عمل عميق

Book-Cover

 المقدمة

يتغير شكل عالمنا بسرعة واستمرار، ومن الأشياء التي تتغير فيه بسرعة كبيرة هي المجالات الاقتصادية، وظائف تختفي وتحل محلها وظائف جديدة، ووظائف أخرى تحتلها الآلة، ووظائف تتطلب مهارات معينة يندر وجودها.

وبسبب هذه التغيرات الكثيرة لم تعد الحياة بالسهولة والبساطة التي كانت عليها قبل سنوات، إذ إن التعلم والتخرج لم يعودا كافيين لتجد وظيفة أحلامك، العالم أصبح معقدًا، ولتجد مكانًا وسط العمالقة في عالمنا الحالي يجب أن تعرف قوانين اللعبة وكيف تستخدمها. 

ما العمل العميق؟

ولنبدأ أولًا بمعرفة العمل العميق والفرق بينه وبين العمل السطحي: 

- العمل العميق هو "مجموعة الأنشطة العملية التي تؤديها في حالة من التركيز الشديد، بالشكل الذي يدفع قدراتك المعرفية إلى أقصى حدودها"، كالتأليف مثلًا.

- أما العمل السطحي فهو "المهام التي لا تحتاج إلى معرفة، ويمكن أن تؤديها حتى في حالات التشتت، وعدم التركيز" كالرد على البريد، أو الأعمال اليدوية البسيطة.

لو رجعنا إلى العمل العميق وافترضنا أن خالدًا يريد أن يؤلف رواية، فلديه طريقتان ليكتبها..

أول طريقة هي أن يكتب جزءًا، ثم يقضي ما عليه في حياته، ثم يكمل كتابة، ثم يرد على الناس على وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يكتب وهكذا.

ثاني طريقة هي أن يجهز بيئة مناسبة ويقعد مع نفسه لوقت طويل مستمر ينعزل فيه عن العالم، يدخل خالد هذه البيئة لينقطع عن كل شيء ويستطيع أن يركز لأكبر درجة ممكنة، ولا يخرج منها إلا عندما ينهي عددًا معينًا من صفحات الرواية، أو حتى عندما يمر وقت معين حدده من البداية.

وطبعًا كلنا يعرف أي طريقة هي الأصح ليكتب خالد الرواية، وعلى الرغم من هذا نتبع أول طريقة.

المشكلة في الطريقة الأولى هي أن عالمنا أصبح مليئًا بالمشتتات، التي يزيد حجمها كل يوم، يوتيوب وحده تُحمَّل عليه فيديوهات يوميًّا مدتها 50 سنة، ذلك غير الأفلام والألعاب، وفيسبوك وتويتر وتيك توك وسناب شات، وهكذا ندخل في دوامة لا نهاية لها، وبضغطة زر واحدة تُفتح لنا أبواب عوالم جديدة ممتعة ومحفزة للخلايا العصبية، وجسمنا الأبله يعطي لنا مكافآت دوبامين طوال الوقت، وهو لا يفهم الكارثة التي تحدث.

الشيء المخيف الذي يسلط عليه الكاتبُ الضوءَ في الكتاب هو حاجتنا الضرورية إلى العمل العميق، وهذا لأن شكل الوظائف في زمننا يتغير، وفي عصرنا المشتت يتحول العمل العميق إلى ميزة عند عدد قليل من الناس، وهذه الميزة هي التي تجعلهم يتجهون إلى معظم الوظائف التي تحرك الاقتصاد في عالمنا الحالي.

العالم كله سيساعدني على أن أكون مشتتًا أكثر كل يوم، وأنت تطلب مني أن أركز أكثر؟

بالضبط يا صديقي.

حسنًا، هل لهذا الأمر حلول؟

افعل ما تراه صوابًا!

لا تقلق لن أتركك، سأشرح لك كيف تصل إلى مرحلة العمل العميق وتصبح من النادرين الذين سينجون في عالمنا، والذين يقسمهم الكاتب ثلاث فئات وسيكون لهم مكان في عالمنا في ظل التطورات التكنولوجيا الكبيرة. 

من سينجح في عصر الآلة؟

اسمح لي آخذ بيد حضرتك ونخرج من منطقة أن الآلة ستأخذ الوظائف من البشر وسنمكث كلنا في البيوت، لنذهب إلى منطقة الذين سيظهرون ويلمعون حتى في وقت تطور الآلات: 

1- أول فئة هم الذين يتعاملون جيدًا مع التكنولوجيا أو "العمال فائقو المهارة"، هؤلاء هم مجموعة المبرمجين والمصممين الذين يستطيعون العمل في المجال التكنولوجي، وهم أنفسهم يساعدون في تطور الآلات والبرامج، وهذا لأن حياتنا بالكامل حاليًّا تدخل العالم الرقمي من أوسع أبوابه، ومن ثم كلما تقدمت التكنولوجيا زادت فرصة الذين يعملون في مجالها في النجاح وفي كسب الأموال.

 2- الفئة الثانية هي فئة النجوم، وهذه الفئة تشمل الناجحين أو المميزين والمبدعين في مجالاتهم بشكل عام، بداية من الممثلين والمغنين حتى الأطباء وأصحاب المطاعم والمتاجر، لكن لتصل إلى مرحلة أن تكون الأفضل في مجال معين، مطلوب منك أن تركز وتعمل بعمق أكثر بكثير من أي أحد.

 3-  والفئة الثالثة والأخيرة هي فئة "أصحاب الأموال"، والمميز في هذه الفئة أن أصحابها يمكنهم أن يدخلوا أول فئتين ويستثمروا فيهما بأموالهم.

وهنا يؤسفني أن أقول لك يا صديقي إنك ما دمت من غير الأغنياء فيجب أن تكون في أول فئتين، ولن تصل إلى هذا إلا عندما تكتسب قدرة تعلم المهارات المعقدة بسرعة، والإنتاج بجودة عالية في زمن قليل،

ويعد هذا هو جوهر العمل العميق، وإن بحثت، من دون عِلمي، في أي كتاب رياضيات لتتحقق من معادلة العمل العميق، 🙂فستجدها كالتالي "إنتاج عالي الجودة= الوقت المستنفد + التركيز الشديد"، ببساطة، كلما زاد تركيزك أنتجت عملًا بجودة أعلى في وقت أقل.

البيئة المناسبة للعمل بعمق

لهذا السبب تحديدًا سنجد أن معظم المفكرين والمبدعين في عالمنا يحاولون أن يخلقوا عالمًا يساعدهم على التركيز وإن لم يتعاملوا مع تصرفهم هذا تحت مسمى "العمل العميق". 

لذا قبل أن أخبرك بالخطوات التي تستطيع أن تصل بها إلى هذه المهارة، يجب أولًا أن تهيئ البيئة المناسبة للعمل بعمق.

 

على سبيل المثال: في مصر كان الكاتب نجيب محفوظ يتبع روتينًا شديد الصرامة لينتج الروايات الكثيرة التي أنتجها، وإلى جانب إنتاجيته الكبيرة كان ينتج بجودة عالية جدًّا للدرجة التي جعلته واحدًا من أهم كتاب العربية، والعربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل في الأدب. 

بالإضافة إلى الكاتب الأمريكي الذي طُلِبَ منه أن يسلم مُسَوَّدَة كتاب في أسبوعين فقط، ولم يعرف كيف يمكنه أن يفعل ذلك، لكنه تذكر أنه يكتب بكفاءة أعلى في أثناء الطيران، لذا قرر أن يذهب في رحلة ذهاب وعودة من اليابان وإليها، ومدة هذه الرحلة نحو 30 ساعة، وبالفعل في نهاية رحلة العودة كان الكاتب قد أنهى المُسَوَّدة.

 

بالطبع أنا لا أقترح عليك أن تحجز رحلة طيران، الفكرة كلها في البيئة المناسبة لعملك، يجب أن تحدد مكانًا معينًا للعمل وليكن مكتبك، ويكون مهيئًا وبه كل الأدوات التي تستعملها، وتُخرج منه كل المشتتات بما في ذلك الهاتف، ويفضل أيضًا أن تحدد وقتًا معينًا ليكون عقلك مبرمجًا عليه، ومع الوقت ستجد أنك تحسن البيئة التي حددتها لنفسك أكثر لتساعدك على الإنتاج.

وكلما استطعت أن تنغمس في العمل بعمق كنت أسعَد، وهذا لأن صاحب أي وظيفة إذا وصل فيها إلى درجة من التركيز والاندماج مع التفاصيل يصبح أفضل نفسيًّا.

والآن دعني أخبرك بالأربع نقاط الرئيسة التي ستكسبك مهارة العمل العميق.. 

القاعدة الأولى.. روتين العمل بعمق 

القاعدة الأولى هي "روتين العمل بعمق"، والكاتب في بداية هذه القاعدة يكلمنا عن قوة الإرادة، ويقول إنها تنفد بالاستخدام مثلها مثل بطارية الهاتف، لذا يجب أن تعرف في ما ستقضي وقتك خلال اليوم، وكيف تستغل قوة الإرادة بشكل صحيح، بدلًا من أن تضيعه في أمور سطحية تضيع لك طاقتك ولا تستطيع في النهاية أن تدخل في مرحلة العمل العميق.

ويخبرنا الكاتب بثلاث فلسفات يمكن أن نتبعها لنصل إلى مرحلة العمل العميق:

- فلسفة الاعتكاف أو الرهبنة، وهنا ينصح الكاتب بالانعزال والبعد الكامل عن الأعمال السطحية ومواقع التواصل الاجتماعي.

- الازدواجية، وهنا نقسم وقتنا خلال اليوم، وقتًا نمارس فيه الأعمال العميقة، ووقتًا نضيعه كما نشاء. 

- فلسفة الصحفيين، وهنا يخبرنا الكاتب بأنواع من الناس تستطيع الدخول في مرحلة العمل العميق بسرعة كبيرة، كالشخص الذي يتصفح فيسبوك أو يرد على البريد، وفجأة يتذكر شيئًا من عمله أو تخطر بباله فكرة لمشروع جديد، فيعمل على هذه الفكرة بكل تركيز ثم يرجع إلى الأعمال السطحية.

وهذه الفلسفة قريبة من عمل الصحفيين والكتّاب وغيرهم من الذين يتطلب عملهم تركيزًا مع العالم الخارجي طوال الوقت، ومن ثم يجب أن تكون لديهم القدرة على الانعزال بسرعة عن حياتهم والدخول في مرحلة العمل العميق، ولكن الكاتب لا ينصح باتباع هذه الفلسفة خصوصًا للمبتدئين.

 الأفضل أن تبدأ بعمل جدول وتضع الأعمال التي تحتاج إلى تركيز، وتوفر لها على الأقل أربع ساعات في اليوم، ومع مرور الوقت والتدريب والالتزام بهذه الساعات الأربعة، سيعتاد عقلك الدخول في حالة العمق.

القاعدة الثانية.. تقبل الملل

وليفعل العقل ما سبق بسهولة يجب أولًا أن نتقبل الملل، وهنا ننتقل إلى القاعدة الثانية للعمل العميق وهي "تقبل الملل"، فمع تطور المشتتات في وقتنا الحالي اعتدنا البحث عن شيء جديد طوال الوقت، ونستغل أي لحظة فراغ لنتصفح مواقع التواصل الاجتماعي أو نلعب، والمشكلة أن هذه الأعمال تجعلنا نتشتت بشكل أسهل في العموم، ومن ثم تضيّع تركيزنا عندما نفعل شيئًا مهمًّا، لذا ينصحنا الكاتب بأن ندرب أنفسنا على تقبل الملل، والكف عن الهروب منه، وهذا لنستطيع الخروج من الدائرة المغلقة التي تبدأ بمحاولات قضائنا على الملل وتنتهي بعدم قدرتنا على التركيز على أي شيء.

القاعدة الثالثة.. البعد عن مواقع التواصل الاجتماعي 

القاعدة الثالثة في الكتاب هي "التخلص من مواقع التواصل الاجتماعي"، وينصحنا الكاتب هنا بالبعد التام عن مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لا يخفى على أحد أن هذا القرار يكاد يكون مستحيلًا في الوقت الحالي، ولسنا جميعًا قادرين على أن نكتفي بالبريد الإلكتروني والمدونة الشخصية كما يفعل الكاتب، لذا يقترح علينا طريقة أخرى نستخدم بها مواقع التواصل الاجتماعي وهي أن نفكر في سبب استعمالنا لها، فكما نشتري سيارة لننتقل من مكان لآخر، يجب أن نستعمل وسائل التواصل لأهداف محددة من البداية، ونتعامل معها باعتبارها أداة وليست غاية في حد ذاتها، هل سنستعملها لننمي عملنا الخاص؟ أم لنتعرف على أصدقاء جدد؟ أم لنتابع أشخاصًا يقدمون محتوًى عن المجالات التي نهتم بها؟

ينصحنا الكاتب بأوقات انقطاع عن مواقع التواصل حتى إن كنا سنستخدمها، وهذه الانقطاعات تكون قصيرة على مدار اليوم والأسبوع والشهر، وتكون طويلة على مدار السنة، وبعد مرور وقت الانقطاع نرجع إلى استخدامها مرة أخرى، كما يعزل المفكرون أنفسهم لينجزوا أعمالهم، وكبداية ينصح الكاتب بأن نبتعد عن مواقع التواصل لمدة شهر، وبعد هذا الشهر نسأل أنفسنا.. هل استخدامنا لمواقع التواصل الاجتماعي كان سيجعل هذا الشهر أفضل؟ والسؤال الثاني هو.. هل لاحظ أحد غيابنا أم لا؟ وبناءً على إجابات هذين السؤالين سنعرف ما إذا كان من المفترض أن نرجع إليها أم نظل منقطعين عنها.

وعمومًا أخضر لم يقصر معك؛ ستجد على القناة ملخصًا لكتاب كيف تقطع علاقتك بهاتفك، سيساعدك على وضع خطة محكمة لمدة 30 يومًا. 😀 

القاعدة الرابعة.. الحد من السطحية 

الآن ننتقل إلى القاعدة الرابعة والأخيرة لاكتساب مهارة العمل العميق وهي "الحد من السطحية"، والسطحية كما قلنا هي أشياء نفعلها ونحن مشتتون وغير مركزين، ويمكن أن يفعلها أي أحد ويصل إلى النتيجة نفسها.

يحكي لنا الكاتب في البداية عن تجربة أجرتها شركة سيجنالز للبرمجيات وهي أنها قللت عدد أيام العمل، حينها هاجم كثيرون الشركة وتصرفها، لكن الغريب أن إنتاجية الشركة زادت، وبدأت شركات أخرى تسير على النهج نفسه، بالطبع تتساءل كيف يحدث هذا، هل هو سحر؟ لا ليس سحرًا، كل ما في الأمر أن الوقت عندما يقل يحاول العمال إنجاز أعمالهم لأنهم يشعرون أن الوقت ضيق، ومن ثم لا يضيعون الوقت في الرد على البريد وفي التواصل في ما بينهم، مما يدخلهم في حالة العمل العميق، ومن ثم ينجزون عملًا أكثر. 

ذلك غير أن أبحاثًا حديثة تقول إن 60% من وقت العمال يضيع في التواصل مع العملاء والرد على البريد، ومعظم عمليات التواصل هذه لا تكون فيها منفعة حقيقية. 

 ولتقلل الأعمال السطحية التي تؤديها يجب أولًا أن تتابع تفاصيل يومك بدقة، أحضر ورقة وقلمًا وسجل كل ما تفعله بالتفاصيل المملة على الأقل لمدة أسبوع، لتلاحظ في أي شيء يضيع وقتك، وتعرف الأشياء المهمة وغير المهمة. 

الخاتمة

وأخيرًا يا صديقي في عالمنا السريع الذي يتغير كل يوم، يجب أن تعرف الأشياء التي ستميزك من غيرك وتجعلك الشخص النادر وسط أشخاص عندهم المميزات نفسها، وكما قلنا في البداية، العالم كل يوم يجعلنا نتشتت أكثر، والأعمال تحتاج إلى تركيز أكثر، لذا يقول كارل نيوبورت إن العمل العميق يعد قوة خارقة في عصرنا الحالي، ولكن على الرغم من نُدرة هذه الصفة فمن السهل أن نكتسبها لو اهتممنا بها قليلًا وبدأنا التركيز عليها.

وليس من الطبيعي أن النصائح التي قيلت يجب أن تفيدنا جميعًا، ولسنا جميعًا قادرين على أن ننعزل ونبتعد عن مواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا إن كان عملنا مرتبطًا بها، لكن الصواب أن نفهم النصائح ونصنع الخليط الخاص بنا الذي سينفعنا في حياتنا.