المغالطون.. تلخيص لجميع المغالطات المنطقية والانحيازات المعرفية
مقدمة
هل تتابع نشرات الأخبار؟ وهل تقرأ تقارير ومقالات موثوقة من "مصادر خاصة"؟ اسمح لي أن أقول لك إنك تعرضت للخداع والتضليل بدل المرة ألف مرة، أنا لا أخيفك ولا أطلب منك التوقف عن متابعة العالم من حولك، بل سأساعدك أن تكتشف كيف يمكن أن يتم التلاعب بك وتقدم الكذبة إليك في أبهى صورة تتخيلها.
لكن أليس من المفترض أن سهولة تبادل المعلومات في عصرنا تساعد على نشر الحقيقة؟ أو بمعنى آخر، هل سهّل عصرنا الرقمي انتشارَ الأفكار والأخبار الصحيحة، أم زوّد نشر التضليل والأكاذيب؟ انظر حولك يا صديقي، تذكر الأحداث الكبيرة التي حدثت ورَ حجمَ المعاناة للوصول إلى الحقيقة أو توصيلها ونشرها، ستجد أن كمية التضليل والتعتيم الإعلامي مرعبة، لذا يجب أن نتعلّم أهم المغالطات المنطقية لننقي المعلومات والأفكار التي في طريقها إلينا، ولا تخف وتظن أني سأسألك "ماذا تعرف عن المنطق يا مرسي؟".
الأمر بسيط، كما توجد إسعافات أولية في الطب يجب على الجميع معرفتها احتياطيًّا حتى نستطيع التصرف إذا حدث شيء لا قدّر الله، توجد أيضًا مغالطات منطقية أساسية يجب أن نعرفها لنضبط طريقة تفكيرنا، وتكون كالنظارة، ننقي بها المعلومات الداخلة إلى دماغنا، انتبه يا صديقي، ولا تقلق؛ أخضر لن يتركك تتوه، سنضرب مثلًا على كل مغالطة منطقية أو نحكي قصة.
ما معنى مغالطة؟
قبل أن نبدأ في الموضوع مباشرة، وارد أن أحدًا لا يعرف معنى المغالطة المنطقية، هذا شيء عادي.
اسمع يا سيدي.. عندما تريد أن تثبت صحة معلومة أو رأي، يكون عندك ثلاثة أشياء، دليل واستدلال ونتيجة، تريد مثلًا أن تثبت أن هذا الرجل كذاب، ينبغي ألا يصدقه أحد، هذه هي النتيجة، لكن يلزمها دليل ليقتنع الناس، لذا تجمع كل الأكاذيب التي قالها من قبل.
وما العلاقة؟
إن كذب كثيرًا من قبل فهو أصلًا كذاب ويمكن أن يكذب مجددًا، هذا شيء طبيعي جدًّا، وهذا هو الاستدلال، أننا نتقل من الدليل إلى النتيجة.
نعم.. لكن ما علاقة هذا بالمغالطة؟
المغالطة يا صديقي استدلال فاسد، بمعنى أن أقول إن هذا الرجل كذاب لأن خاله كذاب، ألا يمكن ألا يكون كذابًا، ما المشكلة؟!
هكذا عرفت معنى "المغالطة المنطقية"، تخيل معي أن ثلاثة أصحاب يتناقشون معًا، علاء وسيف ومجدي.
المصادرة على المطلوب
المهم.. حذّر علاء سيفًا وقال: "احذر هذه القناة الإعلامية يا صديقي، إنها تزيّف الحقائق، وظل يعدّ له الأكاذيب التي نشرتها"، لم يقتنع سيف، ودافع عنها قائلًا: "كيف هذا؟ لا يمكن لهذه القناة أن تكذب"، لماذا يا سيف؟ "لأنها تنقل الحقيقة فقط".
هنا تدخل مجدي، صديقهم الثالث، أتذكره؟ قال لسيف بصوت عميق: "يا سيف.. لقد وقعت في مغالطة المصادرة على المطلوب، لا يصح أن تقول لي إنها صادقة لأنها تنقل الحقيقة، لأنك هكذا تفترض صحة القضية التي تحاول أن تثبتها أصلًا".
الاحتكام إلى الأغلبية
هنا غضب سيف وقال لهما: "كيف؟ إن كل الناس تشاهدها، كما أنها تحصل على أعلى نسبة مشاهدة في العالم!"، هل سيسكت مجدي؟ لا.. يبدو أنه خريج كلية الآداب ودرس المنطق، فقال: "هذه أيضًا مغالطة يا سيف، وهي الاحتكام إلى العامة، كون الأغلبية مجتمعين على رأي أو فكرة لا يعني أنها الصواب، هذا ليس دليلًا، من المفترض أن نقيّم الرأي نفسه بغض النظر عن عدد الناس المقتنعين به".
الاحتكام إلى السلطة
لأن هذا أيضًا يمكن أن يوقعنا في مغالطة اسمها الاحتكام إلى السلطة، سيف مثلًا يغيّر شكل ملابسه على أساس الموضة المنتشرة بين المؤثرين، بل ويريد أن يقيم حفل خطبته بطريقتهم، وفي حفل الزفاف أيضًا يجب أن يقلد استعراضهم، لأنه شاهد فيديوهات كثيرة يفعلون فيها أشياء معينة، لكن من قال إن هذا هو الصواب يا سيف؟ المشاهير والمؤثرون لديهم سلطة معنوية علينا، يمكن أن تقتنع بسلوك أو فكرة لمجرد أنهم يطبقونها، وهذا بالطبع خطأ.
إذًا يا سيف.. ماذا ستفعل في خطبتك وحفل زفافك؟ لن تقيم حفلًا للخطبة أو الزفاف أصلًا؟! يا ابني.. ليس الأمر أبيض أو أسود، هذه أيضًا مغالطة، لِمَ تضع نفسك بين حلين لا ثالث لهما؟ توجد مساحة كبيرة متزنة في المنتصف يمكن أن تتحرك فيها.
التعميم
ضجّ سيف من مجدي ونفد صبره، فقال: "كل من درسوا الفلسفة في كلية الآداب هكذا، تحبون أن تتصيدوا الأخطاء في أي شيء، كل من درس قليلًا من المنطق سيصدع رؤوسنا ويصدمنا بالمغالطات المنطقية"، بالطبع مجدي لا ذنب له، هذه شخصية اخترعتها لتتلقى ردود الأفعال الغاضبة بدلًا من أخضر، يكفي ما حدث لي في باقي الحلقات.
كما لاحظتم، عمم سيف حكمه على كل من درسوا الفلسفة في كلية الآداب، لكن ليس جميعهم يحضرون المحاضرات أو يذاكرون مثل مجدي، فأصحابي مثلًا يذهبون ليفطروا ثم يعودون إلى منازلهم، لذا لا يصح أن نعمم، كما نقول أيضًا إن هذا الرجل خائن، إذًا كل الرجال مصطفى أبو حجر (شخصية رجل خائن في فيلم مِصري)، ما علاقتنا نحن، لِمَ تظلموننا معكم؟
مغالطة المنشأ
وجد علاء أن النقاش قد احتدّ بين سيف ومجدي، فأراد أن يتدخل ليهدئه قليلًا قبل أن يكبر الأمر، فقال لهما: "صلّيا على النبي يا رجال، إنه منطق (شيطان) ودخل بينكما، لماذا ابتعدنا عن موضوع القناة الإعلامية؟ لنرجع إلى موضوعنا، لقد قرأت كتابًا عن وسائل الإعلام لمؤلف من كوالالمبور..."، فقاطعه سيف قائلًا: "دعنا من هذا الرجل"، لماذا يا سيف؟ قال: "لأنه من كوالالمبور، وأنا لا أقتنع بكلام أي مؤلف من كوالالمبور مهما كان".
طبعًا لم يحب مجدي أن يشعل النقاش ويقول له إن هذه مغالطة اسمها مغالطة المنشأ، ومعناها أن تعارض الرأي أو الدليل أو الفكرة أو ترفضها بسبب منشأها، أنا لا أحب الكوالالمبوريين، إذًا كل كلامهم خطأ.
الشخصنة
انتهى النقاش بين الأصحاب الثلاثة، وذهب مجدي، فعاتب علاء سيفًا وقال له: "ما لك يا ابني تأخذ موقفًا من مجدي؟ لا تثقل عليه ولا تشخصن الموضوع"، ما معنى الشخصنة؟ هل هي مغالطة أيضًا؟!
نعم.. إنها مغالطة مشهورة جدًّا، ولها أربع صور:
الصورة الأولى: تسميم البئر، ومعناها أن أقدّم إليك معلومات عن شخص معين لأشوّه صورته فترغب عنه، وليس للأمر علاقة بالنقاش أو كلامه، كأن أقول لك "أتعرف فُلانًا الذي يشرح لك المحاضرة؟ لقد رسب في مادة منذ سنتين"، طيب.. أين المشكلة؟ ربما اجتهد وذاكر والآن يشرح جيدًا فعلًا.
الصورة الثانية: السبّ، وهنا تشتم الشخص مباشرة، هل سأنتظر حتى نتفاهم بالمنطق والعقل يا رجل، لا.. اشتمه وسيقتنع الناس بأنه مخطئ.
الصورة الثالثة: التعريض بالظروف، وهذه الصورة مشهورة جدًّا وأنت غالبًا تستخدمها يا صديقي، مثلًا عندما تستغرب أن دكتور التغذية سمين، أو عندما يعطيك أحد نصيحة بأن توفّر مالك وتستثمره، فتقول له "وكم مشروعًا تملك إذًا؟".
الصورة الرابعة: صورة أشهر من مغالطة الشخصنة، "أنت أيضًا تفعل ذلك"، وهي بمثابة بطاقة جاهزة معك، تخرجها عندما ينصحك أحد بأن تتوقف عن التدخين لكنه يدخن، أو ينصحك بأن تمارس الرياضة وتحافظ على صحتك وهو لا يفعل ذلك.
التشتيت
سنترك الأصحاب الثلاثة؛ يكفينا منهم هذا القدر، سأحكي لك قصة ثانية، قديمًا كان اللص يأخذ معه سمكة رنجة رائحتها نفاذة، وعندما يسرق مكانًا وتأتي كلاب البوليس بعدها لتتبع الرائحة، كل ما تشمه الكلاب هو رائحة الرنجة الفاسدة العفنة، وليس رائحة اللص، ثم يرمي الرنجة في أي مكان، وهكذا تتم السرقة بنجاح.
ومن هنا يا صديقي جاءت تسمية مغالطة الرنجة الحمراء، وفي الحقيقة لا توجد سمكة رنجة لونها أحمر، لكنها كناية عن قوة رائحتها ودرجة ملوحتها، وأصبحت الرنجة الحمراء خطة أدبية مشهورة، ستلاحظها في الروايات والأفلام البوليسية، وهي الشخصية التي تبدو غير مريحة، وتبدأ تشعر من أحداث الرواية أو الفيلم أنها السارقة أو القاتلة، وفي النهاية تكتشف أنها كانت بريئة.
وستجد أيضًا الرنجة الحمراء في الامتحان، أتعرف المعلومة الزائدة التي يضعها الدكتور في المسألة ولا يكون لها استخدام، يضعها فقط لتظل تفكر عن سبب وضعها وأنت لن تستخدمها، إذًا أي شيء يشتت انتباهك عن الموضوع الأساسي هو مغالطة الرنجة الحمراء.
وتوجد مغالطة أخرى تشبه الرنجة الحمراء، هدفها تشتيت الانتباه أيضًا، اسمها مغالطة رجل القش، وهذه المغالطة أتذكر لها مثالًا لطيفًا جدًّا، كنت أجلس مع صاحبين لي، أحدهما رجل أعمال والثاني ناشط في شؤون البيئة، فالناشط يشكو ويقول: "صناعة البلاستيك من أكثر الصناعات الملوثة للبيئة، والكوكب يتجه نحو كارثة بيئية حقيقية، ويجب أن تضع الدول قواعد وقيودًا على هذه الصناعات، وتبذل مجهودًا أكبر لتوفير مصادر طاقة متجددة ونظيفة"، فقال صاحبي رجل الأعمال: "أنت هكذا تريد أن تعطل لنا صناعة البلاستيك".
أنا -أخضر- استغربت، فالناشط لم يقل بإلغاء صناعة البلاستيك، لكني عرفت في ما بعد أن مغالطة رجل القش هدفها مهاجمة جزء من كلام الآخر لتظهر كأنك هزمته، مع أنك هاجمت رجلَ قش خياليًّا ضعيفًا وتركت الجزء الرئيس من الكلام، فكان المتفرض من رجل الأعمال أن يناقش هل صناعة البلاستيك مضرة فعلًا أم لا، وهل يجب على الدول أن تضع قوانين من أجل هذه الكارثة البيئية أم لا.
ما أراه هو الصواب
أحيانًا لا نهاجم المعلومات أو الفكرة، لكننا في البداية نجمع الأفكار والمعلومات التي تدعم وجهة نظرنا أو اعتقادنا، ونتجاهل باقي المعلومات التي تعارضها، وهذه اسمها مغالطة الانحياز التأكيدي، مثلًا عندما تبحث والدتك على جوجل عن "أضرار النودلز"، وتظهر لها المعلومات التي تؤكد اعتقادها أصلًا بأن النودلز مضرة، في حين أنه كان ينبغي لها أن تسأل "هل النودلز مضرة أم لا؟"، الآن يمكنك أن تشرح لها مغالطة الانحياز التأكيدي لتسمح لك بأن تأكلها.
وتوجد مغالطة تشبه الانحياز التأكيدي اسمها انتقاء الكَرَز، تخيّل أن لدينا شجرة كرز فيها حبات جيدة وحبات فاسدة، ونحن نختار الكرز الجيد فقط، هل هذا يعني أن كل كرز الشجرة جيد؟ بالتأكيد لا، وهذا كما نقول إن كل من يدرسون عند هذا المدرس يلتحقون بكليات الطب والهندسة، لأننا عرفنا أن بعضهم التحقوا بهذه الكليات، وماذا عن الباقين؟ لا يهم، ما رأيته فقط هو النتائج الحقيقية.
السبب الأحادي
الانحياز التأكيدي يمكن أن يوقعنا في مغالطة أخرى هي مغالطة السبب الأحادي، وهنا نختزل الظاهرة في سبب واحد فقط، كأن أقول لك إن زيادة خطابات الصحة النفسية والاهتمام بها، جعل معدلات الاضطرابات والأمراض النفسية تزيد، فهذا الكلام يبدو منطقيًّا من الخارج، لكن إن ركزنا فسنجد أسئلة كثيرة يمكن أن تنقد هذا السبب الأحادي، فلماذا مثلًا لا نستطيع أن نقول إن الاضطرابات والأمراض النفسية موجودة بطبيعة الحال كأي زمان، لكن زيادة الوعي بها مكّنتنا من اكتشافها؟ أو لماذا لا نقول إن الإحصاءات والدراسات زادت فأصبحنا نرصد حالات أكثر؟ هذا بالإضافة إلى أننا استبعدنا عوامل أخرى كثيرة للظاهرة، مثل التقدم التكنولوجي وطبيعة العصر وغيرها.
فيجب يا صديقي ألا نختزل الظواهر المهمة في سبب أو اثنين ونقول إن هذا السبب أو الاثنين أصل المشكلة.
البجع الأسود
لأننا إن تعاملنا بطريقة خطأ مع المعلومات والظواهر واختزلناها أو تجاهلناها، فسنتفاجأ بأحداث غير متوقعة تفسد كل ما اقتنعنا به وفعلناه، وهذا ما حدث مع الأوربيين قديمًا في أستراليا، كانوا يظنون أن كل البجع لونه أسود، لكن لماذا؟ ألا يمكن أن توجد ألوان أخرى منه؟
والإجابة "لا"، أنا أملك بجعًا أسود إذًا كل البجع أسود، لكن في ما بعد عندما ذهبوا إلى أستراليا وجدوا شيئًا أبيض يتمشى على البحر، ما هذا يا أصدقاء؟ إنه يشبه البجع عندنا، فليتأكد أحد أن هذا لونه أصلًا وأنه لم يقع في دهان أبيض أو شيء من هذا القبيل، وفعلًا اكتشفوا أنه بجع أبيض، واضطروا أن يغيروا وصفهم للبجع.
ربما ترى الأمر بسيطًا وتقول إن هذه مشكلات في عالم الحيوان، لكنها مشكلة معرفية كبيرة، وقعنا فيها بسبب المغالطات المنطقية، ولو ألقيت نظرة على حياتك فستجدها مليئة بالبجع الأسود، مثل السؤال الذي تقول إنه مستحيل أن يأتي في الامتحان النهائي، ثم تجده أول سؤال بمجرد أن تمسك الورقة، فلا تسخر من قصة البجع حتى لا تجد بجعة جميلة بيضاء تقفز أمامك في الامتحان.
ختامًا
آخر شيء سنتكلم عنه هو أن المغالطات المنطقية ليست أنواعًا تحفظها لتحرج الآخر، وكلما يقول شيئًا تقول له "هذه مغالطة منطقية"، فمعرفة المغالطات المنطقية جزء أساسي من التفكير المنطقي، الذي أصبح أداة ضرورية جدًّا في عصر رقمي كثرت فيه الأفكار وتعددت فيه مصادر المعلومات، فاجعل المغالطات المنطقية نظارة تميز بها الجيد من السيئ، ولا تمشِ وراء معلومة أو فكرة مبنية على مغالطة أصلًا، انتبه وابقَ مع أخضر، أنا لن أخدعك يا صديقي، نحن عِشرة عُمْر.