ممتلئ بالفراغ: تأملات حول التعافي من الإدمانات والسلوكيات القهرية

المقدمة
"بدأ الأمر بصورة.. كل المصائب هكذا تبدأ بشيء صغير تافه، كأثر الفراشة التي عندما تحرك جناحها في جزء من العالم، تتسبب في إعصار في الجزء الثاني، والجناح في حالتي كانت صورة مقطوعة من مجلة إباحية رأيتها لمدة خمس دقائق وأنا في المرحلة الإعدادية، والإعصار كان إدمانًا للصور والأفلام الإباحية، واستمر معي حتى بعدما تزوجت وأنجبت".
"كأني خُلِقتُ فقط لأكون الأخت والزميلة، كنت أشعر أني مرفوضة من الناس كلها وأني لا أستحق الحب، حتى أمي كانت تقول عني "أكّالة"، وكانوا يتهمونني بضعف الإرادة، لم يفهموا أن علاقتي بالطعام علاقة غرامية فيها حب وكره وشوق وهجر، كان الأكل صاحبي وونيسي، هل وجدتُ بديلًا منه ورفضته؟".
هاتان حكايتان من ضمن آلاف الحكايات الخاصة بالإدمان، وكل حكاية لها أسرارها وألمها، لكن تركيية الإدمان نفسها ثابتة، والأهم أن طريقة التعافي أيضًا واحدة.
نبدأ من معنى إدمان..
ماهية الإدمان
الإدمانُ اعتمادٌ سلوكيٌّ نفسيٌّ بيولوجيٌّ نجده في التناول القهري لمادة معينة أو ممارسة متكررة لسلوك معين، يحفز مركز اللذة والمكافأة في المخ، ومن ثم يحدث شعور بالارتياح والانتشاء.
هل خطر ببالك شيء تفعله تظن أنه إدمان؟
سنرى.. :)
الإدمان نوعان:
-إدمان كيميائي: يتناول الشخص مادة معينة ليغير حالته النفسية، كالكحول أو المخدرات.
-إدمان سلوكي: لا يكون بمادة معينة، ولكنه متعلق بسلوك متكرر يسلكه وله تأثير المادة الكيميائية نفسه في الدماغ، كإدمان الأكل أو الهوس بالشراء والتسوق.
هل هذا يعني أن اللجوء إلى الشكولاتة أو التسوق مثلًا لتغيير الحالة المزاجية إدمان دائمًا؟
لا، ليُصنف أي سلوك على أنه إدمان يجب أن تتحقق فيه ستة محاور:
- الاستحواذ: هو أن تنشغل بالمادة الإدمانية أو السلوك الإدماني بشكل زائد على اللازم.
-الاشتهاء: هو ظاهرة غريبة جدًّا، يشعر الفرد كأنه ممسوس، لا يفكر إلا في تناول المادة الإدمانية أو ممارسة السلوك، وبمجرد أن يشبع هذا الاشتهاء وينتبه، لا يفهم أين هو أو كيف فعل هذا!
- أعراض الانسحاب: هي مجموعة من الأعراض النفسية والجسدية التي تحدث للشخص عند الإقلاع.
- الإنكار: هو جزء أصيل متجذر في الإدمان، وله أشكال كثيرة كالتقليل من المشكلة أو النظر إليها على أنها ليست مشكلة أصلًا، والتبرير والتعميم كمُدمن الإباحيات الذي يقول: "كل الشباب تشاهد هذا.. لم لا أشاهد مثلهم؟!".
حسنًا يا سيدي لا تغضب! ^_^
- الاعتياد: هو اعتياد الشخصِ جرعةً معينة، ثم تبدأ تفقد أثرها، فيضطر إلى زيادة الجرعة أكثر فأكثر فقط ليصل إلى درجة التأثير الأولى.
- فقدان السيطرة: له أشكال كثيرة، أشهرها فقدان القدرة على الإقلاع، وهنا يحضرنا مشهد من مسلسل "تحت السيطرة" وشخصية علي تقول: "لا شيء اسمه إقلاع!".
حسنًا.. هكذا فهمنا ماهية الإدمان، ومتى يُقال عنه سلوك معين، الآن نتطرق إلى أعراضه التي تظهر على الشخص المدمن، فما هي في ظنك؟
الأعراض الملازمة للإدمان
توجد أعراض كثيرة مُلازمة للإدمان، منها:
- التقلبات المزاجية: المدمن لا يثبت على حال، ويرى أن كل شيء حوله باهت لا طعم له.
- الأفكار الانتحارية: تقول الإحصاءات إنه يوجد ارتباط سببي بين الأفكار الانتحارية وتعاطي المخدرات أو الإدمانات السلوكية.
- الأعراض الجسدية للإدمان: تظهر في الصداع وآلام القولون وغيرها، وغالبًا ما ترتبط هذه الأعراض الجسدية بالمشاعر التي لا يستطيع الشخص أن يتعامل معها، فتتحول إلى صورة أخرى ويبدأ الجسم في الشكوى.
- ضعف تقدير الذات: وهذا -مع الأسف- جزء من الحلقة المفرغة للإدمان، لأن ضعف تقدير الذات يضم مشاعر سلبية كالإحباط والخزي، وكما قلنا، المُدمن لا يستطيع أن يتعامل مع مشاعره بشكل صحيح فيلجأ إلى الإدمان ليُسْكِتَ المشاعر، والإدمان يزيدها أكثر.. وهكذا.
لذا فطرائق التحفير التقليدية مثل: "لو امتلكت الإرادة لأقلعت"، و"يجب أن تتحدى الإدمان"، وكل ما هو من هذا القبيل يفشل، لأن هذه الطرائق تزيد من كره الشخص لنفسه وتدفعه أكثر إلى حضن الإدمان.
لذلك من المهم جدًّا -قبل أن نتكلم عن التعافي- أن نعرف جيدًا ما وراء الإدمان.
ما وراء السلوك الإدماني
في واحد من مشاهد فيلم beautiful boy -المبني على قصة حقيقية لعلاقة مدمن ووالده- كان يتكلم الولد في اجتماع للمُتعافين من الإدمان عن اللحظة التي قرر فيها أن يقلع عن الإدمان، وكانت هذه اللحظة بعدما أفرط في الجرعة واستيقظ فوجد نفسه في مُستشفى والطبيب يسأله: "ما مشكلتك؟"،
فرد: "أنا مُدمن على المخدرات والكحول"، فقال له الطبيب: "لا، هذا ما كنت تعالج مشكلتك به"!
ما معنى هذا الكلام؟
معناه أن الإدمان مجرد غطاء لشيء أكبر منه بكثير.
مثل ماذا؟
مثل:
- استخدام الإدمان كلغة بديلة
كل مدمن بداخله ألم وصدمات طفولة ومشاعر سوداء بالرفض والهجر والذنب، واسمها "المشاعر الأولية"، وهي موجودة منذ زمن، لكن الشخص لا يعرف كيف يعبر عنها، ولم يجد غير الإدمان ليعبر به عن ألمه ومعاناته.
- خلل في الاتصال بالآخر
أكثر من يكونون عُرضة للوقوع في فخ الإدمان هم من عانوا ارتباطًا ضعيفًا بأهلهم وهم صغار، وينتج عن ضعف هذه العلاقات شيء اسمه "خلل في الاتصال بالآخر"، والآخر هو الأب والأم اللذان يؤديان أدوار الرعاية الأولى.
أما المدمن فعنده خلل في هذه العلاقة، وتسبب هذا الخلل في قطع رابط عاطفي مهم جدًّا، وترك فراغًا داخله، فالشخص يكبر ويحاول أن يملأ هذا الفراغ بمخدرات أو طعام أو إباحيات أو غيرها.
- الإدمان كعقاب ذاتي
بعض الناس عندما يسمعون كلامًا سلبيًّا عن أنفسهم وهم صغار، يكبرون ويحاولون تأكيد هذا الكلام، ويتعمَّدون أن يفسدوا نجاحاتهم، فقد انطبع فعلًا في عقولهم أنهم لا يستحقون أي شيء جيد!
ولا شيء يُثير الذنب والمشاعر السلبية كالإدمان، كأن الشخص استبدل بالأهل المُسيئين مرضًا يؤكد الكلام الذي سمعه وهو صغير، "لا يوجد أمل!".
- الإدمان كتمرد
وهو عكس ما سبق، وهنا يستخدم الشخصُ الإدمانَ وسيلةً للتمرد وتحديًا للسلطة، لكن المفاجأة أن هذا لا يختلف عن الخضوع للأهل!
كيف؟!
ومع أن الشخص هنا رفض كلام أهله، فإنه أيضًا أسير لكلامهم لكن بالعكس، وقرارته ليست حرة ولا مُستقلة!
وفي النهاية يجب أن ننوه بأن هذا الكلام لا يعني أن المُدمن يعيش دور الضحية البريئة التي ظلمها من يحيطون بها، لا، لأنك لو لم تكن المسؤول بنسبة 100% عن إدمانك، فأنت المسؤول عن تحمُل تبعاته والتعافي منه، والتعافي يبدأ بفهم طبيعة الإدمان، الذي يعد مرضًا ماكرًا جدًّا جدًّا، بالإضافة إلى وجود أنواع خفية يمكن أن نكون مصابين بها نحن أو من حولنا ولا نشعر!
الأشكال الخفية من الإدمان
عندنا مثل قديم يقول إن أكبر خدع الشيطان أنه أوهمنا بأنه غير موجود،👀 وواحدة أيضًا من أكبر خدع الإدمان أنه يوهمنا أن الإدمان معناه كثرة التعاطي أو فعل سلوك معين فقط، مع أن جزءًا كبيرًا منه يتمثل في الاستحواذ والانشغال بفكرة معينة، وهذه الفكرة ليس شرطًا أن تكون التعاطي، بل يمكن أن تكون الامتناع!
- أليس الامتناع أفضل؟
ليس دائمًا يا صديقي، لأن الامتناع ربما يكون هَوَسيًّا ويتحول إلى جزء من العملية الإدمانية نفسها، فتجد فيه تناوبًا بين التعاطي والامتناع كأنها لعبة!
نوضح أكثر..
يظهر هذا في حالة اسمها البوليميا، وهي واحدة من اضطرابات الأكل، تظهر في نوبة إفراط في الأكل، ويتبعها مباشرة شعور بالذنب والندم يجعل الشخص يحاول أن يتخلص مما أكله من خلال تناول المسهلات أو محاولات التقيؤ، وبعدها يدخل في نوبة إفراط في الأكل مرة أخرى ثم ندم.. وهكذا.
فهنا الشعور بالندم ومحاولة التكفير عن الذنب أصبحت جزءًا من العملية الإدمانية نفسها، وأصبحت تمنح لذة! وهذا هو أول شكل من أشكال الإدمان الخفية.
أما الشكل الثاني فهو غير متعلق بالمدمن نفسه، بل بمُرافق المدمن أو -كما سنسميه- المدمن المرافق.
ومن هذا؟ صديق السوء الذي حرّض المدمن مثلًا؟
لا، بل شريك المدمن في الحياة، أي زوج المدمنة أو زوجة المُدمن، واكتُشف أن لديه مشكلة نفسية شبيهة جدًّا بمشكلة المدمن نفسه، واسمها الاعتمادية العاطفية، وتصف دعم أحد أفراد العلاقة للطرف الثاني -بشكل لا واعي- أو اضطرابه النفسي أو عدم تحمله للمسؤولية، من خلال تلبية احتياجاته وتحمل المسؤولية بدلًا منه، ويكون هذا الطرف مستعدًّا لنفي نفسه من أجل الطرف الثاني، لذا يقول الكاتب إن المدمن المرافق أيضًا عنده نوع من الإدمان وهو إدمان الأشخاص!
والمدمن المرافق بالطبع يتخيل أنه هكذا يساعده، لكنه في الواقع -مع الأسف- يمكِّن المرض منه ويورطه أكثر في الإدمان!
آخر ما سنتكلم عنه قبل التعافي هو الانتكاسات، أبعدنا الله عنها!
الانتكاس
توجد ثلاثة أنواع من الانتكاس:
- الزلات: وهو نوع من الانتكاسات الصغيرة ربما تمر مرور الكرام، لكن يمكن أيضًا أن تمهد للرجوع التام إلى الإدمان، وغالبًا تحدث في بدايات أعراض الانسحاب.
- الانتكاسات بمعناها الكامل: أي الرجوع إلى الفعل الإدماني بعد توقف كبير، وهو نوع من تفريغ الاشتهاء المكبوت يمنح راحة لحظية، لكن يتبع هذه الانتكاسات اكتئابٌ وحزن وإحباط، ويمكن الرجوع عنها إن ارتكبها الشخص مرة واحدة، لأن أسوأ أنواع الانتكاسات هو ما يأتي بعد أول انتكاسة.
- الارتداد: هو توالي الانتكاسات، كأنك يا أبا زيد ما غزوت! (تعبير يدل على عدم الجدوى)
إليك ملحوظتان مهمتان جدًّا يجب أن تعرفهما بخصوص الانتكاس:
أولًا: احذر الغرور، فكلما شعرت أنك انتصرت على الإدمان، اعرف أنك اقتربت من الانتكاس، فلا داعي إلى غرور، لأنك غير قادر على الإدمان وتبعاته.
ثانيًا: الانتكاس لا يأتي فجأة، ولكن يُمهَّد له بسلوكيات رمادية لا علاقة لها بالسلوك الإدماني، كالتسويف والكذب، لكن هذه السلوكيات خطرة، فاحذرها.
ماذا يتبقى لنا؟ التعافي..
معنى التعافي
قبل الكلام عن التعافي بصفته عملية فعلية، يجب أن نفهم معناه أولًا، كان الإدمان يمثل انفصالًا وقطيعة عن الذات وعن الآخر وعن الواقع، إذًا ما معنى التعافي؟
التعافي هو الاتصال بكل ما سبق!
إعادة الاتصال بالذات
كما قلنا، يقوم الإدمان على جلد الذات والقسوة مع النفس، لذا فالتعافي يقوم على التعامل مع النفس معاملة رقيقة، فيها رحمة وتعاطف.
- إعادة الاتصال بالآخر
المقصود بها استعادة القدرة على التعبير عن نفسك، ومن هنا يأتي مفهوم المشاركة الموجود في كل أنظمة وبرامج التعافي التي تعتمد على أن تقول ما تريد من دون تلاعب أو تجميل، في وجود أشخاص لن يحكموا عليك، ولكن سيفهمونك.
- إعادة الاتصال بالواقع
معناها تعلمُّ قبول الحياة كما هي، والتخلص من العقلية الطفولية التي تريد كل شيء على ما يرام طوال الوقت، يجب أن تتقبل الحياة بشروطها لتستطيع أن تعيشها.
لم أفهم.. ماذا أفعل؟
التعافي تجربة فريدة ليس لها طريق مُحدد أو بداية ونهاية، ولكنه حالة ذهنية وتحول نفسي وروحي.
التعافي عقليًّا وعمليًّ
أول خطوة في طريق التعافي هي الاعتراف بالعجز، نعم.. يجب أن تقف أمام نفسك في المرأة وتعترف بعجزك عن الانتصار على الإدمان وحدك وبإرادتك فقط، لأن الإدمان -مع الأسف- تغلغل في مُخك ويخدعك لتظل على حالك.
يجب أولًا أن تعترف بعجزك عن الانتصار عليه، ومن ثم ستشعر باليأس طبعًا، لا بأس! وماذا بعد؟
ستأتي خطوة التعافي الأهم وهي التسليم، انتبه.. التسليم وليس الاستسلام.
التسليم هو تسليم للعاطفة وتسليم للفكرة الملحة لقوة خارجية عنك، سواء كان تسليم أمرك لله، أو لمجموعة الدعم، أو لشخص تثق به، المهم أن يكون بعيدًا عن إرادتك أنت، ما عليك فعله هو ألا تتعرض للمادة الإدمانية وتتصرف عكس الفكرة الملحة الموجودة في دماغك، وأي شيء آخر سلّمه لشخص آخر.
لدينا أيضًا مبدأ مهم جدًّا يجب أن يصبح شعارًا لك وتضعه أمام عينيك، وهو "لليوم فقط"، أي لا تفكر في التعافي على أنه عملية طويلة وتحتاج إلى وقت، بل استيقظ كل يوم وهدفك نصب عينيك وهو ألا ترجع إلى هذا السلوك اليوم فقط.
انتهينا من المبادئ الذهنية للتعافي، إذًا ما المبادئ العملية؟
أول مبدأ عملي يجب أن تعمل به هو أن تكتب، فالإدمان يتسبب في تشتت في الدماغ والذاكرة، لذا من المهم أن تستعين بالكتابة لتنظم ما بداخل دماغك، والكتابة أيضًا نوع من الاعتراف والمواجهة، وتساعدك على أن تفك شفرات نفسيتك ومشاعرك.
ثاني مبدأ هو يجب ألا يكون المدمن وحيدًا، فكما قُلنا، الجلسات العلاجية ومجموعات الدعم تساعد بنسبة كبيرة على التعافي، ولو لم تكن متاحة طوال الوقت يمكن أن تكلم صاحبك أو تجلس في مقهًى، المهم ألا تختلي بعقلك وتفكيرك، لأن الاختلاء في حالة الإدمان يمكن أن يكون كارثيًّا.
آخر مبدأ للتعافي مُرتبط بالمرح، وهنا يجب أن تحاول أن تستعيد علاقتك بالمتعة، ويستغرق الإنسان وقتًا ليستطيع أن يستمتع باللذات الصغيرة في الحياة، وهذا يحتاج إلى اليقظة، واليقظة حالة ذهنية تكون حاضرًا فيها بكل حواسك وذهنك في أي موقف، وتستوعب كل لحظة وتعيشها بعمق، وهذا هو التعافي باختصار.
وأخيرًا.. المُدمن ليس شخصًا عديم الأخلاق أو بعيدًا عن الله، ولكنه شخص مريض يحتاج إلى علاج ودعم، فانتبه وأنت تتعامل معه، واحذر كذلك مكر الإدمان، وانظر إلى سلوكياتك نظرة مختلفة. 👀