سيكولوجية المال

Book-Cover

مقدمة

لو وجدت فانوسًا سحريًّا في يوم من الأيام وأصبح لديك ثلاث أمنيات، فغالبًا ستكون الأمنية الأولى أموالًا كثيرة، والثانية أموالًا كثيرة جدًّا، والثالثة أموالًا كثيرة جدًّا جدًّا.

لكن السؤال هنا، هل عندما أملك أموالًا كثيرة سأستطيع أن أتعامل معها؟ هل سأكون مستعدًّا نفسيًّا لأن أتصرف بشكل جيد مع مليون دولار مثلًا أم سأضيعه خلال يومين؟ 

دعني أحكِ لك قصتين.. 

الأولى قصة رونالد جيمس، رجل غلبان عاش أغلب عمره يتنقل بين أعمال مختلفة بسيطة، ومات وهو في الثانية والتسعين من عمره، لكن الغريب أنه ترك نحو ثمانية ملايين دولار لأولاده والجمعيات الخيرية بسبب الادخار!

 أما القصة الثانية فتحكي عن رجل الأعمال الشهير ريتشارد فوسكون، الذي حصل على ماجستير إدارة الأعمال وعمل في التسويق وكان كل شيء على ما يرام، كان يتعامل مع المال كأنه ورق الكوتشينة، لكن هذه الحال لم تستمر كثيرًا، لأنه تعرض لأزمات مالية وأصبح مدينًا وباع ممتلكاته ومات وهو لا يجد قوت يومه! 

والشاهد في القصتين يا صديقي أن النجاح المالي لا يعتمد على الورث ولا الدخل الكبير، ولكن على السلوك الذي تتعامل به مع المال، والذي يختلف جدًّا من شخص لآخر لأسباب كثيرة.

حسنًا.. كيف نحقق النجاح المالي؟ وما تأثير المال في نفسيات الناس؟ والعكس أيضًا، كيف تُحدِث نفسيتهم فرقًا في تعاملهم مع المال واتخاذ قراراتهم؟ وما أهم شيء يمكن أن تحققه من خلال المال؟
الآن نعود إلى المال.. 

من الغني؟

ربما تظن السؤال سهلًا جدًّا، لكننا يجب أن نسأله، من الشخص الغني؟

لو رأيت ريتشارد رجل الأعمال وهو يصرف الملايين على قصره، وعنده أسطول سيارات من أحدث طراز، لقلت إن هذا هو الغِنى بعينه، لكن في الحقيقة هذه فكرة عن الغِنى سطحية، أنت تظن أنك لو ملكت سيارة لامبورجيني فسينظر إليك الناس بإعجاب وتقدير واحترام، لكن في الحقيقة هم يحترمون السيارة، ويتمنون لو امتلكوا واحدة مثلها، ومن هنا ظننا أن الإنسان يجب أن يصرف ملايين ليصبح مليونيرًا، أي إننا ربطنا الغِنى بالإنفاق، وكلما صرفت أكثر بدوت أغنى، لكن هذا ليس حقيقيًّا، إذًا ما الثروة الحقيقية؟

الثروة الحقيقية هي ما لا تراه، كالأسهم والاستثمارات والأصول والمدخرات، وكلما زاد حجمها زادت قدرتك المالية الحقيقية، فإذا امتلك الشخص أسهمًا في شركة ناشئة ناجحة، أو أصولًا كالعقارات، فهذه الأشياء تمثل له مصدر دخل مستمرًّا، لكن مصدر الدخل أيضًا ليس كفاية لتصبح ناجحًا ماليًّا.

ماذا؟ هل هذا يعني أنه إذا كان دخلي في الشهر رقمًا أمامه خمسة أصفار فربما لا أكون غنيًّا أو مرتاحًا ماديًّا؟

نعم، إذ يجب أن تدّخر من دخلك سواء كان كبيرًا أم صغيرًا، وإن لم تفعل فأيًّا كان دخلك فسيصرف كله، هذا بالإضافة إلى الظروف الاقتصادية السيئة، فالحل الوحيد الذي سيجعلك تبدأ سلوكك المالي السليم هو الادخار، وكذلك التحكم في رغباتك، أي عدم شراء كل ما ترغب في شرائه،

ولا تقل إنك ستصرف من الراتب أولًا وتدخر ما يتبقى آخر الشهر، فوالله لن يتبقى منه شيء! يجب أن تدخر من الراتب قبل أن تقرر كيف ستصرفه، ولا تقل "لِمَ أدخر وأنا لا أريد شراء شيء معين؟"، لا يشترط أن يكون الادخار لسبب معين؛ يكفي إحساس الأمان المالي وأنك تملك مبلغًا مدخرًا يوفر لك مرونة في أي أزمة أو مشكلة تقابلك.

 

السلوك ابن المحيط

والآن لنتكلم عن سلوك الناس وقت الأزمات الاقتصادية، في دراسة أمريكية اكتُشفَ أن أكثر الفئات التي تصرف على ألعاب الفيديو والسلع الترفيهية واليانصيب هم الأسر الأقل دخلًا، وهذا طبعًا لأن عددهم أكبر ودائمًا ما يأملون في أن يكسبوا اليانصيب ويغتنوا في يوم وليلة، كما أن الترفيه ينسيهم همومهم لبعض الوقت، لكن هذا يجعلنا نسأل سؤالًا مهمًّا، لماذا يختلف سلوكنا في الأزمات أو في الأحوال الاقتصادية المختلفة؟

ربما ترى أشخاصًا يصرفون أموالهم على أشياء تافهة أو لا أهمية لها، وتقول إنهم مجانين.. كيف لا ينتبهون؟! والحقيقة أن لا أحد مجنون، لأن سلوكياتنا مرتبطة بالبيئة التي تربينا فيها والتجارب التي عشناها، فلو ألقيت نظرة على الناس لوجدت من عاش في زمن كان فيه حروب، أو أزمة تضخم، أو حتى كان محظوظًا ولحق بالرخاء الاقتصادي، وكل واحد منهم له سلوك مالي مختلف، منهم من اعتاد الادخار وسيظل هكذا، ومنهم من اعتاد الصرف أو الاستثمار، ومهما حاولت أن تقنعه بالبيانات الاقتصادية الدقيقة، فستظل تصرفاته كما اعتاد، ولكن تُرى يا صديقي ما الذي أثر فيك وكوّن عندك سلوكًا ماليًّا معينًا، فأنت إن أردت التغيير يجب أن تعرف السبب أولًا.

ماذا؟ هل أستطيع أن أغير من سلوكي الذي اعتدته؟

نعم بالطبع، لكن التغيير سيكون تدريجيًّا، فمثلًا يمكن أن نبدأ بحل أهم مشكلتين:

- المشكلة الأولى هي المقارنة، أي أن تنظر إلى الناس المحيطين بك وتقارن ظروفك وحالتك المادية بهم، فربما تتقاضى راتبًا مماثلًا لراتب زميلك، وعليكما الالتزامات والمصروفات نفسها، لكنه يتحلى بالرضا والقناعة والاكتفاء، لا يقارن نفسه بغيره، على عكسك، دائمًا ما تتطلع إلى المزيد، مما يشعرك أنك فاشل أو أنك يجب أن تعمل أكثر، حتى لو أهملت صحتك وعائلتك وعلاقاتك.

 - أما المشكلة الثانية فهي قراءة الأرقام وفهم المصطلحات المالية، يجب أن تكتسب حدًّا أدنى من الثقافة المالية التي تجعلك قادرًا على قراءة وفهم الوضع المالي من حولك، معنى التضخم والميزانية والعجز والفوائد البنكية وغيرها من المصطلحات، لتأخذ أحسن قرار ممكنٍ وقت الأزمات الاقتصادية أو الرخاء.

أهم ميزة للمال

دعني أسألك سؤالًا، في رأيك، ما أهم شيء ستملكه إن كان معك المال؟

بالتأكيد ليس أن تشتري كل ما ترغب في شرائه، ففي دراسة لدكتورة أنجوس كامبل، قالت إن أهم ميزة للمال أن تكون حرًّا، بمعنى أن يكون وقتك ملكك وحدك، ليس لديك عمل متراكم، أو موعد تسليم وهدف شهري ومدير يستعجلك، وتحصل على الإجازة بصعوبة غير أنك ربما تعمل خلالها، تخيل أنك تتحكم في وقتك بمزاجك، تحدد متى تعمل وفي أي مجال وكم تتقاضى، وتقضي وقتًا مع نفسك تسافر فيه أو تقعد مع عائلتك وأصحابك؛ الحرية يا صديقي من أكبر مؤشرات السعادة.

وأقصر طريق إلى الحرية المالية هو الاستثمار، ولا يُشترط أن تستثمر ملايين في فيسبوك مثلًا، الأمر يتوقف على قدرتك والمجال الذي تتقنه، ولا تسمع لمن يخدعك ويقول لك "تعالَ.. عندي وصفة مضمونة لنجاح استثمارك، لو عملت كذا وكذا وكذا فستصحو بعد شهر تجد مالك قد تضاعف"، خذ مالك واجرِ يا صديقي؛ يجب أن يكون قرار الاستثمار نابعًا منك وعن اقتناع ودراسة، ليس مجرد تقليد لأحد، فمثلًا لا تبدأ شركة ناشئة من الغد وتسميها شركة "أبو إسماعيل"، لأن كل المحيطين فعلوا ذلك، ماذا سنبيع؟ لا يهم، المهم أن أصبح مستثمرًا أو مديرًا تنفيديًّا.

تصيب وتخيب

نعم يا أخضر.. لكن ألا ترى أن في الاستثمار مخاطر؟

بل فيه مخاطر ومفاجآت ومنافسة وسوق متغيرة وأشياء كثيرة جدًّا، لذا فقرار الاستثمار ليس مضمونًا، ونسبة نجاح القرار المأخوذ بشكل صحيح تصل إلى 80%، لأن القدر يتدخل في النتائج وأنت لا يمكنك أن تتوقع ما يمكن أن يحدث بالضبط.

ولتتخيل معي حجم الاحتمالات وتأثير الأقدار، سأحكي لك قصة صغيرة في سنة 1968م، وقتها كان جهاز الكمبيوتر كبيرًا جدًّا -وسبحان الله- مدرسة واحدة فقط في مدينة سياتل الأمريكية استطاعت أن تحصل على جهاز كمبيرتر واحد فقط عندها ليتعلم عليه الطلاب، ومن بين كل الطلاب في أمريكا يلتحق بِل جيتس وبول ألن بهذه المدرسة ويتعلمان على هذا الجهاز ويحبان الكمبيوتر والبرجمة جدًّا، ثم يؤسسان شركة مايكروسوفت التي غيرت شكل العالم، لكن ما لا نعرفه هو أن شخصًا ثالثًا اسمه إيفانس كان معهما، بل وكان أكثر اجتهادًا منهما، لكنه مات قبل أن يتخرج وهو يمارس هواية تسلق الجبال! تأمل كم الاحتمالات يا أخي! ترى لو تغير شيء واحد فقط في قصتنا هذه، كيف كان سيصبح شكل العالم الآن؟ 

لذا يجب أن تتقبل تعرضك للفشل وأنه لا يعني أنك كسول أو لم تبذل مجهودًا كافيًا، فكما قلنا، توجد عوامل خارجية كثيرة جدًّا خارج تحكّمك، لكن الأهم.. ما دمت قادرًا على المحاولة فحاول، لأن حدثًا واحدًا فقط يمكن أن يغير استثمارك كله، كما حصل مع ديزني.

بالتأكيد كلنا نعرف شركة ديزني المشهورة، في بدايتها فشلت أغلب الأفلام التي أنتجتها، لكن صاحبها "والت ديزني" لم يوقف استثماراته رغم أنه كان يصرف كثيرًا جدًّا على تكلفة الأفلام، وفيلم بعد فيلم وفشل بعد فشل، وقبل شهور من إعلان الإفلاس، حقق فيلم سنوايت سنة 1938م نجاحًا خرافيًّا، وكسب ديزني 8 ملايين دولار وأنقذها من الإفلاس وفتحت استوديوهات جديدة، ولو تأملت حال أغلب الشركات الكبيرة الحالية مثل أمازون ونتفليكس، فستجد أنهم وصلوا إلى هذا النجاح بسبب قرار اتُّخِد في وقت الأزمة والفشل، هذا هو الاستثمار يا صديقي، خمسون قرارًا منهم عشرة جيدون ومن العشرة ربما يغير حياتك قرار أو اثنان.

خطة متشائمة

وماذا بعد؟ هل سنظل هكذا من دون أي ضمانات؟ 

والله يا صاحبي الضامن هو الله، لكنك يجب أن تكون مستعدًّا للفشل أو الخطأ ومستعدًّا لدفع ثمنه، أي تتوقع أسوأ الاحتمالات وتحاول أن تغطيها، بالطبع سيحصل أسوأ من الأسوأ، لكنك ستكون قريبًا منه على الأقل.

لذا يجب أن يكون عندك خطة جيدة على المدى البعيد، ماذا ستتعلم وفي أي مجال ستعمل، فيمَ ستستثمر وكم ستدخر، واعلم أن مهما كانت خطتك محكمة فلن تسير حسب الخطة.

هنا يجب أن تتحلى بالمرونة وتقبل تغيير خطتك، ستتعلم شيئًا جديدًا، أو ستعمل في وظيفة مختلفة عن التي اعتدتها أو خارج تخصصك، لا بأس، عود نفسك أن ما دامت الظروف تتغير فحتمًا ستتغير الأهداف والطرق، فلا تكن جامدًا.

ولِمَ التشاؤم يا أخضر؟ لماذا لن أسير حسب الخطة؟

هذه طبيعة الدنيا يا صديقي، انظر حولك، ستجد التقدم الاقتصادي يحدث ببطء يكاد لا يلاحَظ أصلًا، أما إذا مررنا بأزمة أو انتكاسة فسنقع بسرعة الصاروخ، ودائمًا نتفاجئ بالأزمة من غير مقدمات، وإن انتبهنا قبلها فلن يسعفنا الوقت، فالحل أن نستعد للصدمات والمفاجآت من البداية، ونضع خطة متشائمة.

لكن هذا لا يعنى أن تصدق أي قصة تُحكى لك.. مثل: أسرِع لأن العملة ستتغير، أو سيتضاعف سعر الدولار بعد أسبوع، أو سيحدث ركود اقتصادي عالمي بعد شهر، وانتظر أقنعْك كيف سيحدث هذا. حسنًا.. ما الحل إذًا؟

الحل يا صديقي أن تتعلم أكثر عن الاقتصاد وكيف تتحكم في سلوكك المالي، لأن الخرافات والشائعات تملأ الفراغات عندك بسبب الجهل، وكلما تتعلم تُملأ الفراغات بصورة صحيحة.

ثمن النجاح

حسنًا يا سيدي.. وضعنا الخطة المتشائمة واستعددنا لثمن الفشل، والحمد لله أكرمنا الله ونجحنا..

لا أريد أن أفاجئك، لكنك ستدفع مجددًا، لأنه لا يوجد شيء بلا مقابل حتى النجاح له ثمن، وهذا الثمن لا يتمثل في كره الناس ولا الحسد فقط، فثمن النجاح هو ما ستدفعه في المقابل، فالسيارة تدفع ثمنها نقدًا دفعة واحدة أو بالتقسيط، ومصروفات تشغيل وصيانة، والنجاح في وظيفة تدفع مقابله وقتًا ومجهودًا وتركيزًا، والاستثمار تدفع مقابله أعصابك في قلق ومتابعة واهتمام، وكما اتفقنا في البداية، لا أحد منا مجنون لأننا مختلفون، فهنا أيضًا كل منا سيناسبه سلوك مالي معين يقدر على دفع ثمنه سواء من المال أو المجهود أو الصحة، صدقني يا صديقي كل إنسان يتعب، حتى الذي ينجح.

الحفاظ على الثروة

وأخيرًا لو كان مستواك المادي جيدًا، أو كنت غنيًّا، فماذا تفعل لتحافظ على مستواك؟

- أولًا: حمل تطبيق أخضر واشترك فيه؛ عيب أن تستثمر في كل شيء إلا عقلك!

-  ثانيًا: قلل من المخاطرة في قراراتك الاستثمارية أو الشرائية، تواضع وحافظ على مالك وكف عن الإسراف وكن مثل رجل الأعمال في قصتنا الأولى. 

- ثالًثا: حوّل ثروتك إلى أصول وأسهم وممتلكات تدرّ عليك المال حتى لا تقل قيمتها مع الوقت بسبب التضخم.

- رابعًا: خطط لكل الأزمات التي يمكن أن تقابلك، وبالطريقة المتشائمة كما اتفقنا من قبل.

- أخيرًا: تذكر أن حتى لو -لا قدر الله- حدثت أي أزمة أو مشكلة، ستمر مهما طال وقتها، فيجب أن تصمد حتى يتحسن الوضع وتعمل قوانين العرض والطلب في السوق.

لا يجب أن تكون غنيًّا

وصلنا إلى النهاية يا صديقي الغني -حاليًّا أو مستقبلًا إن شاء الله- لا يلزمك أن تكون مليونيرًا حتى تكون غنيًّا، ربما يكون عندك ما يكفي مصروفاتك، وتدخر ما يفيض وأنت مرتاح ماديًّا الحمد لله، والأهم على الإطلاق الستر والصحة.

ولنكن جادين قليلًا.. فكر في رغباتك كما تفكر دائمًا في المال، لأنك إن لم تملك رغباتك فسترغب في صرف كل ما معك ولن يكون كافيًا لك، فاحمد الله على كل حال.