أكاذيب نخبرها لأنفسنا

Book-Cover

المقدمة 

يبدأ فيلم Shutter Island بوصول ضابطين للتحقيق في اختفاء مريضة من مصحة نفسية تضم المرضى الذين ارتكبوا جرائم، أدى ليوناردو دي كابريو دور ضابط منهما اسمه إدوارد دانيالز، كان يحدث لإدوارد أشياء غريبة في المصحة وكان يشك في الأطباء، خصوصًا عندما قابل المرضى وسمع عن عمليات غير قانونية وغير إنسانية تقوم بها المصحة، وبدأ يبحث في الأمر.

وفجأة نكتشف أن إدوارد ليس ضابطًا أصلًا، ولكنه واحد من المرضى الذين تعالجهم المصحة لأنه قتل زوجته!

لماذا؟

لأنها قتلت أولادهما الثلاثة!

كيف حدث هذا؟

كانت زوجته مريضة نفسيًّا وحاولت إحراق منزلهم، فنصحه المحيطون بأن يذهب بها إلى مصحة نفسية لتتعالج، لكنه رفض ولم يرد أن يصدق أنها مريضة، وسافر بها مع أولادهما الثلاثة إلى بيتهم في الريف، وفي يوم من الأيام رجع إلى البيت فوجد أن زوجته أغرقت أولاده الثلاثة، فقتلها!

ومن صدمته من جريمة زوجته وجريمته هو شخصيًّا، أنكر مخه ما حصل وخلق لنفسه حكاية وشخصية وهمية لأنه غير قادر على مواجهة الحقيقة، وكان هذا هو سبب حدوث كل شيء، لقد كذب على نفسه في البداية بأن زوجته طبيعية ورفض أن يعالجها، فساء الوضع.

والمفاجأة الحقيقية المخيفة أكثر أننا أيضًا نفعل ما فعله دانيال ونكذب على أنفسنا لنتجنب الألم ونتجنب الحقائق التي لا تعجبنا.

بالطبع مثال هذا الفيلم متطرف قليلًا، ولكن الأمر يمكن أن يصل إلى هذا الحد فعلًا، ولنمنعه نحتاج إلى أن نكتشف الطرائق التي نخدع بها أنفسنا، ونزيح الغمامة التي صنعناها من على أعيننا.

ولكن كيف نكتشفها

 أهمية العلاج النفسي  

يحكي الدكتور جون أنه عندما كان في سن الخامسة، مات أخوه الصغير بسبب حادثة وهو يلعب أمام عينيه، وكان يشعر بالذنب لأنه لم يستطع أن ينقذه، كان جون طفلًا ولم يعرف كيف يتعامل مع هذه المشاعر حتى كبر، ووقتها قابل مُعالجًا نفسيًّا هو الوحيد الذي ساعده فعلًا وجعله قادرًا على التعامل مع ألمه وتجاوزه!

وعمومًا.. كل من يبحث عن التعافي يكون قد مرّ بشيء كسر قلبه وجعله غير قادر على أن يكمل حياته أو يتعامل مع آلامه، ودور المعالج النفسي أن يجعلنا نكتشف أعماقنا وحقيقتنا التي خِفناها وأخفيناها بالإنكار أو الكذب، ويدعمنا ونحن نحاول أن نفهمها ونكتشفها.

هل العلاج نفسي لازم؟ ألا يمكنني أن أحل الأمر بنفسي؟

ربما تكون فكرة جيدة، لكن أتدواي نفسك بالتي هي الداء؟!

ماذا تقصد؟

أقصد أننا لا نلاحظ هذه الحيل أو الكذبات التي نحاول أن نتجاوز بها التجارب المؤلمة، ولا نفعلها عن عمد، ولا نستطيع أن نكتشفها ونواجه الحقيقة بهذه السهولة، وإلا ما يئس أحد!

وهنا يتدخل المعالج النفسي، وهذا لا يعني أن المعالجين النفسيين سحرة يحلون مشكلاتنا في ثانية، أو يملكون إجابات لكل شيء، بل هم أيضًا عندهم مشكلات وصعوبات مثلنا، وهذا ما يربطنا بهم ويقربنا منهم، لأن التعافي يحدث عندما يتعاون شخصان في أن يتعلم كل واحد من الآخر كيف يواجه حقائق الحياة والألم والفقد والموت.

يحكي الكاتب عن مريضة عنده تشتكي أن زوجها كان يخونها، وكان يعدها أنه سيمتنع عن هذا ويقول إنه يشعر بالذنب، لكنه لم يَفِ بوعده قط، وقالت له إنها تعرف أنها يجب أن تفارقه، لكنها كانت ترى أن بقاءها معه أهون عليها من الطلاق.

فسألها الدكتور: هل كان يعدك بأنه سيكون مخلصًا، ثم يخونك مع أخرى؟ 

قالت: نعم.

فقال لها: هل سيكون حقيقيًّا إن قلتُ إنك متزوجة الرجل الذي يقدم وعودًا، وتحاولين أن تنسي الرجل الذي يخونك؟

فردت: لكني لم أنسَ!

قال لها: بالطبع لن تستطيعي أن تنسي الواقع، لكن الواضح أنك متزوجة وعوده لك!

قالت: هذا كلام قاسٍ جدًّا!

فردّ بأنه لم يقصد أن يكون قاسيًا، وسألها: هل ترين أن خيانة زوجك المستمرة قاسية، في الوقت الذي تحلمين فيه أنه يكون مخلصًا لك؟

قالت: نعم. 

فقال لها الدكتور: ومع ذلك تصدقين كلامه بدلًا من أفعاله؟!

قالت: بدأت أفهم ما تقصده.

فرد عليها: لو رأيتك تؤذين نفسك وتتجاهلين سلوكًا يجب أن تريه، هل يجب أن آخذ إذنك لأُريه لك؟

قالت: لكننا أصبحنا نعيش منفصلين في البيت.

فقال: أفهم ذلك، لكنك ما زلت تعيشين معه، فهل يمكن أن نقول إنك تعيشين في الواقع مع أكاذيبه؟

حينها بدأت تبكي وقالت له: مع الأسف نعم، وطلبت منه أن يساعدها على أن تتركه.

فقال: أنتِ لا تحتاجين إلى تركه، لأن الزوج المخلص رحل منذ زمن، هل تريدين مني أن أساعدك على أن تكفّي عن نسيانه؟!

تمنت هذه السيدة أن اقتناعها بأن زوجها يمكن أن يتغير سيجعله مُخلصًا، وهذا بالطبع لم يحدث، وكانت تنتظر فقط من يفتح عينيها!

ولنتعافى نحتاج أولًا أن نستعد نفسيًّا لنفتش بداخلنا عن الحقائق التي خبّأناها بالخدع والأكاذيب الفارغة. 

مثل ماذا؟

أمثلة على الأكاذيب التي نخدع بها أنفسنا 

أول كذبة يمكن أن نخدع بها أنفسنا هي أن نشعر بأننا لا نخطئ أبدًا، وأن نتهم المحيطين بنا بالخطأ ونحمّلهم كل شيء سيئ في حياتنا، والحقيقة أننا نسقط عليهم ما نخاف مواجهته!

هذه الإسقاطات هي الحقائق التي نرفضها في أنفسنا فنتهم بها المحيطين بنا، مثل الزوج الخائن الذي يشك في كل خطوة تخطوها زوجته، ويتهمها بالخيانة إن سلمت على طفل صغير حتى!

لذا يجب أن تنظر إلى نفسك في المرآة وتكتشف بالضبط ما تكرهه في الآخرين وسبب كرهك هذا، والخيار لك في النهاية، إما أن تستمر في اتهام الآخرين بالخطأ في حقك وترفض أن تواجه حقيقتك، وإما أن تسمح لهؤلاء الناس بأن يرجعوك إلى نفسك وإلى حقيقتك من دون مجاملات.

أما الكذبة الثانية التي يمكن أن تعمينا فتتمثل في الشعور بالانكسار.. 

إدراك الحقيقة واكتشاف أنفسنا شيء جميل جدًّا، لكن عندما يكون معنى إدراك الحقيقة الفصل من العمل، أو -لا قدر الله- الإصابة بمرض، أو الطلاق، ساعتها نشعر أننا كُسِرنا، لكن ما الذي كُسِرَ بالضبط؟

الحقيقة أن أوهامنا هي التي كُسِرَت؛ نحن نتخيل أننا كُسِرنا وأن الدنيا ظلمتنا، لكن الواقع أننا ما زلنا نعيش وما زلنا موجودين، وحالة الانكسار هذه يُقصد بها انكسار القيود التي كانت تمنع الحقيقة من الظهور، ولحظة الإدراك هذه تسمى "اليقظة".

واحدة من مرضى الدكتور جون كان زوجها قد انفصل عنها حديثًا، وتركت عملها وشعرت أن حياتها كلها دُمرت، بالإضافة إلى إصابتها بهلوسات وتخيلها أن حائط بيتها يتحرك، والحقيقة أن الحياة هي التي كانت تتحرك وهي واقفة في مكانها تنكر الواقع وتندب أوهامها التي كُسرت، حتى ساعدها الدكتور على أن تدرك الحقيقة خطوة خطوة. 

هذان مثالان فقط على الأكاذيب التي نصدقها وغيرهما كثير، لكن هل يمكن أن تدمر حياتنا فكرة بسيطة من كهذه؟ مع الأسف يمكن!

رفض الحياة

كيف؟

الكذبة البسيطة التي أحاول بها أن أشعر نفسي أن حياتي تسير على ما يرام وأني كذلك على ما يرام، يمكن بسهولة أن تتحول إلى وهم يجعلني أرفض الحياة كلها وحقائقها البسيطة كالمرض والموت، وأنها لن تكون أبدًا خالصة السعادة كما تقول السيدة سعاد حسني!

من المفترض أن نسير نحن حسب شروط الحياة وليس العكس، ومهما تحدينا الحقيقة فستفوز في النهاية،

والحل في التعلق بصورة الحياة الحقيقية وليس بأوهامنا عنها.

الحياة فيها حزن وفقد ومآسٍ، لكنْ فيها أيضًا أفراح وإنجازات وضحك.

وعلى فكرة، بالرغم من صعوبة الحزن فإنه منقذ لنا، ولكن كيف؟ 

لأننا عندما نحزن نستسلم للحقيقة، ونتخلص من أوهامنا ونتعايش مع الحزن ونتعامل معه، لكن عندما نرفض الحزن والمشاعر السلبية، نهرب منها بأية طريقة حتى لو كنا سنلجأ إلى الإدمان، سواء كان إدمان الأكل أم المخدرات أم الجنس أم أي شيء آخر، المهم أننا نهرب من الواقع ونعيش في عالم الخيال الذي نتمناه. 

هذا بالإضافة إلى الإنكار الذي نلجأ إليه لنخبئ مشاعرنا ومشكلاتنا وكل شيء لا يوافق هوانا، مثل إدوارد الذي أنكر أن زوجته مريضة في البداية، حتى انتهى الواقع بأن رأى أولاده غَرقى! وساعتها أنكر مخه كل ما حدث من هول الكارثة التي لم يقدر على استيعابها.

والحل أن نقطع أملنا في الأوهام التي لا أمل فيها، وهذا طبعًا لا يعني أن نفقد الأمل، لكننا عندما نرى الحقيقة سنشعر بالأمل في الأشياء التي نستطيع أن نفعلها فعلاً ونغيَّرها.

إذًا كيف نخدع أنفسنا بكل هذه الأوهام؟

كيف نخدع أنفسنا؟

 ثمة طرائق كثيرة نتجاهل بها أجزاءً من الحقيقة التي لا نريد أن نراها، أو نغير هذه الحقائق بها، مثل:

1- طريقة يسميها الدكتور جون "الشراب النفسي":

هي طريقة لا يلجأ إليها المرضى فقط، بل يمكن أن يُصاب بها المعالجون النفسيون أنفسهم، وهذا يظهر في التعاطف الزائف في المواقف التي تضر المريض، إذ يجب أن يتعاطف المعالج مع المريض نفسه وليس مع السلوك الذي سيدمر حياته، مثال على ذلك أن الدكتور جون رأى شخصًا يتكلم مع زوجته عبر الهاتف ويسخر منها ويشتمها، فكان ردها أنها قطعت الاتصال وهو يتكلم، فقال مُعالجه: "بالتأكيد قطعها للاتصال هذا كان صعبًا عليك!".

بهذا التصرف تواطأ المُعالِج مع السلوك الخطأ للمريض، وأنكر تصرف زوجته ولامها مع أن الزوج هو المخطئ!

والمعالج هكذا لا يساعده على أن ينقذ زواجه، بل يساعده على أن يدمره! وهذا ليس دور المُعالج النفسي، بل من المفترض أن يكون صادقًا معه ويخلصه من دور الضحية الذي يتبناه.

كانت هذه هي أول طريقة نخدع بها أنفسنا.

2- عودة الذات المرفوضة:

وهي إسقاط أيضًا، لكن هنا لا نسقط أخطاءنا، بل نسقط رغباتنا وآمالنا على أشخاص آخرين، ثم نحزن أنهم لم يحققوها!

مثل الأب الذي يتمنى أن يلتحق ابنه بكلية الهندسة، ويعيش عمره كله يناديه "يا بَشمهندس"، مع أن ابنه لم يقل قط إنه يرغب في الالتحاق بكلية الهندسة، بل قال غير مَرَّة إنه يرغب في الالتحاق بكلية الحقوق، وكان هذا يضايق والده.

الحقيقة هنا هي أن الأب هو الذي كان يتمنى أن يلتحق بكلية الهندسة وهو صغير لكنه لم يوفَّق، وعندما كبر قرر أن يرمي الحلم والحمل على ابنه، ولو فكر الأب قليلًا فسيكتشف حقيقة مشاعره هذه، وسيترك حرية الاختيار لابنه، لأنه من المفترض أن نحب المحيطين بنا كما هم ونتقبلهم، وألا نحاول أن نشكِّل كل شخص وفق مزاجنا، وألا نطلب منهم أن يغيروا سلوكهم، ولكن ينبغي أن نغير نحن سلوكنا ونواجه الحقيقة.

3- الانتقائية النفسية:

هنا بدلًا من أن نواجه الواقع كما هو، ننتقي الأجزاء التي تتماشى مع أوهامنا، مثل المشاعر والأحداث الجميلة، ونرفض الباقي مثل المشاعر السلبية والمآسي، مع أن مشاعرنا هذه هي التي ترشدنا، فمن خلال الحزن نواجه الفقدان ونشعر بالحب تجاه من ماتوا وتركونا، وعندما يتجاوز الآخرون حدودهم، يساعدنا الغضب على أن ندافع عن أنفسنا، فدور المشاعر إيجابي لأنها تساعدنا على أن نصمد ونظل على قيد الحياة، وأية محاولة منا لفصل المشاعر بهذا الشكل يعد بترًا للذات، لأننا يجب أن نتقبل مشاعرنا كلها وحقيقتنا بالكامل.

4- طريقة مُتعلقة بوهم المعرفة:

هذه الطريقة تصور الذين يظنون أنهم يعرفون كل شيء ويفهمون كل شيء، مع أنهم مُعْمَون عن أشياء كثيرة جدًّا ويحتاجون إلى من يساعدهم ليروها.

كمريضة تفتخر أنها تقول لزوجها إنه غبي، وتظن هكذا أنها تصارحه بالحقيقة وأنها لم تخطئ، لكن معالجها النفسي قال لها إن ما تظنه صدقًا يراه الآخرون قسوة، وإن ما استشفه زوجها من كلامها أنها لا تراعي مشاعره!

فقالت إنها لم تقصد هذا، لكن الدكتور شرح لها أن هذا هو معنى كلامها وآثاره، لا ينفصل أحدهما عن الآخر.

المعالجون النفسيون الحقيقيون هم من يجعلوننا نرى هذه النقاط العمياء وحقيقتها وكل الأكاذيب وأساليب الخداع التي نستخدمها مع أنفسنا، وأخيرًا يجعلوننا نتقبل أنفسنا.

كيف يا صديقي؟

التقبل والانفتاح على الحقيقة 

لنتخلى عن أوهامنا وننفتح على الحقيقة وعلى الحياة عمومًا يجب أن ننتبه جيدًا لمن حولنا ولأنفسنا، أي نكف عن أحلام اليقظة والغفلة ونحن نكلم الآخرين. 

والانتباه سيحررنا من تصوراتنا المسبقة عن الآخرين، ويجعلنا نركز على أنفسنا وننتبه للحواجز التي نضعها لتفصلنا عن الذين نحبهم، كالإسقاطات والتفسيرات المُسبقة والاستنتاجات السريعة وغيرهم كثير. 

وطبعًا سيساعدنا المعالج النفسي على اكتشاف هذه الأشياء، لكن انتبه.. العلاج النفسي لن يحوّلك إلى شخص آخر مثالي لا عيب فيه، بل سيساعدك على أن تتقبل حقيقة أنك غير مثالي ولم تخلق لتكون مثاليًّا، ولكنك خلقت لتكون حقيقيًّا، عندك عيوب ومميزات، وعندك لحظات ضعف ولحظات قوة، كالحياة بالضبط.

ودورك أن تنتبه للحظة التي تعيشها، وتدرك مشاعرك وأفكارك وأحلامك، بل وترحّب بها، لأنك بمجرد أن تقبل كل ما بداخلك ستستطيع أن تقبل الحياة الخارجية بكل ما فيها.

ولتتعافى من الأكاذيب يجب أن تقبل الحقائق وما تثيره من مشاعر بداخلك، وهذه الحقائق تشمل حياتك الخارجية، أي الواقع، وحياتك الداخلية، أي مشاعرك وقلقك والطريقة التي تتجنبهم بها، وبهذا التقبل ستكتشف من أنت فعلًا وتستقبل الحياة بذراعين مفتوحتين.

واسمح لي أن أختم باقتباس من الكتاب يقول: "ما تهرب منه هو المكان الذي ستجد فيه راحتك، وما تخافه هو ما أنت بحاجة إلى مواجهته، وما تتجاهله هو ما أنت بحاجة إلى سماعه".

وأخيرًا، لا تستهِن يا صديقي بكذبة صغيرة تقولها لنفسك، وراقب ما تغذي به عقلك جيدًا، وكن واضحًا صادقًا مع نفسك كما تتمنى أن يكون الجميع صادقين معك.