متلازمة العافية: خرافة الإنسان الكامل

مُقدِّمة
في سنة 1955 رسم الرسام جون براك لوحة اسمها شارع كولينز عند الخامسة مساءً
ولو ألقيت نظرة معي على اللوحة فستجد الناس فيها:
- ملامحهم كئيبة.
- منطفئين.
- فاقدين الشغف بالحياة.
وهذا بالفعل كان وصف شكل الموظف العادي وهو خارج من عمله في الساعة الخامسة عائدًا إلى بيته في أحد الشوارع الأسترالية، وفي ظل التغيرات الاقتصادية في هذا الوقت فكر السياسيون والاقتصاديون في طريقة تضيف إلى نظام العمل بعضًا من التشويق، وفي الوقت نفسه تضمن أن يبقى الموظفون سعداء وبصحة جيدة بدلًا من نمط العمل الذي أصابهم بالملل، وسموه "نظام العافية".
بالتأكيد يا صديقي أنت الآن مبسوط ومرتاح لهذا النظام، وعندك فضول لتعرف إجابات بعض الأسئلة مثل:
1) ما حكاية هذا النظام بالضبط؟
2) كيف يُطبق؟
3) هل هو جيد أم لا؟
كل هذا سنعرفه في حلقة اليوم المبنية على كتاب (متلازمة العافية: خرافة الإنسان الكامل)، لكارل سيدرستروم وأندريه سبايسر.
تعالَ نطّلع يا صديقي على نظام متلازمة العافية..
سوق العمل بين الماضي والحاضر
في البداية دعنا نلقِ نظرة على سوق العمل اليوم ونسأل أنفسنا سؤالًا مهمًّا: ما الفرق بين حياتنا المهنية اليوم والحياة المهنية في الماضي؟
ربما تقول لي: والله يا أخضر أنا أصلًا لم أعثر على عمل لأصدر حكمًا! :")
أصبت!
- وهذا أول اختلاف..
في الماضي: كانت فرصة العثور على عمل أسهل بكثير من اليوم، بالإضافة إلى وجود التكليف الحكومي.
لكن اليوم: أصبحت سوق العمل ملحمة، قلّت فرص العمل، اختفى التكليف وحلت محله عقود مؤقتة، وأصبحت أنت المسؤول عن توظيف نفسك بنفسك.
- وثاني اختلاف..
في الماضي: كان العمل مكانه المصنع أو المكتب، وينتهي بمجرد عودتك إلى البيت.
لكن اليوم: إن أكرمك الله بعمل، فستجده عائدًا معك إلى البيت، بمعنى أنك:
- أحيانًا تُكلف بمهام إضافية فتكملها في البيت.
- تحضر دورة تدريبية لتطور من نفسك للعمل.
- تفكر في العمل طوال الوقت، وتفكر ماذا ستفعل غدًا في الاجتماع.
-أما ثالث اختلاف والأخطر فهو أنه..
في الماضي: كان يوجد أمان وظيفي، ولا يوجد احتمال أن يغير والدك عمله لآخر عمره.
أما اليوم فالعكس تمامًا، يوجد وعد دائم بالبطالة، كما أنك لا تضمن الاستمرار في عملك لآخر الشهر، بالإضافة إلى عدم الاستقرار الوظيفي الذي أصبح سمة العصر، ففي الصين مثلًا سرّحت شركات قطاع التكنولوجيا نحو 216,800 ألف موظف من شهر مايو سنة 2021 حتى شهر مارس سنة 2022، وسرّحت شركة علي بابا ما يزيد على 19 ألف موظف في سنة 2022 فقط!
وبعض الشركات في مجالات أخرى بمجرد أن تواجه مشكلة اقتصادية تستغني عن بعض الموظفين من دون تفكير.
ونستنتج من المقارنة أن شكل حياتنا اليوم له ثلاث صفات:
- البطالة ظاهرة منتشرة جدًّا، ولا تستطيع أن تحدد إن كان هذا بسبب الظروف الاقتصادية أم لعيب فيك.
- لا فرق بين البيت والعمل، يشغل العمل نصف حياتك والنصف الثاني لتطور نفسك للعمل وتصبح مرغوبًا في سوق العمل، لدرجة أنك إن وجدت وقت فراغ تستكثرته على نفسك وتستغله في حضور دورة تدريبية أو شيء من هذا القبيل، بالإضافة إلى انهيار علاقاتك الأسرية والاجتماعية.
- القلق والخوف من المستقبل، تسأل نفسك "هل سأستمر في هذا العمل أم سيُستغنى عني؟"، أو "هل أغادر كما غادرت نحو ثلاثة أربعة وظائف من قبل؟"، "هل سأعمل بشهادتي أم أغير مجالي؟"، "هل ألجأ إلى عمل مستقل أم دوام كامل في شركة؟".
نظام العافية
وسط هذه الدوامة من التفكير الزائد، جاء نظام العافية وقال لنا "أنا الحل"، يعدك هذا النظام بأن وصفته ستجعلك إنسانًا آخر، إنسانًا كاملًا:
-صحتك جيدة، وجسمك مثالي.
-سعيد دائمًا.
-عندك وعي ذاتي.
وكل هذا سيجعلك في مكانة عالية في عملك، وستصبح مرغوبًا في سوق العمل، بل إن بعض الشركات تطبق هذا النظام بالفعل على موظفيها لتصل إلى نسبة إنتاج أعلى، وبصراحة.. يبدو الكلام جميلًا مُنَمَّقًا من الخارج، لكنه في الحقيقة مُظلم وسيئ من الداخل، لدرجة أن نظام العافية هذا تحول إلى متلازمة.. ألا تصدقني؟ سأثبت لك..
1- لنتفق معًا على تعريف لكلمة متلازمة.. التعريف الطبي للمتلازمة أنها مجموعة أعراض متفرقة في أماكن مختلفة في الجسم، تظهر معًا نتيجة لسبب واحد، كمتلازمة داون مثلًا.
2- إذًا ما معنى مصطلح متلازمة العافية؟
لو طبقت التعريف السابق، فالأعراض هي القلق والخوف والتوتر والإحساس بالذنب الدائم، أما السبب فهو نظام العافية.
ما هذا الكلام؟
كما اتفقنا.. يعتمد نظام العافية على أنك يجب أن تكون إنسانًا كاملًا إن استطعت أن تحقق ركنيه الأساسين، وهما: الصحة المثالية والسعادة الدائمة، في ما عدا ذلك تصبح فاشلًا منبوذًا من المجتمع وليس فقط من سوق العمل، فدعني أعرفك كيف يطبق نظام العافية ركنيه واحكم معي في النهاية.
الصحة والأخلاق
**نبدأ بالركن الأول من "نظام العافية" وهو الصحة المثالية:
يقول نظام العافية إن صحتك يجب أن تكون جيدة، لأنك إن مرضت أو قل مستوى طاقتك فلن تستطيع أن تعمل، وستقل نسبة إنتاجيتك، وبالتبعية ستقل قيمتك السوقية، وتصبح مهددًا بالبطالة أكثر.
ولا تقلق؛ نظام العافية سيساعدك، فبعض الشركات تعيّن مدربين لياقة بدنية ليكونوا مستشارين إداريين في الشركة، يهتمون بصحة وأجسام الموظفين، ويحددون لهم ما يأكلون والوقت والكمية، وبعض التمارين وقت العمل، ومن هنا:
- إن كان وزنك مثاليًّا وصحتك جيدة فأنت موظف مثالي في الشركة، وجسمك يقدر على تحمل عمل لعدد ساعات أكثر، ويحقق إنتاجًا أكثر.
- أما إن كان وزنك زائدًا قليلًا فبالتأكيد أنت موظف خامل ولا يمكن أن نعتمد عليك.
**وبصراحة.. الكلام يبدو منطقيًّا، لكن دعنا نكمل ونخرج من أجواء العمل قليلًا:
ستجد أن بعض المواضيع أصبحت رائجة، مثل: كيفية الوصول إلى فورمة الساحل حتى إن لم تملك المال لتذهب إلى الساحل، هذا غير ماسورة أنواع الحميات التي انكسرت، كالصيام المتقطع، والكيتو، ونظام حمية العقل.
ما نظام حمية العقل هذا؟ هل ستحرق فيه سعرات فكرية مثلًا؟ سأحكي لك عنه في ما بعد.
** المهم.. دع عنك أمور الفورمة، وهيا نفتح التلفاز لنشاهد أفلامًا ومسلسلات:
ستلاحظ دائمًا وجود شخصية تعاني السمنة، وهي المادة الخام للكوميديا، وستجد مشاهد تعتمد على أن ذكاء الشخصيات البدينة كذكاء التفاحة، أو ربما تكون الشخصية الشريرة أو ذات الأخلاق السيئة، أو الكسولة التي لا يُعتمد عليها.
- دعنا نجمع الخيوط السابقة ونرى إلى أين ساقنا الركن الأول من نظام العافية؟
- حوّل نظام العافية الصفات الصحيّة إلى صفات أخلاقية، وكان هذا واضحًا في الصورة النمطية التي يحاول الإعلام والدراما تثبيتها في أذهاننا عن قصد أو من غير قصد، فوُضِعَ الزائدون في الوزن في خانة الأشخاص الكسولين الذين لا يُعتمد عليهم، لأنهم بالتأكيد لا يملكون أقل قدر من قوة الإرادة، وهم السبب في وزنهم الزائد لأنهم لا يستطيعون مقاومة الطعام، على الرغم من أن الطعام ليس هو السبب دائمًا في حالات السمنة، فبعض حالات السمنة سببها المشكلات الهرمونية أو الوراثية أو الآثار الجانبية لبعض الأدوية.
- نشر نظام العافية ثقافة التمركز حول الجسد، بمعنى أنك دائمًا تود الوصول إلى شكل الجسم المثالي، وتركز على اختيار ما تأكله، ولو استطعت أن تلتزم نظامًا غذائيًّا فهذا وحده إنجاز يُكتب في سيرتك الذاتية.
-الشعور الدائم بالخوف والذنب، ستظل خائفًا أن تسمن لأي سبب من الأسباب وتوضع في خانة الكسل وتقل فرصك في العمل، وفي الوقت نفسه يوجد مبرر أو داعٍ يقلل ممن عندهم مشكلة في الوزن،
أما الشعور بالذنب، فيا ويلك إن اشتقت إلى شطيرة برجر!
وفي الحقيقة يا صديقي أحتاج أن أوضح لك أني لا أنكر مخاطر السمنة، وبالتأكيد لست ضد أن تكون بصحة جيدة، كل ما في الأمر أنك لست مضطرًّا إلى أن تنحف وتستخدم طرائق تؤذي صحتك لتصل إلى شكل الجسم المثالي، الذي ربما تكون معاييره غير متناسبة معك، فتصل إلى مرحلة من التوتر والقلق تصيبك بالخجل من جسمك.
الآن انتهينا من الركن الأول، يبقى الركن الثاني من نظام العافية، هل تتذكره؟
ترى هل الركن الثاني أفضل من الأول أم سيؤدي إلى كارثة أيضًا؟
سنرى..
السعادة المصطنعة
الركن الثاني من نظام العافية هو السعادة، وأن تكون سعيدًا طوال الوقت، لا تفارق الابتسامة وجهك أبدًا.
إذًا نظام العافية جميل يا أخضر، فلماذا تظلمه؟
صدقني يا صديقي أنا لا أظلمه، حتى إنني سأخبرك الآن كيف يوصلك نظام العافية إلى السعادة.
بالتأكيد نظام العافية يسعى إلى مصلحتك، إذ توجد دراسة في مجال إدارة الأعمال تقول: "إن العمال السعداء أكثر إنتاجية، والسعادة هي السبيل نحو الإنتاجية"، لذا يجب أن تكون سعيدًا لتصبح موظفًا مُنتِجًا مثاليًّا، وانتبه.. يقول نظام العافية إن السعادة مفتاح النجاح وليس العكس، وإن السعادة اختيار ومسؤولية شخصية، لأنها موجودة داخل كل واحد منا، تشبه القوة الروحية في فيلم فول الصين العظيم، وكل ما تحتاجه لتصل إلى السعادة هو أن تفكّر بشكل إيجابي. :")
وعلى أساس هذا المفهوم الخطأ للسعادة، مع الأسف تنقلب الآية ويتحول الأمر إلى تعاسة وكآبة، لأن السعادة هكذا أصبحت مفروضة عليك في كل الأوقات، حتى إن كان داخلك مشاعر أخرى كالحزن والقلق والغضب، لا يمكن أن تظهرها، وإن لم تستطع أن تكون سعيدًا فقد فشلت في أن تفكر بشكل إيجابي، وحتى لا تظهر فشلك هذا مثّل أنك سعيد بشكل مثالي.
لكن كيف يمكن أن أفكر بطريقة إيجابية وسط كل هذا السواد؟ فربما أصل إلى السعادة فعلًا.
التفكير الإيجابي
من هنا جاءت وظيفة التدريب على الحياة "Life coaching"، الشخص الذي يساعدك أن تفعل أي شيء بشكل أفضل، ويمكن أن تستشيره في كل شيء، مثلًا: تريد أن تشتري بيتًا، أو تحسن صحتك، أو تجد عملًا، أو تحسّن مهاراتك، أو تكتشف ذاتك، أو أي شيء حرفيًّا.
وأهم أداة يستخدمها في تحقيق كل هذا هي أن تصل إلى طريقة التفكير الإيجابي.
أصبحت مهنة التدريب على الحياة "Life coaching" شائعة جدًّا في حياتنا المعاصرة، إذ يوجد نحو 45000 مرشد حول العالم، وتكلف هذه المهنة نحو ملياري دولار سنويًّا.
- لكننا حتى الآن لم نعرف معنى التفكير الإيجابي؟
هو نوع من أنواع التفكير السحري الذي يعتمد على أنك تستطيع أن تحقق أي شيء بقوة عقلك وموقفك الإيجابي، وإن لم تصل فأنت تفكر بشكل خطأ.
وانتشرت طريقة التفكير الإيجابي جدًّا بين الناس خصوصًا بعد نشر كتاب السر للمؤلفة روندا بيرن استخدمت فيه:
- حكايات عاطفية وكلمات فيها حكمة لتقنع الناس.
- الوعد بالنجاح السهل بقوة التفكير الإيجابي فقط.
**تقول المؤلفة: "إن أردت أن تصبح غنيًّا فركّز عقلك على الأشياء التي ترغب فيها، ومن ثم سيعمل عقلك كالمغناطيس، وقوة أفكارك ستجذب إليك المال والثروة".
حتى الأمراض يمكن تُشفى منها بقوة إرادتك إن ركزت ذهنك على الشفاء، وإن كنت تفكر بطريقة إيجابية فلن تمرض أصلًا!
وعلى أساس التفكير الإيجابي استغل بعض مدربي الحياة "Life coaches" هذه الفكرة في أمور خطيرة كصحتك، أتذكر نظام حمية العقل الذي أخبرتك به؟ هذا مثال حي لقوة التفكير الإيجابي:
فتجدهم يقولون إن السمنة مشكلة متعلقة بالتفكير وليست مشكلة صحية، والأمر كله متعلق بتفكيرك، إن كان عندك قناعة بأنك لن تسمن أو إن أردت أن تنحف، فبقوة تفكيرك تستطيع أن تنحف دون أن تشعر.
أما المشكلة التي نتجت عن ظاهرة التفكير الإيجابي فهي:
-أنك أصبحت تركز أكثر على ذاتك، وتحمّل تفكيرك مسؤولية كل شيء وتتجنب أية عوامل أخرى، فمثلًا إن لم تجد وظيفة فمستحيل أن يكون السبب سوء الأوضاع الاقتصادية، بل طريقة تفكيرك السلبية.
أريد أن أوضح لك يا صديقي أني لا أهاجم كل مدربي الحياة "Life coaches"، فمنهم من يراعي مهنته وساعد أناسًا على أن يحلوا مشكلات حياتهم بطريقة عملية غير خرافية، كما أني لا أشجعك على التشاؤم أو أن تبتعد عن الاستبشار بالخير، بل أريد منك أن تُحسن الظن وتأخذ بالأسباب، ولا تعتمد على أن تلقي كل شيء على ذاتك وقوة تفكيرك!
حسنًا يا أخضر.. ماذا يبقى لنا؟
سأخبرك بآخر وسيلة يستخدمها نظام العافية ليفرض نفسه على حياتك..
التلعيب
وهو مفهوم اسمه التلعيب أو gamification، وهو أن تطبق وسائل الألعاب على حياتك الحقيقية، وتعتمد فكرته على تحويل أي شيء روتيني أو ممل إلى شيء يمكن أن تحبه وتدمنه، ويعطيك عليها مكافآت لتستمر فيها.
توجد تطبيقات فكرتها قائمة على أنها تحوّل مهام يومك الروتينية إلى لعبة، تستيقظ من النوم لميعادك، وتذهب إلى العمل أو تصعد السلم أو تطوي الغسيل، أو تغسل الأطباق، أو تقرأ ملخصًا على تطبيق أخضر، أي شيء تفعله في يومك حرفيًّا، وبعدما تنهي مجموعة المهام تحصل على نقاط توصلك إلى مستوًى أعلى في اللعبة، أو تشتري مُعِدات لشخصيتك داخل اللعبة وهكذا، وتوجد تطبيقات كثيرة في مجالات أخرى، كالتعليم، وحتى الزواج!
شعر نظام العافية أن مفهوم التلعيب يمكن أن يجعل الموظفين يلعبون نظام العمل وتزيد إنتاجيتهم، فأراد أن يغامر، وفعلًا أصبح بإمكانك أن تقضي عدد ساعات أكثر في العمل لتزيد نقاطك في الشركة وتحصل على مكافأة أو تنجز مهامًا أكثر لتترقى وهكذا.
الخاتمة
وفي النهاية يا صديقي.. كلنا نريد أن نصبح سعداء، صحتنا جيدة، ناجحين في حياتنا المهنية، ولكن السعي إلى تحقيق كل هذا بشكل مثالي مَفروض عليك، وليس لنفسك، بل من أجل عجلة الإنتاج، ففي النهاية تدخل دوامة من القلق وجلد الذات والإرهاق، تحتاج فقط أن تضبط موازين حياتك وألا تظلم نفسك.
أخبرنا في تعليق.. هل أنت مع نظام العافية أم ضده؟