بهجة الحياة البسيطة

Book-Cover

مقدمة

تشاهد التلفاز في أمان الله، فتجد إعلانًا لـ"بلوجر" مشهور يستخدم منتجًا لا فائدة له في الحياة، لكنك تشعر أنك وجدت حل كل مشكلاتك فتذهب مسرعًا لتشتريه من موقع على الإنترنت، لكنك تلاحظ أن هاتفك أصبح بطيئًا، وتظهر أمامك إعلانات عن هاتف جديد، فتقول لنفسك إنه جميل، ثم تتذكر أن مالك قد نفد، فتشعر بالحزن وعدم الرضا وتسأل نفسك، لِمَ لا أستطيع أن أشتري كل ما تحبه نفسي؟!

تمهّل لحظة.. أريد منك أن تنظر حولك في غرفتك أو مكتبك وتجيبني، هل لاحظت وجود أي شيء حولك لم يستخدمه أحد منذ زمن؟ هل اكتشفتم بعد الزواج أنكم اشتريتم أشياء كثيرة لا فائدة منها في أثناء تجهيز بيتكم؟ هل بينك وبين والدتك شجارات أزلية بسبب تكسير شيء من "النيش" أو أي مزهرية في البيت؟ إن أجبت بـ"نعم" على أي سؤال من الأسئلة السابقة فحلقة اليوم قد صُنِعَت خصيصى من أجلك، لأننا سنتكلم عن البساطة وتأثيرها في حياتنا، وكيف نجعلها نظام حياة ونعيش ببساطة وراحة بال بعيدًا عن كل الصداع والمتغيرات الكثيرة التي يملأ بها حياتَنا عصرُنا الاستهلاكي.

والآن هيا بنا نبسّط الموضوع، لكن قبل أن نبدأ أريد أن أقول لك إن الحلقة جزآن: 

- الجزء الأول عن فلسفة البساطة نفسها.

-  والجزء الثاني سيكون دليلًا عمليًّا للتخلص من الفوضى، يمكنك أن تطبقه على كل مساحات بيتك.

الامتلاك ≠ السعادة

دعنا نسأل سؤالًا مهمًّا، ما الذي يجعل لديكَ رغبة في شراء أشياء كثيرة أصلًا؟ لماذا تمتلئ خزانتكِ بالملابس ومع ذلك ليس لديكِ ملابس كافية؟ حسنًا لا تُجيبي.. أنا سأجيبك.

تحاول الإعلانات دائمًا أن توصلنا إلى شعور عدم الرضا عن حياتنا، كل ما معك غير كافٍ، ملابسك أصبحت قديمة، مكتبك لا يحتوي على درج سحري.. وهكذا، ثم تقول لك أنا عندي الحل، اشترِ ما أعرضه عليك لتصبح سعيدًا راضيًا عن حياتك، انظر كيف أن "البلوجرز" مرتاحون وسعداء بمنتجاتنا!

ينتهي الإعلان وسرعان ما تقول لنفسك، أنا فعلًا تنقصني أشياء كثيرة يجب أن أشتريها لأصبح سعيدًا ومختلفًا وسط زملائي.

لكن يا صديقي ما تمتلكه لا يحدد قيمتك ولا هويتك ولا حتى سعادتك، يجب أن تخرج عن سيطرة الإعلانات، لأن ثقافة الاستهلاك مؤلمة نفسيًّا جدًّا، بل ومن أكبر مسببات القلق.

أشياء أقل = قلق أقل

حسنًا.. كيف تسبب القلق؟ تعالَ لنرى الأمر من البداية، لنفترض أنك تريد شراء منتج جديد:

- أول قلق ستعانيه هو أن المنتج ليس عندك أصلًا، فتشعر أن حياتك ناقصة من دونه، وهذا هو القلق الرئيس الذي تلعب عليه الإعلانات.

- ثاني قلق سيصيبك وأنت تفكر وتبحث، كيف ستحصل على المنتج؟ وكيف ستوفر ثمنه؟ ومن أين ستشتريه؟

- أما ثالث قلق فيكون بعد شرائك المنتج وألف مبارك عليك الإشباع الفوري اللحظي ولذة الرضا الوهمي عن الذات، جاء وقت الاعتناء والاهتمام بالمنتج، سجادة الصالون الغالية.. يجب ألا يمشي عليها أحد أصلًا حتى نحافظ عليها!

- وأما القلق الرابع فهو لو كُسِرَ المنتج أو فسد يجب أن تصلحه، وهكذا تظل طيلة حياتك قلقًا بشأن أشياء أكثر، تخرج من قلق لتدخل في الثاني.

أشياء أقل = حرية أكبر

النمط الاستهلاكي في شراء المنتجات باستمرار ليس فقط مسببًا للقلق، بل يقيد حريتنا ويعوقها!

ولكن ما علاقة الحرية؟ سأشرح لك، عندنا نوعان من العوائق:

- العائق الأول حركي، كلما زادت الأشياء التي نشتريها شغلت مساحة أكبر من البيت، ومن ثم تصبح حركتنا أصعب، وأنت ماشٍ يصطدم إصبع رجلك الصغير في الكرسي الذي لا يجلس عليه أحد، أو تتضايق وأنت تنظف لأن ضيوفًا سيزورونك، أو الحروب الأزلية مع الأطفال حتى لا يسقطوا شيئًا وهم يلعبون.

- أما العائق الثاني فهو مادي، إذ إن بعض الناس يمكن أن يستدينوا ليشتروا منتجات أكثر أو أقيم، فيظهرون في مظهر الأغنياء ولكنهم في الحقيقة مدينون يعيشون ليسددوا فواتير وأقساطًا، عذاب ووجع قلب!

فلِمَ تفعل هذا في نفسك؟ هل يجب أن تملأ أي مساحة فارغة بلا هدف؟! ما نريد أن نعيد فهمه هو أن المساحة لا تقل أهمية عن الأشياء، بل ربما تكون أهم!

- وهذا لأن أي نشاط أسري في البيت سيحتاج إلى مساحة فارغة واسعة، سواء للعب مع الأطفال أو للاسترخاء.

-  غير أن تفكيرك نفسه سيصبح مشتتًا فوضويًّا لو كانت الفوضى حولك كثيرة، وكلما كان الحيز البصري بسيطًا مريحًا كانت نفسيتك أفضل، وكلما زادت المساحة زادت الراحة النفسية وزاد الصفاء الذهني. 

رؤية الحقيقة

وماذا أفعل إن تمَّ الأمر واشتريت أشياء كثيرة وصِرت وسط زحام لا أستطيع التخلص منه؟

في البداية يجب أن تعرف حقيقة ارتباطك بالأشياء التي تملكها، جمّع كل الأشياء التي تملكها وقف أمامها وقسمهما ثلاث مجموعات:

1- الأشياء المفيدة التي تستخدمها كفرشاة الشعر مثلًا، لكن هذا لا يعني طبعًا أن يكون عندك خمس فرش، اختر واحدة فقط بلونك المفضل يا سيدي، لن نختلف.

2-  الأشياء الجميلة التي تُسعدك وتحسن مزاجك عندما تنظر إليها، ربما تكون قطعة فنية أو تذكارًا من رحلة معينة.

3- أشياء مرتبطة بذكرياتك العاطفية، كالشهادات والجوائز التي حصلت عليها في السادس الابتدائي لكنها تسبب زحامًا في أدراج المكتب، وكذلك الطاولة الخشبية التي كنت تذاكر عليها في الثانوية العامة، أو حتى جهاز خَرِب كان هدية في عيد ميلادك.

بعدما تنتهي من التصنيف، إن وجدت أشياء لا تنتمي إلى أية فئة من الثلاثة فتخلص منها فورًا، وحاول ألا تحتفظ بشيء لأنك تشعر بالذنب من فكرة التخلص منه. 

الطريقة التبسيطية

الآن ننتقل إلى الأشياء التي صنفناها، ونبدأ الجزء الجاد العملي للتخلص من الفوضى والزحام:

- وأول خطوة يا صديقي هي البدء من الصفر، اختر جزءًا معينًا من البيت أو الغرفة وأفرغه من كل شيء، أخرج منه كل شيء، وقف أمام الفراغ وتأمل، ألا تشعر براحة؟

- ثاني خطوة هي التخلص أو الاحتفاظ أو النقل، قسّم كل شيء ثلاث مجموعات:

- أشياء تحتفظ بها. 

- وأشياء تتخلص منها. 

- وأشياء تنقلها.

أعرف أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأن بعض الأشياء أنت نفسك لا تعرف إن كنت ستحتاج إليها أم لا، لذا اتركها في أي جنب مؤقتًا، وإن لم تحتج إليها بعد شهرين فتخلص منها.

-  أما ثالث خطوة فهي الاختزال، جمّع الأشياء المتكررة أو المتشابهة وحدد كم تحتاج منها، يمكن أن تطبق هذا على الكشاكيل أو الأقلام التي في المكتب، وبعدما تنتهي ضع الأشياء المتشابهة في مكان التخزين نفس.

- ورابع خطوة هي كل شيء في مكانه، ليس كل شيء يمكن أن يخزن في أي درج أو خزانة، قسم التخزين ثلاث دوائر:

-  دائرة داخلية قريبة منك، فيها الأشياء التي تستخدمها يوميًّا لتصل إليها بسهولة.

-  ودائرة خارجية بعيدة قليلًا، فيها الأشياء التي تحتاج إليها كل فترة.

-  أما ثالث دائرة فهي التخزين العميق، مثل جاكت ثقيل لا ترتديه إلا نادرًا، فيكون مكانه في أبعد نقطة في الخزانة، أو جهاز لا أحد يستخدمه إلا مرة كل شهر، فيوضع كذلك بعيدًا.

المراجعة والمراقبة

حسنًا.. بعدما فعلنا كل هذا وأصبح كل شيء على ما يُرام، كيف نضمن ألا تعود الفوضى مرة أخرى؟

هنا ندخل مرحلة المراجعة والمراقبة، وهي تحتاج إلى تركيز ومواظبة على بعض الخطوات البسيطة:

- الحدود: ستقسم كل مساحة بحدود واضحة بحيث لا تتجاوزها الأشياء، فتظل كراسي السفرة هناك ولا تدخل الصالة.

- شيء يدخل.. شيء يخرج: كل شيء جديد ستشتريه يجب أن تتخلص من شيء آخر في مقابله، فإن أراد الأطفال إخراج لعبة مخزونة يجب أن يتخلوا في المقابل عن لعبة تخزن بدلًا منها، وذلك لتحافظ على التوازن بين المساحة والممتلكات.

-  الصيانة: أعد أي شيء استخدمته إلى مكانه بعدما تنتهي، فإذا أحضرت أشياءك إلى المكتب أو خرجت إلى الصالة، فأعدْ كل شيء إلى مكانه فورًا بعد الانتهاء، لا تتكاسل وتعتمد على أنك ستعيدها بعد ساعة، أو أنك ستستخدمها في المكان نفسه مرة أخرى فلا يجب أن ترجعها.

- وأخيرًا المراجعة: كل يوم قبل أن تنام، راجع مراجعة سريعة على البيت أو الغرفة، بحيث تنظم أولًا بأول، وذلك أفضل من أن تخصص يومًا واحدًا فقط للتنظيم وتتراكم عليك الفوضى، لا نريدها أن تتراكم مع والمذاكرة! :D

غرفة المعيشة

انتهينا من الكلام النظري والآن التطبيق، لنبدأ بالصالة لأنها المكان الذي يجلس فيه أفراد الأسرة طويلًا، وهذا المكان كلكم مسؤولون عنه، حاول أن تتقمص شخصية الضيف وتلقي نظرة على الصالة كأنك غريب يراها لأول مرة، تُرى هل أعجبك منظرها؟ هل هو مريح جميل أم ستشعر بالاختناق عندما تدخل؟

لو كان مريحًا وأعجبك فلا بأس، لكن إن اختنقت وشعرت بضيق يجب أن تتخلص من أكبر الأشياء الموجودة فيها، الكراسي أو الأرائك أو الطاولات، ومن ثم طبّق الخطوات اللي قلناها، قسم الأشياء ثلاث مجموعات وقسم التخزين ثلاث مساحات ونظّم، لكن لا تفعل هذا وحدك، جمّع أسرتك كلها وأشركهم في الأمر، صدقني.. أمك ستكون سعيدة، أو ربما ستطردك!

غرفة النوم والخزانة

الآن حان وقت غرفة النوم، ومن المفترض أن تكون أهدأ وأبسط مكان في البيت كله، لأنها المكان الذي نرتاح فيه بعد تعب اليوم، لذا سنطبق أول خطوة ونبدأ من الصفر ونفرغها بالكامل، ونختار أولًا الأشياء التي نريد أن نحتفظ بها وليس الأشياء التي سنتخلص منها، لأن هذا سيقلل من مقاومتنا النفسية للتغيير، خصوصًا أن أغلب الأشياء التي نحتفظ بها لارتباطها العاطفي والنفسي بنا هي غرفة النوم، هذا جيد لو كان الأمر متّزِنًا، لكن لو أصبح المكان مزدحمًا يجب أن تتجاهل عاطفتك قليلًا.

أما الخزانة -وهي الوحش الكبير- فأنا شخصيًّا عندي مشكلة معها، مهما رتبت الملابس تعود الفوضى، فأُصَبِّر نفسي وأقول "لِمَ أنظمه أصلًا؟ أنا أعرف مكان ملابسي"، لكني أحيانًا أبحث عن بنطال معين نحو نصف ساعة، وعندما أيأس أقول إنني سأحدد يومًا لأنظم فيه كل الملابس، وبالطبع هذا اليوم لم يأتِ بعد، لكنني يجب أن أكون قدوة! إذًا اليوم يوم الخزانة العالمي!

- أولًا: أخرج كل الملابس، حتى الجوارب.

- ثانيًا: حدد ما تستخدمه وتحب ارتداءه واحتفظ به، وما أصبح مقاسه صغيرًا أو ما لا يواكب العصر بسبب تغير الذوق، وضعه جانبًا.

- ثالثًا: جرب كل الملابس لتتأكد أنها سليمة وتعجبك، ثم قسمها ثلاث دوائر تخزين، أتذكرها؟ ملابس ترتديها دائمًا، هذه ضعها في أول الخزانة، وملابس ترتديها كل فترة، ضعها أبعد قليلًا، وملابس نادرًا ما ترتديها، كملابس المناسبات مثلًا، ضعها في أبعد نقطة في الخزانة.

- وأخيرًا: لننتهي من أمر الخزانة، الملابس التي لا تناسبك أو الصغيرة التي وضعتها جانبًا، اجمعها في حقيبة وتبرع بها، أو أعطها لإخوانك الصغار إن كانوا يحتاجون إلى شيء منها.

وبالطبع ستطبق المراجعة اليومية، ولو كنتِ تحبين شراء الملابس كثيرًا يجب أن تطبقي قاعدة "شيء يدخل.. شيء يخرج"، ونعم يا عزيزتي.. عندك ملابس كافية.

إشراك الأسرة

هكذا انتهينا مما ستفعله وحدك، لكن إن أردت أن تشجع أسرتك على التنظيم والتبسيط ليعم الخير على البيت كله، ماذا تفعل؟

- يجب أن تكون قدوة، لا يفضل أن تجمعهم وتقول لهم افعلوا كذا وكذا وكذا، بل اجعلهم يرون أثر النظام والراحة فيك، واجعل كلامك لفتًا للنظر فقط إلى التغيير الذي حدث لك.

- إن اهتموا بما تفعله فاجعلهم يجربون مساحة معينة في البداية ليطبقوا عليها الخطوات التي ذكرناها، كالخزانة أو المكتب مثلًا، وشجعهم بعدما ينجحون ونبهّم للفرق.

- يجب أن يقسموا المساحات ويضعوا الحدود، كل فرد له مساحة خاصة به وهو المسؤول عنها، وكلهم مشتركون في الصالة، قسم الغرفة التي تشترك فيها أنت وأخوك بينكما، كل منكما يتحمل مسؤولية نصفها.

- كما يجب أن تبني روتينًا وتعودهم قاعدة المراجعة والمراقبة، كل شيء يُعاد إلى مكانه بعد الاستخدام، وأي شيء جديد يدخل يخرج بدلًا منه شيء قديم.

-  وأخيرًا حبذا لو تخصصون صندوقًا للأشياء التي لا تجدون لها مكانًا، وصندوقًا آخر للأشياء التي ستتخلصون منها آخر الشهر.

الثبات على الأسلوب

بعدما وصلنا إلى آخر حلقتنا، من المهم أن أحذرك -مرة أخرى- إغراءَ الإعلانات والمقارنة بالآخرين، لأنهم يمكن أن يفسدوا كل ما فعلته، فحاول أن تثبت على سلوكك في المقاومة، وبدلًا من أن يكون هدفك مراكمة الأشياء والممتلكات، حاول أن تراكم الخبرات وتطور نفسك مهاريًّا ومعرفيًّا، لأن هذا سينعكس على سلوكياتك وشكل الحياة اللي تعيشها.

نتمنى لك حياة مريحة سعيدة!