فهم الأمراض النفسية منطقيًّا

Book-Cover

مقدمة

صديقنا سامح منذ فترة مزاجه ليس في أحسن حال، ويشعر كأن هناك خطبًا ما لكنه لا يدري ما هو، وهنا قرر أن يلجأ إلى الشيء الوحيد الذي يعرفه: جوجل.

وبدأ يكتب أعراضه؛ شعور بالضيق، حزن، تقلبات مزاجية، والحمد لله احتار سامح أكثر بعد أن بحث، لأنه كلما قرأ عن مرض نفسي وجد فيه أعراضًا تنطبق عليه، من اضطراب قلق، إلى اكتئاب، إلى اضطراب ثنائي القطب وغيرها، إلى أن شعر بضيق أكبر.

لماذا يا سامح؟

ما فعله سامح خطأ كبير، وليس هو وحده؛ كلنا فعلنا ذلك، سواء أكانت الأعراض نفسيةً أم جسدية، وفي الحالتين الأمر كارثة، لأن تشخيص الأمراض معقد جدًّا، وخصوصًا الأمراض النفسية، فلا يعني شعورك ببعض الضيق أو الحزن أن تقول إنك مصاب بالاكتئاب، أو إذا رأيتك صاحبك قلقًا بعض الشيء بسبب العرض التقديمي الذي سيقدمه أن تقول له هذا اضطراب قلق اجتماعي.. من أين لك بهذه الثقة؟

الحقيقة أن الصحة النفسية ما زال يُكتشف فيها كل يوم جديد، وليس فيها أمور قاطعة، وقبل أن نفكر في تشخيص أحد أو نتصرف كأننا دكتور نفيس النفساوي للأمراض النفسية، لا بد أن نعرف أولًا ما معنى هذه الأشياء التي نقولها.

ماهية الصحة النفسية 

نبدأ من البداية، ماذا تعني الصحة النفسية؟

تعرف بأنها الحالة الشاملة لجودة وقدرة وفاعلية عقلك أو روحك ونفسيتك. 

باختصار  يا صديقي.. مثلما يحتوي جسمك أعضاء وأجهزةً إذا مرض أي منها، تكون مريضًا جسديًّا، فالأمر نفسه مع الصحة النفسية.

ففي عقولنا عناصر كثيرة، كالمشاعر والأفكار والتصورات والذكريات والمعتقدات وغيرها، وتعبر الصحة النفسية عن مدى جودة تفاعل هذه العناصر وعمل بعضها مع بعض، وعندما يختل هذا التفاعل أو يفسد، تكون هناك مشكلة في الصحة النفسية.

ممممم، هل يصح إذًا يا أخضر أن نقارن بين الصحة الجسدية والصحة النفسية؟

بالطبع يصح، وأخبرك شيئًا آخر، المقارنة بينهما مهمة وضرورية جدًّا، هل تسأل لماذا يا صديقي؟ 

هناك سببان:

- الأول: أن أناسًا كثيرين غير مقتنعين بما يسمى صحة نفسية، فما بالك بالحديث عن مشكلاتهم أو أمراضهم، وأناسًا أكثر يسمعون عنها لكن لا يفهمونها جيدًا. 

وهؤلاء معذورون لأن مشكلات الصحة النفسية غير مرئية، لا أحد يمكنه رؤية ما يدور في دماغ الشخص الآخر، ولكي تقنع شخصًا بوجودها لا بد أن تقربها له باستخدام كلمات الصحة الجسدية التي يعرفونها.

- ثاني سبب لصالح مقارنة مشكلات الصحة النفسية بالجسدية هو ببساطة أن هناك أوجه شبه بينهما فعلًا، فكلاهما مثلًا يظهر بأشكال كثيرة، ويمكن أن يكون نتيجة حادثة صادمة فجائية، أو يظهر بشكل تدريجي، ويمكن أيضًا أن يكون مزمنًا أو عابرًا.

ممممم ما الفارق بينهما إذًا؟

- الفرق في اليقين، ففي الصحة الجسدية هناك مشكلة وحل، علاج وأدوية، لكن الكلام عن مشكلات الصحة النفسية لا يكون بهذا الشكل؛ يكون مرتبطًا بأمور سلوكية مثل التكيف والتأقلم والمواءمة. 

- كذلك وأنت مريض جسديًّا تكون على طبيعتك وتتعامل مع الناس، لكن مشكلات الصحة النفسية تؤثر في سلوكك وتفاعلك مع الناس.

- وآخر اختلاف أنه لا معايير مادية لتحديد المرض النفسي، فلا أشعة ولا تحاليل يمكن أن تكشف عنه، لأن مشكلات الصحة النفسية تقاس بمعايير نفسية، كالتفكير والسلوك والعقائد، وهذه المعايير يحددها المجتمع، ومن ثم مفهوم "المرض النفسي" وما هو غير مقبول يمكن أن يختلف من مجتمع إلى آخر. 

لكن بالطبع هناك اضطرابات نفسية معروفة ومنتشرة في المجتمعات كلها، وأشهرها وحش الاضطرابات النفسية "الاكتئاب".

 ماهية الاكتئاب 

تدور أغلب مناقشات الصحة النفسية حول الاكتئاب..

فما الاكتئاب؟

سأخبرك بما ليس اكتئابًا.. الاكتئاب ليس مزاجًا سيئًا لبعض الأيام، لا إنه أكثر من ذلك بكثير. 

المزاج السلبي هو اكتئاب يومي عادي، لكن الاضطراب النفسي المقصود هو الاكتئاب السريري العيادي، وشتان بين الاثنين.

فطبيعي أن تكون حزينًا ومكتئبًا إذا فُصِلت من عملك، لكن الاكتئاب بالمعنى السريري أو العيادي هو حالة نفسية وعقلية مرهقة، لا يملك الشخص فيها دافعًا أو طاقة، ولا يعرف ما الذي يمكن فعله لكي يغير حالته.

ولكي يصنف هذا الشعور اكتئابًا لا بد أن تنطبق عليه هذه السمات:

1- لا بد أن يستمر لمدة أسبوعين على الأقل.

2- وألا يكون له سبب واضح.

3- بالإضافة إلى أنه في هذه الحالة لا يكون الشخص مهتمًّا بفعل ما يسعده أو لا يستطيع الاستمتاع به.

4- وبالطبع لا يملك الشخص طاقة عمومًا ويتعب بسرعة.

وتوجد كذلك أعراض أخرى كفقدان الثقة بالنفس والشعور بالدونية، وكره الذات والشعور بالذنب، والتفكير في الانتحار، وضعف القدرة على التفكير أو التركيز، وغيرها. 

المهم أن هذه الأعراض المستمرة هي سبب الاختلاف الجذري بين اضطراب المزاج الحقيقي للاكتئاب والتجربة اليومية العادية للحزن، ومع ذلك في حياتنا العادية نصف الاثنين بالاكتئاب، وهذا ما تنتج عنه مشكلات كثيرة كاستهانة بعض الناس بحالة المكتئب، وتعليقات من قبيل: "لماذا تعقد الأمور؟" و"تقرب إلى الله وستكون في أفضل حال"، التي تكون مؤذية جدًّا لأنها تُشعر المكتئب أن المشكلة فيه هو، وأنه السبب في حالته.

ما السبب إذًا يا أخضر؟

أسباب الاكتئاب 

تعددت النظريات حول أسباب الاكتئاب، وسنتناول هنا نظريتين فقط:

الأولى هي النظرية التي تقول إن الاكتئاب -نوعًا ما- خلل في التوازن الكيميائي، وتعتمد على فرضية تسمى فرضية أحادي الأمين.

من أحادي الأمين؟

سأخبرك يا صديقي..

يتكون المخ من خلايا عصبية، وعددها نحو 100 مليار خلية مسؤولة عن كل ما يفعله المخ، من التنفس إلى الحركة إلى معالجة اللغة والتخيل، وغيرها الكثير.

وهذه الخلايا العصبية تتواصل باستخدام النواقل العصبية، ولها أنواع كثيرة، من ضمنها فئة أحادي الأمين، التي تحتوي هرمونات مثل الدوبامين والأدرينالين.

تقول النظرية إن الاكتئاب سببه قلة وجود الناقلات العصبية الأحادية الأمين، وساعد على تأكيد هذه النظرية اكتشاف مضادات الاكتئاب عن طريق الصدفة، على هيئة أدوية تجريبية لأمراض أخرى كالسل والصدمة الجراحية، ثم اكتشف الباحثون أن هذه الأدوية ترفع الحالة المزاجية للمرضى، وتجعلهم أسعد وأنشط.

ماذا كانت تفعل هذه الأدوية؟ كانت تزيد من نشاط الناقلات العصبية الأحادية الأمين!

ومن هنا نشأ تفسير الخلل الكيميائي للاكتئاب.. جيد هذا الكلام؟

جيد، لكن في السنوات الأخيرة بدأت تظهر شكوك حول هذه النظرية، وأنها بسيطة أكثر من اللازم، فما دامت المشكلة في قلة الناقلات الأحادية الأمين، فإن مضادات الاكتئاب بمجرد دخولها مجرى الدم تزيد منها، لماذا لا يحدث تحسن فوري؟ وفي حالات أخرى لا يحدث تحسن أصلًا!

ثاني نظرية تفسر الاكتئاب تدور حول المرونة العصبية.. 

المرونة العصبية هي قدرة المخ على التغير والتكيف وإعادة تنظيم نفسه.

والآن توجد أدلة تقول إن المصابين بالاكتئاب تقل لديهم المرونة العصبية، ويكون مخهم أقل قدرة على التغير والتكيف، كيف يؤدي هذا إلى الاكتئاب؟ 

قلنا إن الاكتئاب يُشخص عندما تكون الحالة المزاجية السيئة ثابتة، والشخص غير قادر على الخروج منها، ولو نظرنا إلى الاكتئاب بهذا الشكل سنرى أن خلايا المخ الأساسية هنا تكون فاقدة لقدرتها على التكيف والتغير!

وبالفعل اكتُشف وجود انخفاض في حجم ونشاط "الحُصين" للمكتئبين، وهو جزء أساسي في المخ خاص بالتعلم والذاكرة، ومن ثم يتسبب في فقدان القدرة على التأقلم، لأنك تحتاج إلى أن تتعلم وتحتفظ بالمعلومات الجديدة، لكي تستطيع التأقلم وتخطي التجارب السلبية، والحصين الضعيف يمنع هذه القدرة ويفسر كيف لا يستطيع المكتئبون أن ينتقلوا من الحالة المزاجية السيئة.

هاتان نظريتان فقط، وما زال هناك كثير نجهله عن الاكتئاب، وكل يوم تظهر نظريات جديدة عنه، لكن الأكيد أنه ليس نتيجة قلة تدين أو كسل.

انتهينا من الاكتئاب؟ لنتناول الآن القلق..

إيجابيات القلق وسلبياته 

إن مخنا -اللهم لا حسد- أكثر ما هو ناجح فيه أن يجد أشياء تقلقه، لا تقل لي صراع أسود أو نمور أو غير ذلك. 

نحن أرقى من ذلك بكثير، إننا نقلق من أشياء لم تحدث أساسًا.. لكن للحق يا صديقي، لهذا الأمر إيجابيات وسلبيات.

نعم له إيجابيات، هل تعرف أن القلق أحد أسرار بقاء البشرية؟ 

نعم بالطبع، فأن تكون قادرًا على توقع المخاطر والتهديدات وتجنبها هو ما يجعلنا على قيد الحياة حتى الآن.. هل تسأل كيف؟

المخ البشري عضو شديد الحذر، وطور أنظمة كثيرة جدًّا لكي يجعلنا منتبهين للتهديدات والأخطار،

ويسمي العلماء هذا النظام نظام اكتشاف التهديدات، وهو لا يكشف عن المخاطر فحسب، لكنه يجعلنا نستعد لها، إما بالهروب وإما بالهجوم.

هذا جيد، ما السلبيات إذًا؟

تحدث المشكلة عندما نكون في حالة اليقظة هذه طوال الوقت، ولا يميز قلقنا بين المشكلة العادية كأن أكون نسيت إجراء اتصال، وبين صاروخ نووي داخل على العمارة التي أسكنها.. وهذا شيء مرهق جدًّا، وله أنواع كثيرة جدًّا يصعب حصرها.

أنواع اضطرابات القلق

لكن عمومًا كلمة القلق تعبر عن وجود حالة دائمة من التوتر والخوف والارتباك، وأشهر نوع يصف القلق بمعناه الكلاسيكي هو "اضطراب القلق المعمم"، الذي تتمثل أعراضه في:  

- وجود القلق المفرط والهم على أمور غير منطقية وتمنعك أن تمارس حياتك بشكل عادي.

- ووجود أعراض جسدية كتسارع معدلات ضربات القلب والتعرق والارتجاف وغيرها. 

- إضافة إلى مشكلات التركيز واضطرابات النوم والشعور بالإرهاق والخوف. 

- وبالطبع عدم القدرة على إيقاف هذا التوتر. 

وثاني نوع منتشر من اضطرابات القلق هو الرهاب أو الفوبيا، والإحصائيات تقول إن واحدًا من كل عشرين شخصًا في العالم يعاني منه، وله أنواع كثيرة:

- فهناك أنواع فوبيا تكون من الحيوانات كالفئران والكلاب. 

- وهناك فوبيا من عناصر البيئة الطبيعية، كالخوف من المياه ومن المرتفعات. 

- وهناك فوبيا ظرفية، وتكون نتيجة مواقف أو ظروف معينة، كالخوف من الأماكن المغلقة، وكلها أنواع رهاب بسيطة لأن سببها معروف.

لكن هناك نوع أصعب اسمه "رهاب مركب"، وله أنواع كثيرة أيضًا، أهمها وأشهرها: 

الرُّهاب الاجتماعي أو اضطراب القلق الاجتماعي، وهو ناشئ من أننا -نحن البشر- كائنات اجتماعية جدًّا، لذلك توجد أجزاء كثيرة من مخنا دورها تكوين العلاقات مع الآخرين والحفاظ عليها، ولو تعرضنا للرفض أو للإحراج من الناس، حتى لو كانوا غرباء عنا، يحدث نشاط في أجزاء من المخ مسؤولة عن معالجة الألم!

ما الحل مع هذا القلق إذًا؟

هناك طرائق متنوعة للتعامل مع القلق، أولها طبعًا الأدوية، كالفاليوم والديازيبام والمواد الأفيونية، وبالطبع يجب عدم تناولها إلا بإرشاد ومُتابعة من الطبيب.

وهناك حالات أخرى أقل شدة يمكن أن يساعد فيها تغيير نمط الحياة، كتحسين النوم والتوقف عن التدخين والتمارين الرياضية.

لكن العلاج بالطبع يختلف حسب نوعه وحدته، وهو ما سيساعد فيه المعالج النفسي.

آخر قضية نفسية سنتحدث عنها هي الإدمان..

الإدمان 

لماذا الإدمان؟

يقول الكاتب إن كل الاضطرابات التي ذكرها إلى الآن نابعة من المخ الذي يعاني من إجهاد وضغوطات كثيرة، وهي أمور لا يحبها المخ، بينما الإدمان عكس ذلك تمامًا؛ المدمن يتعاطى أشياء يحبها المخ ويراها ممتعة لمدة طويلة، وهذا الأمر كذلك يتسبب في مشكلات خطيرة! 

والإدمان الذي سنتناوله هنا هو إدمان المواد ذات التأثيرات النفسية، أي المخدرات وهو النوع الأكثر شيوعًا..

هذه المواد المخدرة تؤثر في المخ والجهاز العصبي عندما تدخل الجسم، وهو ما يتسبب في تغيرات في العمليات العقلية، فيجعلنا نفكر بشكل مختلف ونشعر بشكل مختلف ونعايش مشاعر وإدراكات مختلفة.

ما الذي يحدث في المخ؟

حالات الإدمان كلها تركز على منطقة مخية واحدة وهي مسار المكافأة، مسار المكافأة عبارة عن دائرة عصبية صغيرة موجودة في عمق في المخ، وتتكون من جزأين: جزء يجمع معلومات بخصوص كل شيء يحدث في المخ، ولو وجد شيئًا إيجابيًّا أو جيدًا يرسل إشارة إلى الجزء الثاني لكي يفرز هرمونات تجعلنا نشعر باللذة.

والمخدرات أو المواد الإدمانية بأنواعها تحفز مسار المكافأة لدرجة أكبر من قدرة المخ على التعامل معها، فيضطر المخ لأن يتكيف ويتغير حتى يستطيع التعامل مع هذا النشاط الزائد.

ولأن هذا النشاط يكون نتيجة عامل خارجي هو المادة الإدمانية غير الموجودة في مخك دائمًا، فعندما لا تكون موجودة تظهر كل أعراض الإدمان.

التأثير الثاني للإدمان في المخ يتمثل في تغيير طريقة تفكير المدمن، فمن السهل عليك أن ترى شخصًا مدمنًا وتستغرب لماذا يفعل ذلك، أو ماذا استفاد، لكن هذا الشيء البديهي بالنسبة إليك شيء مختلف بالنسبة إليه، لأن الإدمان اضطراب نفسي وجزء كبير منه اضطراب في التفكير والإدراك.

لأن استخدام المادة المخدرة يجعل أجزاء المخ المسؤولة عن ضبط النفس وإدراك المخاطر والمجازفات وتحديد الأولويات تتغير، وتكون موجهة ناحية هذه المادة الإدمانية فقط!

وبسبب هذه التغييرات التي حدثت في المخ، والتي تظل موجودة لفترة بعد التوقف، تزيد احتمالات الانتكاس.

وأخيرًا، إلى الآن يا صديقي لا يمكن أن نقول إن هناك يقينًا تامًّا في مجال الصحة النفسية والعقلية، لأننا نتعامل مع العقل البشري، وهو كائن معقد جدًّا ويصعب أن نمسكه ونعرف كل ما فيه، لكن ما يمكننا فعله هو أن نحاول أن نفهم.