ملاحظات حول كوكب متوتر

Book-Cover

مقدمة

تخيل معي إن قارنّا حياتنا بحياة شخص عاش في سنة 1900م، من الأفضل في ظنّك؟

بالطبع نحن وبفارق كبير، لكن قبل أن تفرح جدًّا دعني أسألك سؤالًا، هل سمعت عن أسطورة رمز اليين واليانج | yin & yang؟ سأشرح لك يا سيدي، أصل الأسطورة من الفلسفة الصينية القديمة، وفكرتها ببساطة أن لكل شيء جانبين يكمل كل منهما الآخر، جانبًا أسود وهو اليين وجانبًا أبيض وهو اليانج، كالراجل والمرأة أو الليل والنهار.

وما علاقة هذا بموضوعنا؟ علاقته أننا حتى عندما ربحنا في المقارنة بسبب التطور التكنولوجي، نسينا وجود جانب مظلم من المعادلة، وهو الثمن الذي دفعناه من صحتنا النفسية والجسمية، بالطبع دفعنا كثيرًا لكننا سنركز على شعور القلق تحديدًا.

لماذا القلق تحديدًا؟ سأقول لك يا صديقي.. القلق إن زاد عن حده يمكن أن يوقف حياتك تمامًا، سيصبح لديك قرارات مؤجلة، وعلاقات تحتاج إلى أن تضبطها، وتوتر الوظيفة، وشعور بالوحدة، ومواعيد تسليم مهام، وستشعر دائمًا أنك متأخر ويفوتك شيء ما، فجمالكِ ليس كافيًا، وأموالكَ كذلك، لماذا لا تسافر؟ هل أنت شجرة؟ ستصاب بقلق وتوتر يمكن أن يوصلك إلى اكتئاب فعلي ويدخلك في دوامة التفكير الزائد، باختصار نحن نعيش على كوكب متوتر كما يقول "مات هيج | Matt Haig" في كتاب "ملاحظات حول كوكب متوتر" الذي سيخبرنا فيه بكيفية علاج قلقنا وخوفنا والحفاظ على عقولنا، وسنعرف من خلاله مصادر القلق الخمسة الرئيسة، وإن كنا سنقدر فعلًا أن نعيش حياتنا بشكل أهدأ ونركز على جانب اليانج الأبيض من التكنولوجيا أم لا.

تعالَ أخبرك كيف تعيش في كوكب مجنون دون أن تتحول إلى مجنون..

القلق من الشكل

قل لي أولًا، هل حدث ورغبت في أن تلتقط صورة لنفسك ثم نشرتها على قصتك، وبعد قليل اطلعت عليها مجددًا وكبرتها وعندما ركزت وجدت حبوبًا في وجهك، أو شعرت أن أنفك أفسد شكل الصورة، أو لاحظت أن جنبيك ممتلئان بالشحوم؟ بالتأكيد أنك حينها قلت "لو التزمتُ بالحِمية الغذائية لنحفتُ قليلًا!"، وبعدما كنت سعيدًا بالصورة أصبحت متضايقًا منها حتى إنك ربما تحذفها تمامًا.

لكن اطمئن يا صديقي؛ أنت لست وحدك، عالمنا المجنون هو الذي أصابنا بهوس الجمال والقلق من أشكالنا، وحتى بعد انتشار إعلانات عن مستحضرات التجميل والأجهزة الرياضية، والاهتمام غير الطبيعي ببرامج التغذية وارتفاع عدد عمليات التجميل، هل زادت نسب الرضا عن الشكل؟

في الحقيقة لا، بل إن دراسة مجموعة GFK التي اتنشرت في التايم | Time سنة 2015، وضحت أن ملايين البشر حول العالم غير راضين عن أشكالهم، ووصلت النسبة في اليابان إلى 38%، إذًا ما أسباب عدم الرضا العالمي هذا؟

- أولًا: معايير الجمال غير الواقعية، يجب ألا يكون في وجهك أية حبوب أو تجاعيد، وأن يكون جسمك مثاليًّا، وحبذا لو صرت أبيض وصار شعرك أصفر.

- ثانيًا: انتشار صور المشاهير، الذين يصرفون مبالغ كبيرة لتحسين أشكالهم، ولا يقدر أغلب الناس على أن يصرفوا ربعها أصلًا، لكنهم يقارنون أشكالهم بصور المشاهير.

- ثالثًا: اعتبار عدم الرضا عن الشكل مشكلة يمكن حلها عن طريق أن تطبق كلام الإعلانات وتشتري المنتجات التي تعرض عليك، وتشترك في برامج الصحة والتغذية، وتصرف مالًا أكثر على وهم أنك ستصل في مرحلة ما إلى رضًا تام عن شكلك، لدرجة أنه لن تظهر عليك آثار السن.

- رابعًا: الخوف من التقدم في السن والشيخوخة، ومن ثم تحارب أية علامات كالشعر الأبيض والتجاعيد وضعف الجسم، ظنًّا منك أنك ستظل صغيرًا مهما كبرت.

ستسألني: لماذا نشعر أن المشاهير يصغرون؟ يا صديقي هذا كله من عمليات أنت لا تملك ربع ثمنها كما قلت لك، بالإضافة إلى أنها مؤقتة وآثارها مدمرة وتظهر على المدى البعيد.

وما الحل لكي أرضى عن شكلي؟

أن تتقبله كما هو وتحاول أن تغير مشاعرك تجاهه فقط، وهذا لا يعني ألا تحاول أن تحسن من مظهرك إن كان ذلك ممكنًا، كأن تمارس رياضة وتهتم ببشرتك، لا مشكلة في ذلك بشرط ألا يتحول إلى هوس، وألا تضع قيمتك كلها في شكلك لدرجة تسبب لك مصدر قلق مستمر.

القلق من سرعة التغيير

الآن نترك الكلام عن أنفسنا وننظر إلى العالم الخارجي لنتكلم عن ثاني مصدر للقلق وهو سرعة التغيير، فلو ألقينا نظرة على سنة 2000م لما وجدنا فيسبوك أو تويتر أو واتساب، حتى كلمة "سيلفي" كانت ربما تعد سُبة، لكن بعد بضع سنوات حدث تطور كبير في التقنية، وطبعًا كل تغيير في التقنية يسبب حتمًا تغيرات كبيرة في شكل الحياة الاجتماعية، ويقسمها العالم لويس مورجن | Lewis Morgan ثلاث مراحل: مرحلة الهمجية، ومرحلة الوحشية، ومرحلة الحضارية، وكل قفزة من المرحلة إلى الثانية كانت بسبب تطور التقنية الحديثة.

مثل ماذا هذه التغيرات؟ كأشياء كثيرة يا سيدي:

- أولًا: تأثير شبكات التواصل الاجتماعي: وأكبر مشكلاتها الخصوصية، فبياناتنا أصبحت متاحة لمن يحب أن يشتريها ويستخدمها، وإن كان سيستغلها في التأثير في انتخابات أكبر الدول في العالم، كما فعلت شركة كامبريدج آنالتيكا | Cambridge Analytica في الانتخابات الأمريكية سنة 2016م، هذا غير تأثيراتها السلوكية والإدمانية فينا.

- ثانيًا: السياسة: لا أحد يسمع الآخر، وأصبحت فجوة الخلافات أوسع، ونقاط التفاهم المشتركة تقل، بالإضافة إلى انتشار الشائعات والعصبية والكراهية، والغريب أن هذا يحدث في عصر فيه وسائل تواصل لم تكن موجودة من قبل.

- ثالثًا: العمل: هل تستطيع الروبوتات والتقنيات الحديثة أن تحل محلنا فعلًا؟ هل سيتحقق في يوم من الأيام التنبؤ الذي يرجح أن الآلات ستحكم العالم؟ وكيف سنتصرف لنحافظ على وظائفنا في معركة خاسرة ضد عدو لا يتعب ولا يخطئ؟

- حسنًا كفى!

هذه الأخيرة والله..

أخيرًا: تأثير التقنية في البيئة: وهذا ما جعل بعض العلماء يعلنون في المؤتمر الجيولوجي سنة 2016م أن البشرية تخطت حقبة الهولوسين ودخلت حقبة الأنثروبوسين، أي العصر الجديد للإنسان. هل هذا يعني أننا تقدمنا أم ماذا يا أخضر؟ نعم يا صديقي، تقدمنا نحو النهاية، فحقبة الهولوسين التي انتهت هذه كان فيها المناخ مستقرًّا منذ العصر الجليدي، والآن بالطبع نحن وسط ارتفاع معدلات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ونسب التلوث، واستهلاكنا للنباتات والحيوانات بشكل كبير، بالإضافة إلى نفايات المنتجات التي نرميها، نحن هكذا نصنع التاريخ يا صديقي، أحفادنا سيشيرون إلينا ويقولون هؤلاء من بدأ من عندهم التدهور.

القلق من الزمن ومواعيد التسليم النهائية

حسنًا.. ماذا نفعل؟ لا تقلق؛ لدينا بعض الوقت حتى نصل إلى نهاية الكوكب، ولِمَ تقلق من أن يمر الوقت بسرعة؟ لقد استعددتُ وسنتكلم عن ثالث مصدر للقلق وهو القلق من مرور الوقت.

تخيل معي الحياة قبل اختراع الساعة وكيف كانت، لا شيء.. كان الناس يستيقظون في الصباح الباكر وينجزون مهامهم، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم كانوا يضبطون أوقاتهم على أساس الطبيعة، أي قبل الظهر، وبعد العصر، وآخر الليل، وهكذا.. كان اليوم فترات وليس ساعات ودقائق وثواني، حتى القرن السادس عشر عندما قرر شخص -منه لله- أن يخترع ساعة الجيب ويقلل من راحتنا.

وهنا بدأت علاقتنا بالزمن تتغير، أصبحنا نلاحظ مرور الساعات والدقائق وحتى الثواني، ونخطط يومنا كله على أساس الوقت، نستيقظ في السابعة، ونذهب إلى العمل في الثامنة والنصف، والموعد النهائي للتسليم في الثانية عشرة لذا يجب أن أنتهي من المهمة عند الحادية عشرة وتسع وخمسين دقيقة، وأصبحت هذه المواعيد إجبارية، ومع التطور التكنولوجي ازدادت أهمية الثواني في حياتنا، وأصبحنا مطالبين بأن ننجز طوال الوقت ولا نضيع أية فيمتوثانية، واعتدنا أن ننظر في الهاتف لنتابع الوقت وإن لم يكن لدينا مهام يجب أن ننجزها، وزُرِعَ داخلنا خوف من فوات الوقت، ورغم أن عالمنا أصبح أكثر سرعة وهذه السرعة وفرت لنا وقتًا، فإننا ما زلنا بحاجة إلى وقت أطول، ستجد نفسك دائمًا تصطنع الحجج، آهٍ لو تأخر الامتحان ساعتين فقط! وحبذا لو تأخر الموعد النهائي لتسليم المهمة ساعة! ماذا سيحدث إن أصبح الحضور في العمل الساعة الثامنة والنصف بدلًا من الثامنة؟ هل ستطير الدنيا؟!

وما والحل إذًا؟ أنصحك يا صديقي أن تغير علاقتك بالوقت، وما أكثر الفيديوهات والطرائق التي تعلمك كيف تنظم وقتك! لكنك يجب أن تفهم معنى الوقت عندك، وتعرف إمكانياتك لتستطيع أن تحدد الوقت الزمني المناسب لكل أهدافك.

القلق من العمل

وصلنا إلى رابع مصدر للقلق وهو القلق من العمل، الذي تغيرت طبيعته جدًّا كما قلنا في جزء تغيّر التقنية، فقديمًا كان الشخص يمتهن حرفة ويستهلك منتجاتها، فالفلاح يأكل من زرع يديه، والنجار يصنع ما يحتاج إليه بيته من الخشب بنفسه، ولكن مع تقدم التكنولوجيا بدأت تظهر وظائف الياقات الزرقاء والبيضاء، أي العمل المكتبي، شخص يجلس طوال اليوم في مكتب تحت المكيف، وأمامه سلسلة لانهائية من المهام والمشاريع، أليست لانهائية؟ لكن على أية حال يجب أن تنجزها، وفوق كل هذا، بيئات العمل نفسها أصبحت أسوأ، يسودها الحقد والغل والمؤامرات، كل موظف يريد أن يرضى المدير عنه ليترقى بأية طريقة وإن باع مبادئه، وأنت ستضطر إلى العمل وسط هذه البيئة المقلقة، لعل وعسى أن تصبح غنيًّا يومًا ما وتستطيع أن تغادرها، لكن يا صديقي مع الأسف هذا وَهْم، لأن العمل الحديث يزيد غِنى الأغنياء و يفقر الفقراء أكثر وأكثر، وسيُصدّر لك وهم أن النجاح مسؤولية فردية، وأنك تستطيع أن تنجح إن بذلت مجهودًا أكبر وركزت أكثر، بربك ألا يسبب كلُّ هذا قلقًا؟

أنا طبعًا لن أنصحك بأن تغادر عملك وتتبع شغفك وتطير بجناحيك وما إلى ذلك، لا.. نحن نحتاج إلى المال، لكن من المهم أن تضع حدودًا للعمل، سواء كميات المهام التي ستنجزها أم الأوقات التي ستخصصها لعملك، فمثلًا لا تعمل في أيام الإجازة أو بعدما تعود إلى المنزل، وذلك لترحم نفسك وتعطي لها فرصة لترتاح وتشحن طاقتك، ولا تقلق يا صديقي، العالم لن ينهار إن لم تنجز هذه المهمة قبل موعدها النهائي، وحاول أن تشغل نفسك بنشاط تحبه إلى جانب عملك ويمكن أن يدرّ لك دخلًا إضافيًّا، واقترب منه تدريجيًّا وركز عليه أكثر، وإن استطعت أن تستمر فيه إلى جانب عملك فافعل يا صديقي، وإن وجدت أنها فرصة أفضل من عملك، فهنا فقط تستطيع أن تغادر عملك وتقتنص الفرصة.

القلق من الوحدة

الآن نتكلم عن الناس ونسأل سؤالًا مهمًّا جدًّا، كيف تقول الإحصاءات إن عدد من يشعرون بالوحدة والانعزال عن محيطهم يزيد ونحن وسط كل وسائل التواصل الاجتماعي هذه؟! كيف وأنا أستطيع في أي وقت أن أفتح تطبيق واتساب وأتكلم مع صديقي؟

الوحدة يا صديقي -وهي المصدر الخامس للقلق- لا تعني فقط صعوبة التواصل مع الناس، بل تعني أيضًا شعورك وأنت بينهم، نلاحظ الآن أن الأنشطة الفردية حلت محل الأنشطة الجماعية، وهذا يعني أن كل الأنشطة التي كان الناس يمارسونها معًا سابقًا، أصبح كل واحد يمارسها الآن وحده، كما أن التواصل الحقيقي على أرض الواقع قلّ جدًّا وحل محله التواصل الرقمي، الذي مهما ربط الناس بعضهم ببعض فقد حرمهم الحرص على التواصل، وذلك لأن طرائق التواصل زادت وأصبحت أسهل، وأنت ما أن علمت أنك تستطيع أن تكلم صاحبك في أي وقت وضمنت أنك ستجده، أصبحت تتكاسل عن السؤال عنه، أما إن أصبح التواصل أصعب وقلت طرائقه فستنتظر أوقات التجمع وتركز فيها عليه، لأنها قليلة.

وما الحل في رأيك؟ أعرف أن الأمر قد يكون غريبًا، لكن حل الوحدة أن تغادر البيئة الرقمية، أي تقلل من وجودك على مواقع التواصل الاجتماعي، وتعطل إشعارات التطبيقات حتى لا تسرع مع كل رنة وتمسك الهاتف وتتصفحه، والأهم ألا تضع الهاتف بجانب السرير، وتدريجيًّا سترجع إلى العالم الواقعي، وسترغب في التمشية مع أصحابك، وتجلس مع أسرتك أكثر، وإن ما زالت عندك مشكلات في تعاملك مع مواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن تراجع ملخصات النمو الشخصي على تطبيق أخضر.

الهدف هو تقليل القلق وليس التخلص منه

وفي النهاية دعني أقل لك إن شعور القلق جزء من تكويننا البشري، شيء لن نستطيع التخلص منه أو منعه، بل إن بعض القلق صحي؛ يجعلك تهتم وتركز أكثر على ما تفعله، وكل ما نريده هو تقليل القلق السلبي الضار، لأننا -بلا شك- لن نستطيع منع القلق تمامًا، وكما قال المؤلف مات هيج: "كوكبنا متوتر، ولو ألقيت نظرة على أي مكان تستطيع أن تجمع عشرات المسببات للتوتر"، لكن لا تقلق يا صديقي، نحن -على أية حال- لسنا مخلدين على هذا الكوكب، كل ما في الأمر 60 أو 70 سنة على أقصى تقدير وسنموت ونرتاح، أنا لا أقصد شيئًا والله.. فقط أحاول أن أطمئِنك.. ماذا؟ أقلقتك من الموت؟ أنا آسف! مع السلامة.