أمة الدوبامين: العثور على التوازن في عصر الانغماس المفرط
مقدمة
هذه طبيبة نفسية اسمها آن ليمبكي، مرت بها مئات من المدمنين المرضى، كانت تساعدهم على أن يتعافوا ويتخلصوا من إدمانهم، لكنها لم تعرف أنه سيأتي يوم وتصبح واحدة من هؤلاء المدمنين!
يا ستار يا رب! ماذا أدمنت؟ الكحول أم المخدرات؟
الحقيقة أنها لم تدمن هذا ولا ذاك، بل أدمنت روايات رومانسية، نعم.. هذا أيضًا إدمان.🤷🏻
بدأ الأمر بسلسلة "Twilight" التي تجمع بين الحب والخيال، أصبحت مهووسة بها، وبعدها اتجهت إلى الروايات التي تشبه هذا النوع وأصبحت تقرؤها طوال الوقت، ولم تفُق إلا عندما وجدت نفسها ساهرة حتى الفجر تقرأ رواية فيها ممارسات سادية مريضة جعلتها تتضايق من نفسها، وساعتها قررت أن تُقلِع!
وبدأت تسأل نفسها لِمَ حدث هذا معها في حين أن حياتها على ما يرام، وعندها زوج وأطفال وعمل وحرية ومال، لِمَ تراجعت تدريجيًّا إلى عالم خيالي.
ألم يذكرك هذا بشيء؟
الحقيقة أن أغلبنا مثل آن مع اختلاف نوع الإدمان، كإدمان الهاتف أو الطعام أو مواقع التواصل الاجتماعي أو الألعاب أو غيرها من الأشياء المتوافرة التي تستدرجنا إليها ونحن لا نشعر، وبلا سبب.
السؤال هنا.. لماذا؟ وكيف نتحكم في هذا؟
السعي وراء المتعة
نعود إلى كتابنا.. بعد ما حدث مع آن، قررت أن تبحث حتى تجد إجابة لسؤالها.. لِمَ انغمست بهذا الشكل في الروايات الرومانسية؟
وبعد بحث طويل اكتشفت أن أخطر عامل للإدمان والاستهلاك المُفرط هو كثرة توافر المواد الإدمانية التي تحفز الدوبامين وسهولة الوصول إليها، فبضغطة على شاشة يصل إليك أي شيء في الدنيا وبسرعة، لدرجة أنها شبّهت الهاتف بحقنة تحت الجلد توصل إلينا الدوبامين من دون ألم، حتى إن مجرد تصفح الشاشة فقط أصبح إدمانًا ويشعرنا بمتعة.
إذًا ما الحل؟
الحل في تقليل المُتاح من هذه المواد المسببة للإدمان، لأن ساعتها سيقل التعرض لها، ومن ثم تقل احتمالية إدمانها، لأن الحقيقة أن العرض هو الذي خلق الطلب وخلق الإدمان والانغماس، فلم يولد مِنا مثلًا مَن قال: "حبذا لو ظللتُ طوال اليوم ممسكًا بالهاتف، أتصفحه وأكلم أصحابي وألعب وأطلب الطعام وأشاهد الإباحية ولا أتحرك من مكاني"، ثم جاءت التكنولوجيا وقالت: "طلباتك أوامر"، لا.. هذه الأشياء أصبحت متوافرة فاستخدمناها، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تزيد فاعليتها وأنواعها، ونحن -مع الأسف- انغمسنا فيها ولم نستطع الخروج.
هوس التخلص من الألم
وتوافر هذه المواد ليس وحده سبب ما نحن فيه، بل يوجد عامل خطير آخر يساهم في الاستهلاك المفرط وهو الهوس بتقليل الألم؛ بالطبع لا أحد يتمنى أن يشعر بالألم، وبالتأكيد كلنا نسعى إلى المتعة والأحاسيس الجميلة، لكن هل هذا مفيد لنا أم لا؟
ولنصل إلى إجابة السؤال نحتاج إلى نعرف أشكال هذا الهوس في أيامنا هذه..
الشكل الأول هو رعب الأهالي وهم يتعاملون مع أولادهم، فحاليًّا تخلى كثير من الآباء والأمهات عن دورهم التربوي والتوجيهي خوفًا من أن يؤذوا أولادهم نفسيًّا، وهذا كله بسبب فرويد الذي قال إن تجارب الطفولة يمكن أن تسبب ضررًا نفسيًّا دائمًا، وهذه حقيقة لا ننكرها، لكنها لا تعني أن نضع الأطفال في فقاعة مُعقمة مُبطنة مليئة بكلام تشجيعي ليس بها عواقب، فسيأتي يوم ويخرج الطفل من هذه الفقاعة، ولن يرحمه العالم الخارجي!
أما الشكل الثاني فهو خاص بالساحة الطبية التي أصبح شغلها الشاغل التخلص من الآلام كلها، أصبحت مئات الآلاف من الأدوية ترشّح يوميًّا لتمنع الألم وتمنح اللذة، على عكس الماضي، إذ كان الناس يرون أن درجةً من الألم صحيَّةٌ بل ومُهمة في الشفاء، لكننا الآن فقدنا القدرة على تحمل الآلام الجسدية، أو تحمل أقل درجات الانزعاج كالملل مثلًا، وأصبحنا نتجه إلى أي شيء لنشتت انتباهنا، ونحن نأكل أو ونحن نشتري أي شيء، نضع السماعات في آذاننا دائمًا ونستمع لأي شيء، وذلك لأننا لم نعد قادرين على أن نختلي بأنفسنا خمس دقايق!
لكنْ عندي سؤال يحيرني يا أخضر.. كيف نشعر بكل هذا القدر من التعاسة ونحن في زمن مليء بالثروات والحرية والتقدم؟
الحقيقة المُرة يا صديقي أننا تعساء لأننا نحاول طوال الوقت أن نتجنب التعاسة؛ الطبيعي أننا نمر بأشياء سلبية في حياتنا، والمفترض أن نتعامل معها ولا نهرب منها لنجري وراء أية مُتعة لا فائدة منها، فالألم حتمًا سيلحق بنا، لأن ما سيفاجئك يا صديقي أن كثرة المتعة تؤدي إلى الألم، فالمتعة والألم أخوان أصلًا وموجودان في المكان نفسه من المخ!
العلاقة بين المتعة والألم
كيف؟!
اصبر وتعالَ لنفهم من البداية..
منذ بداية الحلقة تتكلم عن الدوبامين والإدمان إلى أن أرعبتنا، أليس الدوبامين هرمون السعادة؟ إذًا فلنكثر منه يا أخضر، لِمَ أنت متضايق؟
سأشرح لك يا صديقي.. أولًا الدوبامين ليس هرمون السعادة، وسأقول لك لماذا نظنه كذلك، في مخنا نظام اسمه نظام المكافأة، يتحفز هذا النظام عندما يحصل على شيء يعدّه الدماغ مكافأة كالطعام والجنس، وساعتها يفرز الدوبامين الذي يمنح شعورًا بالمتعة، والحقيقة أن دور الدوبامين أكبر من هذا، إذ اكتشف العلماء أنه يلعب دورًا أعظم في التحفيز، وفي دفعنا لنسعى وراء الشيء الذي سيمنحنا مُتعة أو سعادة.
لنوضح أكثر.. أحضرَ مجموعة من العلماء بعض الفئران وعدّلوا فيها بحيث لم تعُد قادرة على إنتاج الدوبامين، فماذا حدث لها؟
لم تعد الفئران قادرة على الحركة ولا الأكل، مع أن الطعام كان أمامها، لكنها لم تملك الحافز الذي يجعلها تأكل، وفي النهاية ماتت بسبب الجوع!
وبعدما اكتشفوا أهمية الدوبامين بهذا الشكل، عدّه العلماء المقياس الأساسي لإمكانية إدمان أي سلوك أو مادة، أي كلما زادت كمية الدوبامين التي يفرزها نظام المكافأة بعد الحصول على مادة معينة أو سلوك معين، زادت احتمالية الإدمان!
نتطرق الآن إلى ثاني اكتشاف وهو أن اللذة والألم يعالجان في المكان نفسه من المخ، لكن على طرفي نقيض.
لم أفهم!
تخيل أن داخل دماغك ميزانًا، الكفة اليمنى فيها المتعة والكفة اليسرى فيها الألم، الطبيعي أن الألم والمتعة متساويان وعلى المستوى نفسه، لكن عندما نفعل شيئًا يزيد من إفراز الدوبامين، يميل الميزان ناحية المتعة.
المهم في هذا الميزان أنه لا يحب الميل، يريد أن تظل الكفتان متساويتين وفي حالة توازن، ولا يريد أن يميل إلى أية ناحية، ومن ثم فإن آليات التنظيم الذاتي الموجودة في المخ تعيد التوازن في كل مرة يميل التوازن ناحية المتعة.
هل تقصد أنها ترجعهما متساويين مرة أخرى؟
مع الأسف لا، بل تميل مقدار الميل نفسه الذي كان في ناحية المتعة، لكن هذه المرة في ناحية الألم، وهذه هي اللحظة التي تشعر فيها بأنك تريد تكرار التجربة الممتعة الأولى، وتمد يدك مثلًا إلى الهاتف، لكن إن لم تُلبِّ هذه الرغبة يتساوى الميزان بعد قليل من الوقت، أما إن مددت يدك -وهذا ما نفعله جميعًا- فستميل الكفة مرة أخرى ناحية المتعة ثم ناحية الألم، ثم تعود الرغبة وهكذا، وستدخل في دوامة لا نهاية لها.
ببساطة.. لكل متعة ثمن، ولو استمررنا في الاستجابة للرغبة كل مرة فستقل المتعة ويزيد الألم، لأن جسمنا سيعتاد هذا الشيء ولن يكون له التأثير نفسه، لذا سنحتاج إلى أن نزيد الجرعة لنشعر بالتأثير السابق فقط، وربما يصل الأمر إلى انعدام الإحساس بالمتعة تمامًا!
الكاتبة نفسها تقول إنها عندما قرأت سلسلة "Twilight" مرة ثانية لم تكن ممتعة، وعندما بدأت تستهلك روايات كثيرة من النوع نفسه فقدت القدرة على الاستمتاع بالقراءة عمومًا، مع أنها كانت تحبها طوال حياتها، وهذا كله لأن عقلنا متكيف مع عالم من النُّدرة، فأصبح غير قادر على التعامل مع عالم الوفرة الذي نعيش فيه.
وكيف نصمد في عالم كهذا؟
صيام الدوبامين
أول طريقة للصمود في عالم الوفرة والانغماس المفرط اسمها صيام الدوبامين، وهي بصراحة ليست طريقة سهلة:
- لذا فأول خطوة فيها هي أن تتحفز لها.. كيف؟
بأن تجمع معلومات عن استهلاكك، بمعنى أن تحدد ما تستهلكه بالضبط ومدة استهلاكك له، وتعرف أيضًا سبب استهلاكك له إن كان لتقليل الاكتئاب مثلًا أم التوتر، والأهم أن تعترف أمام نفسك -بكل صراحة- بالمشكلات التي يسببها استهلاكك وما سيتحسن إن تخلصت منه.
- وبعدها تكون جاهزًا لخطوة التنفيذ، التي هي الامتناع، وهدفه استعادة التوازن بين الألم والمتعة، ومدة الامتناع في البداية تكون أربعة أسابيع، أي نحو شهر، لكن هذه المدة في بعض الحالات تقل أو تزيد حسب نوع الإدمان، هذا بالطبع ينفع في حالة إدمان أشياء كمواقع التواصل الاجتماعي والألعاب والطعام، لكن الأشياء كالكحول أو المخدرات أو الإباحية لا ينفع معها صيام الدوبامين.
وانتبه لأن في فترة الامتناع هذه تظهر كل الأفكار والمشاعر والمشكلات التي كنت تخبئها بالإدمان، كالإحساس بالفشل والتيه أو القلق أو الملل، وهنا يجب أن تتعلم كيف تتعامل معها بطريقة صحيحة وألا تهرب منها، وإن كنت تواجه مشكلة حقيقية فابحث عن حل لها.
- بعدما ينقضي هذا الشهر وتستعيد التوازن، تصل إلى الخطوة الأخيرة الخاصة بالمستقبل، وهنا يأتي دورك لتضع خطة إما لتكمل الامتناع وإما لتعتدل في الاستخدام في ما بعد.
أعتدل يا أخضر؟
نعم يا صديقي.. تعتدل طبعًا، هل تستطيع أن تمتنع عن الطعام كله، أو مواقع التواصل الاجتماعي كلها؟ هذه هي الحالات التي نقصدها.
ولنحقق الاعتدال نحتاج إلى أن نستخدم الطريقة الثانية للصمود في عالمنا الاستهلاكي الجميل، وهي استراتيجيات الانضباط الذاتي.
أساليب لتقليل الاستهلاك
ما معنى هذا الكلام؟
استراتيجيات الانضباط الذاتي هذه نتبعها لنمنع أنفسنا من استخدام الشيء الذي ندمنه، ولها ثلاثة أنواع:
- النوع الأول استراتيجيات مادية، وهنا ستضع حواجز مادية تمنعك من الوصول إلى الشيء الذي تدمنه، فإن كنت مدمنًا للتسوق فأعطِ مالك وبطاقتك الائتمانية وكل شيء لأخيك، وأوصِه بألا يعيدهما إليك.
- النوع الثاني استراتيجيات زمنية، تحدد وقتًا معينًا يُسمح لك فيه باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، مثلًا في الإجازات فقط، وليس بعد الساعة الثانية عشرة.
ويمكن أيضًا أن ترتبط بخطوات معينة، فتقول "بعدما أنتهي من مذاكرة هذا الفصل سأسمح لنفسي أن ألعب دورًا".
- آخر نوع من استراتيجيات الانضباط الذاتي هو الاستراتيجيات القاطعة، وهذا النوع يساعدنا أن نتجنب الشيء الذي أدمنّاه، بل ويبعدنا عن المحفزات التي يمكن أن تخلق الرغبة داخلنا ناحية السلوك أو المادة.
فعلى سبيل المثال، زار الطبيبةَ مريض مدمن على مشاهدة الإباحيات، هذا الرجل لم يكتفِ بأنه منع نفسه من فتح هذه المواقع، بل منع نفسه من تشغيل التليفزيون تمامًا، لأن من الوارد أن يرى ممثلة فاتنة تُثير عنده الرغبة، فقرر أن يبتعد تمامًا.
جميل؟ جميل.
السعي وراء الألم
حسنًا.. لقد تكلمنا عن أن الضغط على جانب المتعة يزيد الألم، فماذا لو ضغطنا على جانب الألم؟ لا تقل إن المتعة ستزيد!
بل سأقول، لكن تعالَ نبدأ بحكاية..
كان مايكل مريضًا من مرضى الطبيبة، وكان مُدمنًا على الكوكايين وعانى كثيرًا ليتعافى، لكنه أقلع عن الإدمان منذ عدة سنوات ولم ينتكس، وقال للطبيبة إن واحدًا من أسرار تعافيه كان "الاستحمام بالماء البارد"، هذه حقيقة، لقد استمر على الاستحمام بالماء البارد لمدة ثلاث سنوات، وكان يقول إنه يشعر بعدها براحة رهيبة!
في البداية لم تصدق الطبيبة، لكن عندما بحثت في الأمر اكتشفت فعلًا أن الاستحمام بالماء البارد يرفع نسبة الدوبامين ولفترة مناسبة.
اكتشاف مايكل غير المقصود مثال بسيط على فكرة أن الضغط على جانب الألم يؤدي إلى المتعة، وهذا أيضًا لأن مخنا يحب التوازن، لذا عندما تميل الكفة ناحية الألم، يحفز جسمنا آليات تضبط الميزان وتميله ناحية المتعة، وليس هذا فحسب، بل وبمرور الوقت والتعرض المتكرر لشيء مؤلم تصبح استجابة الألم أقصر واستجابة المتعة اللاحقة أطول.
مستغرب؟
ولِمَ لا ما دام الألم هو الثمن الذي ندفعه مقابل المتعة؟ لِمَ لا تكون المتعة هي مكافأتنا على الألم؟
حسنًا.. أي ألم بالضبط؟ بدأت أفكر في أشياء بعيدة!
الألم المقصود هنا يا صديقي ألم مفيد وبجرعات صغيرة جدًّا، فلا تتخيل أنك إن لطمت وجهك فستكون سعيدًا بعدها، لا.. نحن نتكلم عن آلام أُثبت علميًّا أنها مفيدة، وحدّدتها الكاتبة في ثلاثة أنواع، هي:
- البرودة كالاستحمام بالماء البارد، والرياضة، والصيام المتقطع الذي يقلل من الأمراض.
هذه هي أنواع الآلام المُفيدة التي يمكن أن نلجأ إليها، وأنا أعرف أن السعي وراء الألم غريب جدًّا، وأن طبيعتنا الفطرية تنصحنا بأن نهرب منه، لكن الحقيقة أننا نحتاج إلى أن ندعوه إلى حياتنا ونقبله ونستفيد منه، لأنه لا يحفز السعادة وحسب، بل ويُستخدم في علاج آلام أخرى، وتاريخ الطب مليء بأمثلة كثيرة على استخدام منبهات مؤلمة لعلاج أمراض أخرى مثل الكيّ وغيره، وكما قال نيتشه "ما لا يقتلني يجعلني أقوى"، صدقت يا نيتشه!
وأخيرًا، أنا أعرف يا صديقي أن الأمر ليس سهلًا، وكلنا نجري ونهرب ونتمنى أن نأخذ قسطًا من الراحة من حياتنا ومن العالم كله، لكن ما رأيك أن نذهب إلى العالم بدلًا من أن نهرب منه، وأن ننغمس في عملنا وعلاقاتنا بدلًا من أن ننغمس في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والأكل؟
ربما حينها نكتشف أن كل ما كنا نهرب منه ليس بهذه الصعوبة، وأننا نقدر على أن نتعامل معه ونتخطاه مثل الملايين الذين مرّوا بهذه الأرض وفرحوا وحزنوا، والأهم أنهم عاشوا حقًّا ولم يعيشوا مُخدَّرين!