع الأحداث التي سمعتها وشاهدتها وأنت نائم.
- بالإضافة إلى نفاد الصبر وتغيرات في الشهية، إما بفقدانها تمامًا وإما بالإسراف فيها للتغلب على التوتر.
- هذا غير اليقظة المفرطة والترقب لكل شيء حولنا في انتظار المصيبة القادمة أو الشيء الذي سيُدمَّر، وهذا بسبب كثرة السلبيات التي نشاهدها، فأصبحنا منتظرين الكوارث فقط.
- وينتج عن هذا استجابة مفاجئة مرتفعة، فمثلًا لو كنت في بيتك ودخل عليك أخوك الذي تعرف أنه موجود يمكن أن تنتفض وتخاف.
5- آخر نوع من أعراض إجهاد التعاطف هو الأعراض الجسدية، وتظهر في شكل:
- أوجاع جسدية لا تعرف مصدرها.
- ودوار وشعور بالغثيان، بالإضافة إلى صداع دائم، وصعوبات في التنفس وسرعة ضربات القلب.
-ويمكن أن يصل الأمر إلى ضعف الجهاز المناعي، لأنه أكثر جهاز يتأثر بالإجهاد الناتج عن الصدمات، ويمكن أن يضعف أو يتوقف تمامًا نتيجة لهذا، ومن ثم يجعلنا عرضة لأمراض جسدية كثيرة ويجعل أجسامنا غير قادرة على مقاومة الفيروسات والالتهابات.
- لذا يقول الخبراء إن إرهاق التعاطف آلية دفاعية يلجأ إليها الجسم، لينصحك بأن تهتم بنفسك قليلًا وتأخذ خطوة إلى الخلف من كل ما يحدث حولك، لأنك إن كنت تَعِبًا مرهقًا بهذا الشكل فلن تكون قادرًا على مساعدة الآخرين بشكل جيد، وكما يُقال في رحلات الطيران، عندما تنزل أقنعة الأكسجين ارتدِها أنت أولًا قبل أن تساعد أي شخص آخر، ويجب أن تعلم أنه في بعض القضايا التي تتعاطف معها ربما يُقصد أن يُصدَّر إليك الإحباط واليأس والإحساس بالعجز، فانتبه لأن مقاومة هذه الحرب النفسية شيء لا بد منه.
وسنخبرك الآن كيف تحمي نفسك من إجهاد التعاطف وتتعاطف بشكل صحي يخدم الموضوع.
طرائق التعافي واستراتيجيات التعامل مع إجهاد التعاطف
الإفراط في كل شيء ليس جيدًا، حتى الإفراط في شيء جميل نبيل كالتعاطف، ولكيلا يستنزفك التعاطف سنعطيك نصائح كثيرة ستفيدك:
- أول نصيحة هي أن تهتم بمشاعرك، مهم جدًّا أن تعترف بما تشعر به وتقدم إلى نفسك التعاطف، لأننا في أوقات كثيرة نكبت مشاعرنا أو نتجاهلها لأننا منغمسون في مشاعر مَن حولنا ومهتمون بها، وهذا طبعًا ليس خطأً، لكن يجب أن نهتم أيضًا بتحويل جزء من طاقة التعاطف هذه إلى أنفسنا ونعترف بأننا محتاجون إلى راحة، لنستطيع أن نستمر ولكيلا تنفد طاقتنا.
- ثاني شيء يمكن أن نفعله هو أن نضع حدودًا نفسية، أي لا نقدم كل شيء عندنا دفعة واحدة وبشكل مفتوح؛ هذه الحدود ستساعدنا على تنظيم مشاعرنا وما نبذله من طاقة نفسية وعقلية للتعاطف مع الآخرين، فعندما يطلب منك أحد مساعدة، فكر.. هل عندي القدرة الذهنية والنفسية التي تجعلني أقدر على تقديم المساعدة إليه على أكمل وجه؟ إن كانت الإجابة "نعم" فساعده، وإن كانت "لا" فوضح له ولا تقلق؛ هذه ليست أنانية، بل حفاظًا على الذات!
- النصيحة الثالثة لتجاوز إرهاق التعاطف هي أن تتواصل مع من تحبهم وتتكلم عن مشاعرك، فربما مجرد قضاء وقت معهم يخلصك من الضغوط والأفكار السلبية ويعيد إليك الهمة والطاقة لتستمر.
- ويمكن أيضًا أن تحصل على راحة، أي تعطي نفسك وقتًا كافيًا لتجديد طاقتك والاهتمام بمشاعرك، خصوصًا بعد الفترات الضاغطة المليئة بالتعاطف مع الآخرين، لأنك ستشعر بأنك مليء بمشاعر سلبية لكنك لن تستطيع أن تساعد، لذا ارجع خطوة إلى الخلف وافعل كل ما يساعدك على أن تشحن طاقتك من جديد.
- وضروري ضروري، لتتخلص من إجهاد التعاطف، أن تهتم بنفسك وتخصص لها وقتًا، وهذا يشمل أشياء كثيرة كأن تهتم بنومك وطعامك وتخصص وقتًا للراحة والانعزال ولو نصف ساعة في اليوم، تبتعد فيها عن الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي، وتفعل شيئًا يهدّئك.
- يجب أيضًا أن تطور قدرتك على التمييز، تميز أن الأشياء التي تشاهدها وتسمعها هذه لا تحدث لك أنت الآن، ودورك فقط أن تقدم المساعدة والدعم بما تقدر عليه، وليس أن توقف حياتك أو تأخذ موقفًا مماثلًا لموقف الشخص الذي يتعرض للأزمة.
وأخيرًا يا صديقي إن شعرت بأنك غير قادر على أن تستمر بهذا الشكل وترجع إلى الوضع الطبيعي، فلا تتحرج من طلب المساعدة من متخصص ليساعدك أن تتغلب على إرهاق التعاطف.
حسنًا يا أخضر، وإن كان المجتمع كله متأثرًا مُجهدًا، ماذا نفعل؟
ماذا لو كان المجتمع كله مُجهدًا عاطفيًّا؟
عندما تحدث كارثة عالمية سواء كانت حربًا أم وباءً أم حالة من الفوضى بأي شكل من الأشكال، كلنا نتأثر ونشعر بحالة من فقدان السيطرة والعجز تؤثر في المجتمع كله، وفي الظروف المتطرفة هذه يمكن لإحساس كهذا أن يدمر المجتمع!
حسنًا.. ماذا نفعل لنمنع حدوث الكارثة؟
بجانب النصائح التي ذكرناها، أول شيء يمكننا فعله بصفتنا أفرادًا هو أن نركز على الأشياء التي في حياتنا ونقدر أن نسيطر عليها مهما كانت تافهة، مثل أنك تغسل وجهك بنفسك، وتأكل بنفسك، وتستطيع أن تتحرك بإرادة حرة، وتقدر على التفكير، أعرف يا صديقي أن كل هذه أشياء صغيرة، لكن هذه هي الأشياء التي تقدر عليها فلا تقلل منها، المهم هو الشعور بالسيطرة وليس الشعور بأن كل شيء يفلت من يديك أو تشعر أنك عاجز مسلوب الإرادة.
وشاهد الأشياء التي تفعلها من أجل التخفيف من معاناة الآخرين بعيون مختلفة، شاهدها بوصفها أشياء تقدر على فعلها وإن كانت صغيرة، واعلم أن دورك يمكن أن يؤثر ويكون مهمًّا إن كان تبرعًا، أو تعريفًا بالقضية، أو طرح حلول جديدة، أو حتى الدعم والمساندة المعنوية.
أما على المستوى المجتمعي فيلزم:
- وجود حملات تشجع الناس على أن يهتموا بأنفسهم.
- وجود محاولات لرفع الوعي بخصوص إرهاق التعاطف وتأثيراته في الفرد والمجتمع.
- الاهتمام بالتثقيف عن الصحة العقلية وإدارة الإجهاد لمساعدة الناس على الاطلاع على إرهاق التعاطف وتخطيه.
- تعزيز الشعور بالانتماء ليستفيق المجتمع كله، لأننا جميعًا نتعرض للأشياء نفسها وكلنا متأثرون بها، فهذا ليس وقت أي خلافات جانبية، بل وقت دعم وتواصل ومساعدة.
- لو أمكن، إنشاء مجموعات دعم ليتبادل الناس خبراتهم ويشعرون فيها بأن التجربة ليست فردية كما نتخيل.
- وبالطبع لا ننسى دور المنظمات والمؤسسات، التي من المفترض أن توفر للموظفين تدريبًا مهنيًّا على إدارة التوتر وبناء المرونة وتوفير دعم نفسي إن احتاج إليه أحد، بالإضافة إلى مراعاة نفسية الموظفين عمومًا، وأصحاب المهن التي تحتوي على ضغط كبير خصوصًا.
- كما أن للإعلام دورًا، لأنه من المفترض أن يقدم أخبارًا إيجابية تعادل الأخبار السلبية، ويجب أن نعرف كيف نتعامل مع الأخبار السلبية التي نشاهدها.
وأخيرًا.. علاج إرهاق التعاطف عملية مستمرة تحتاج إلى جهد وتعاون بين الجميع لنستفيد ونتعافى جميعًا.
جميل.. هكذا نكون قد اهتممنا بأنفسنا وكل شيء على ما يرام، إذًا ما دورنا بصفتنا بني آدم؟
دورنا أن نساعد يا صديقي..
كيف نساعد؟
كل ما قلناه ليس غرضه أبدًا أن نغض الطرف عن أي شيء سلبي يحدث، على العكس، نحن نحاول أن نتعلم كيف نكون أقوى وأفضل بصفتنا أفرادًا ومجتمعًا لنصل إلى دورنا الحقيقي ونساعد بما نقدر نقدر عليه.
مثل ماذا؟
- مثل دعم المنظمات الإنسانية الموثوق بها التي تقدم المساعدات في مناطق النزاع، ودعمنا هنا يجب أن يكون معنويًّا وماديًّا في الوقت نفسه.
- أن نحاول زيادة وعينا أولًا بحقيقة ما يحدث بأن نتأكد من كل خبر وكل معلومة نقولها، ثم ننشر المعلومات المؤكدة لزيادة وعي المحيطين بنا.
- وإن استطعنا أن نساعد من تعرضوا للأذى فعلًا بإعادة بناء مساكنهم أو تزويدهم بالطعام والرعاية الطبية، فنعم العمل هذا.
- ويمكن أيضًا أن نساعد المبادرات والمنظمات المحلية في المناطق المتضررة، لأنهم أدرى باحتياجات مجتمعهم ويستطيعون إيصال المساعدات بشكل أفضل.
- وإن استطعنا أن نتطوع في المبادرات المحلية مثل بنوك الطعام، فلا نتأخر.
- ومن المهم جدًّا دعم الصحة النفسية وتقديم الدعم العاطفي إلى المتضررين فعليًّا إن استطعنا، ولو بمجرد السماع لهم ومشاركة تجاربهم.
- ويمكننا أيضًا المشاركة في حملات جمع التبرعات لتقديم المساعدة إلى المتضررين.
- وأهم من كل هذا ألا نقلل من دورنا أيًّا كان.
وأخيرًا يا صديقي.. التعاطف شيء نبيل مهم، لكنك تحتاج أن توازن، فكل شيء إن زاد على حده انقلب إلى ضده، فانتبه لنفسك وأدِّ دورك بصفتك إنسانًا دون أن تفقد ذاتك.