فن الكلام

Book-Cover

مقدّمة

"موكوساتسو" كلمة يابانية لها معانٍ كثيرة، من ضمنها "نتعامل مع الأمر بصمت" أو "نتناقش بصمت"، ولكن لم يكن هذا هو المعنى الذي نقله المترجمون ووسائل الإعلام ردًّا من اليابان على مؤتمر "بوتسدام"، الذي يدعوها إلى الاستسلام من دون شروط، وفي حالة رفضها ستتعرض لدمار غير مسبوق.


المعنى الوحيد الذي انتقل عن المؤتمر هو "لا يستحق التعليق"، فاستغل الرئيس الأمريكي رفض اليابان للإنذار، ومن ثم بدأ قصف مدينتي هيروشيما وناجازاكي بالقنابل النووية!

خطأ الترجمة هذا لم يكن السبب الوحيد لاستخدام القنابل النووية، لكنه كان من ضمن الأسباب.


ولو رجعنا إلى حياتنا يمكن أن نجد مواقف مشابهة لما وقع في هيروشيما وناجازاكي، ولكن من دون النووي طبعًا، سنجد أن علاقات دُمِّرَت بسبب كلمة، وبيوتًا خُرِبَت، وقلوبًا انكسرت، وربما فقدت فرصة عمل لأنك لم تستطع أن تعبر عن نفسك.
الآن نرجع إلى كتابنا.. 

عدم الكلام


لنبدأ بأول محور أساسي من محاور فن الكلام وهو ألا تتكلم!

بالتأكيد استغربت الآن وقلت "لكن ماذا سأفعل يا أخضر؟!". 

اسمع أولًا، لأنك لو لم تسمع الآخر فلن يوجد حوار بينكما أصلًا، كما يجب أن تفهم قصده بشكل صحيح لترد عليه كذلك بشكل صحيح، وهذا لن يحدث إلا عندما تعطي له فرصة ليتكلم وتسمعه.

ونصيحة يا صديقي لا تتكلم في ما لا تعلم، ولا يكن شعارك "أنا أتكلم إذًا أنا موجود"، تخيل معي مثلًا أنك في اجتماع والناس يتكلمون عن الفلسفة الوجودية..

- واحد يقول: من الطبيعي أن يكون الإنسان وجوديًّا ومتدينًا في الوقت نفسه، لأن الفكر الوجودي موازٍ للعقيدة.

- وآخر يرد عليه: كيف؟! إن مبدأ الفلسفة الوجودية أصلًا تحدى الثوابت والمعتقدات.

- وأنت بينهما لا تفهم شيئًا مما يقولون.. وبصراحة أنا أيضًا لا أفهم! :D

لكن هذا لا يعني أن نستعير أية كلمة من الموضوع ونقول أي شيء ولو كان بعيدًا، لمجرد ألا يقول أحد إننا بلا رأي لا سمح الله.

وفي الحقيقة ليس عيبًا أن تجهل معلومة أو مجالًا ما، وأنسب حل في هذه المواقف هو:

- أن تسمع وتتعلم من الآخرين، ويمكن أن تسألهم عن معنى "وجودية".

- أو تستأذن من الاجتماع.

الاستماع الإيجابي والسلبي

حسنًا، لنفترض أنك ستسمع لمن يتكلمون سواء عن الفلسفة الوجودية أو غيرها، عندنا نوعان من الاستماع: نوع سلبي، ونوع إيجابي.

- الاستماع السلبي: هو أن تسمع الآخر فقط، ولا تتكلم نهائيًّا خوف أن تقول رأيًا خطأً أو يسخر منك أحد، وهذا دليل على قلة الثقة والانعزال، ذلك غير أنه يُقلق الشخص الذي يتكلم ويجعله غير مرتاح.

- أما الاستماع الإيجابي الذي نريد منك أن تتحلى به، فهو: 

أن تركز على كلام الشخص وتتفاعل معه بشكل بسيط، ويكون بأن: 

- تعيد كلامه بأسلوبك.

- أو تعيد كلامه بالضبط، لكن بنبرة صوت مختلفة.

ومهم أن تنتبه لـ:

-  المبالغة في رد فعلك سواء في تعبير وجهك أو في تعليقك، فتقول مثلًا: آهااااااا! أو يا رجل! غير معقول! ردًّا على أي شيء طبيعي جدًّا.

- التكرار المستمر لكلمة معينة، مثل: نعم.. نعم.

لأن المبالغة وتكرار الكلام نفسه يجعل الشخص الذي تكلمه يشعر أنك مُتصنّع وغير مهتم بكلامه فعلًا.

الآن ربما تتساءل، إن كان أحد يكلمني في موضوع أنا غير مهتم به أو عن شيء أنا بالفعل أعرفه، ووجدت أني لا أركز على كلامه، وأصبحت مستمعًا سلبيًّا، ماذا أفعل؟

في هذه الحالات يا صديقي يمكنك أن:

- تغيّر الموضوع بذكاء.

-  أو تستأذن المتحدث وتؤجل الكلام معه مثلًا.

لكن ما أريد منك أن تعرفه أنه لا يجب أن يكون الموضوع بالغ الأهمية دائمًا لتسمعه، لأن الشخص الذي يكلمك ومشاعره أكثر أهمية، فلا مانع أن تجاري كلامه وتمثل أنك متفاجئ وهو يحكي لك، خصوصًا إن كان كبيرًا في السن، أو طفلًا يسمّع لك جدول الضرب للمرة المليون.

وفي العموم من أسهل وأصدق الطرائق التي تقوي بها علاقتك بالناس وتكسب قلوبهم، هي أن تعطي لهم فرصة ليتكلموا وتسمعهم باهتمام ومن دون تكلف.

أنا من يتكلم

بعد أن انتهينا من أنواع الاستماع نتساءل..

ماذا لو كنت أنت الشخص الذي يتكلم وشعرت أن الآخر يمثل أنه يسمعك، لكنه في الحقيقة مستمع سلبي؟

- أول ما ستفعله هو أن تتأكد، ويمكن أن تستخدم حيلة "في اليونان"، وهي أن تُدخل جملة "في اليونان" وسط كلامك، وطبعًا لا علاقة من قريب أو بعيد لليونان بموضوعك، فلو لم ينتبه الآخر تتأكد أنه غير منتبه لما تقول فعلًا، وساعتها يمكن أن تغيّر الموضوع الذي تتكلمان فيه، أو تغيّر طريقة الكلام أو الأسلوب.

أما بخصوص اختيار المواضيع:

- فاجعل الموضوع الذي ستتكلم عنه مناسبًا للأشخاص وللمكان.
فليس من المعقول أن تتكلم عن تفاصيل جريمة قتل مثلًا على الغداء، أو أن تتكلم عن سيارتك الجديدة مع أحد تعرف أن عنده مشكلات مادية حاليًّا.

- واجعل كلامك مُحددًا، فلا يكثر حشوه ولا يكون موجزًا جدًّا.

المحور الثاني: المقاطعة

الحمد لله، هكذا نكون قد انتهينا من أول محور من محاور فن الكلام وهو "فن الاستماع"، والآن نتكلم عن المحور الثاني وهو "المقاطعة".

أريد منك أن تتذكر صاحبك الذي يكون هدفه في أي نقاش أن يبحث عمّن يتكلم ليقاطعه، ولا يترك أحدًا يكمل كلمتين، صاحبنا هذا ربما يقاطع كلامك بخمسة أشكال، ومع الأسف أغلبنا يقع في هذا الأشكال أيضًا، فتعالَ نعرف ما هي..

1- المقاطعة لتغيير الموضوع
مثلًا تقول لصاحبك: "أوشكت الإجازة على الانتهاء ولم نتنزّه معًا"، فيرد: هل عرفت نتيجة المباراة الأخيرة؟

وهنا صاحبنا لم يعجبه الموضوع الذي كنت تكلمه فيه أو ربما ليس مهمًّا بالنسبة إليه لذا غيره، وأنت هنا يا صديقي تستطيع أن ترجع إلى موضوعك بطريقتين:

- أن تغير طريقة كلامك وأسلوبه وتجعله أكثر تشويقًا، فمثلًا يمكنك أن تستبدل السؤال بأسلوب السرد، وبدلًا من أن تقول له: "لم نتنزّه معًا"، قل له: "في رأيك أين يمكن أن نتنزه في الإجازة؟".

- لو كنت تتكلم في موضوع صعب كشرح نظرية شرودنجر مثلًا، يمكن أن تحاول تبسيط الأمثلة وتوضيح المصطلحات العلمية.

2- المقاطعة بكلمة "أنا أيضًا" أو "حدث معي"
تخيل مثلًا أنك تقول لصاحبك: "حدث لي أمس موقف غريب جدًّا!"، فتجده يقاطعك بسرعة ويقول لك: "وأنا أيضًا! ليس أغرب مما حدث لي، لقد حدث كذا وكذا…".
بعض الناس يفعلون هذا على سبيل المزايدة على الآخرين خصوصًا في الشكوى، ولكن بعضهم الآخر يفعل من دون قصد من باب المشاركة أو لأنه تحمس جدًّا.

3- المعارضة
ولهذا الشكل أسباب كثيرة:

- إما اختلاف في الرأي.

- أو معلومة مهمة غير واضحة بالنسبة إلى من يتكلم، ربما تغير رأيه.

- أو في حالة الكلام عن موضوع عقائدي.

وفي كل الحالات، أن تسمع وتنتظر من يتكلم لينهي كلامه، يعطي لك فرصة لتفهم الموضوع من كل جوانبه، وربما تقتنع برأيه أصلًا وتكتشف أنه لا يوجد اختلاف من الأساس.

 4- الموافقة
وفي الغالب يصيب هذا الشكلُ المتحمسين، ولكنه مع الأسف يُشعر المتحدث بعدم الاهتمام أو بالتنافس.
فمثًلا وأنت تكلم صاحبك وتقول له: "يوم الجمعة كنت…"، وبدلًا من أن تكمل الجملة، يقاطعك هو ويكملها مكانك: "تصلي الجمعة في مسجد النور، هل تسكن هناك؟"، وأنت في الحقيقة كنت تريد أن تتكلم عن شيء آخر غير المسجد.

5- الفكاهة:
وهي مقاطعة الشخص بتعليق سواء دعابة أو مزاح، فمثلًا إن سألت صاحبك: "هلّا دللتني على نجار ماهر؟"، فبدلًا من أن يخبرك باسم أحد يعرفه أو يقول لك لا أعلم، تجده يرد ردًّا مختلفًا تمامًا ويقول: "لِمَ يا صديقي؟ باب النجار مخلع؟ ههه".
ربما يكون المزاح مفيدًا لنقاش فيه حِدّة أو يجعل الجو مرحًا، لكن يجب ألا نستخدمه في حالة أن المتحدث يتكلم عن شيء جاد ومهم، وألا نقاطعه حتى لأن هذا يقلل تركيزه.

المحور الثالث: جدل أم نقاش؟

وهكذا انتهى الكلام عن المقاطعة بأشكالها الخمسة، وخسرنا صاحبنا الحمد لله..

لا.. لِنتركه يكمل معنا المحور الثالث من فنون الكلام، وهو "الفرق بين الجدل والنقاش".

أحيانًا بينما نتكلم في موضوع ما ربما نصل إلى آخره متشاجرين ويخسر بعضنا بعضًا، على الرغم من أن هذا لم يكن هدفنا من البداية، فماذا حدث؟ تحول النقاش إلى جدل..
حسنًا.. كيف حدث هذا؟
قبل أن أقول لك كيف، دعنا أولًا نوضح الفرق بين النقاش والجدل:

- النقاش يتشارك فيه أطراف الحوار ليصلوا إلى الحقيقة أو حل المشكلة، ولا أحد يخرج منه وهو متضايق من الآخر.

- أما الجدل فتظهر فيه مهاجمة أطراف الحوار بعضهم لبعض، وهدف كل شخص أن ينتصر لنفسه وليس للحقيقة أو لقضية الموضوع.

وعندنا ثلاث طرائق تحول الحوار من نقاش إلى جدل:

1- المقابلة
وتحدث المقابلة عندما يقول أحد رأيه ويرد الثاني عليه برأي مُعاكس طوال الوقت، وغالبًا ما يبدأ عرض وجهة نظره بكلمات مثل: على العكس أو خطأ، ليس كذلك…

- فعندما تقول لصاحبك: "أرى أن مِسِّي أفضل من كرِستيانو"، فيرد عليك بسرعة: "على العكس، كرِستيانو أحرف منه بكثير"، وربما يكون ردك عليه: "يبدو أنك لا تفقه شيئًا في كرة القدم!".

- ومن هنا تحول النقاش بينكما إلى ساحة ينتقم فيها كل منكما لرأيه الشخصي، وكل واحد يخطّئ الآخر من أجل التخطئة فقط، رغم أن الطريقة المثلى للرد هنا هي أن تذكر النقاط التي اتفقتما عليها أولًا، ثم تبدأ عرض وجهة نظرك بعدها.
ولتتفادى هذا النوع من الجدل تحتاج إلى أن: 

- تتقبل اختلاف الآراء.

- تحاول تفهّم دوافع الشخص الذي يكلمك، أو تسأله عنها.

2- مجموعة تصرفات، منها:

 - كثرة المقاطعة.

- السرعة في الرد، التي تعطي شعورًا بالمنافسة.

 - علو الصوت الذي يُعد نوعًا من أنواع العنف، فيضطر ساعتها الطرف الآخر إلى أن يدافع عن نفسه وينتصر لها.

حسنًا.. لو كنت تتكلم مع أحد ووجدت فجأة أنه بدأ يرفع صوته وشعرت أن النقاش سيتحول إلى جدل، ماذا تفعل؟

لا تقل له بشكل مباشر "أخفض صوتك!"، لأنه ساعتها سيشعر أنك تأمره وتقلل شأنه، وسيبالغ في علو صوته أكثر، وربما يقول لك "هكذا هو صوتي"، والأنسب في هذه الحالة أن ترد عليه بصوت منخفض وهو سيخفض صوته من نفسه.

3- النقد:
وللنقد نوعان: نقد موضوعي، ونقد غير موضوعي، النقد غير الموضوعي هو الذي يسبب الجدل، والمقصود به نقد الشخص بدلًا من نقد رأيه أو فعله.
كأن تقول لصاحبك "يبدو أنك لا تفقه شيئًا في كرة القدم!"، هنا أنت نقدت فهمه، وكان يمكن أن ترد عليه بنقد موضوعي عن رأيه في ما يخص الكرة.
والنقد الموضوعي عمومًا يثري النقاش، ويساعد الأطراف على أن يراجعوا أنفسهم ويطوروا منها.

المحور الرابع: دائرة العشم

وبعدما انتهينا من المحاور الثلاثة، يتبقى لنا المحور الرابع والأخير وهو "دائرة العشم"..

والمقصود بدائرة العشم هو منطقة الأمان في علاقاتنا الإنسانية، التي يكون فيها الأشخاص المقربون إلينا من الأهل والأقارب والأصدقاء.

والمفارقة هنا أننا ربما نعامل أغلى الناس عندنا بجفاء وقلة ذوق، وهذا بسبب العشم، لأننا نضمن أنهم سيبقون دائمًا بجانبنا، رغم أنهم أولى الناس بالإحسان.
إليك أمثلة للتعامل المؤذي في دائرة العشم:
1) عدم مناداتهم بأسمائهم أو بأحب الألقاب إلى قلوبهم، في رأيك مثلًا أيهما أفضل؟ أن يقول لك أحد: "لقد حصلت على صفر من 20" هكذا من دون ألقاب، أم "لقد حصلت على صفر من 20 يا باشمهندس"؟ :D

 2) غياب كلمات مثل: "من فضلك"، و"لو سمحت"، و"شكرًا"، و"أعتذر".
3) ظُلمهم لأنهم مضمونون، كأن تسخر من صاحبك أمام مجموعة لتكسب ودهم، وإن عاتبك أحد، ترد: "إنه أخي، هل يتضايق أحد من أخيه؟!".
من المهم أن نبتعد عن الأمثلة السابقة في تعاملنا مع الأشخاص الذين نحبهم، ونضمِّن تعاملنا معهم لطفًا ومدحًا وإحسانًا، لأنهم أولى بالمعروف.

الخاتمة

وفي النهاية يا صديقي، فن الكلام مهم حتى لا تجد من يمتحن ذاكرتك في الهاتف ويقول لك: "من أنا، والله لن أقول، يجب أن تعرفني!"، بدلًا من أن يبدأ بـ"السلام عليكم" ويعرفك نفسه إن لم تكن قد سجلت رقمه، وأيضًا حتى لا نجد من يتصل مليون مرة ويتوقع أنك متاح في كل وقت.
الآن انتهينا من محاور فن الكلام الأربعة، ومن اليوم لن نقول غير الكلمة ذات المعنى التي تزيد المحبة والتفاهم مع الآخرين، في الوقت المناسب، بالشكل المناسب.

أخبرنا بأكثر محور استفدت منه في تعليق، وهل كنت مستمعًا جيدًا للحلقة أم لا؟