توقف عن البقاء وحيدًا

Book-Cover

مقدمة

بعدما عُدتَ من نزهة جميلة جدًّا مع أصحابك، لعبتم الكُرة وأكلتم في مطعم وذهبتم للتمشية حتى آخر الليل وسط مزاح وتبادل مواقف وذكريات، فتحت واتساب لتجد واحدًا منهم نشر على حالته "لم يشعر بي أحد قَطّ"، مع أنكم كنتم معًا منذ قليل تمزحون وتضحكون! إذًا ما له؟! ثم تجد حالة أخرى لغيره منهم مكتوب فيها "صاحب الكل وحيد"، لا.. لقد جُنّوا! إنهم حتى لم ينشروا صور نزهتكم.

أول ما سيخطر ببالك أنهم يريدون جذب الانتباه، بالتأكيد يدّعون الوحدة ليحصلوا على اهتمام أكثر، أو ربما يظنون هذا عمقًا!
دعني أقل لك إنه توجد احتمالية كبيرة جدًّا لأنْ يشعروا بالوحدة فعلًا، فالوحدة الآن لم تعد فقط بسبب أن لا أحد معك، بل يوجد نوع آخر ويزيد انتشاره في الجيل الحالي، ما هذا النوع؟ ولِمَ ينتشر الآن أكثر؟ وكيف أحصّن نفسي منه؟ وإن كنت أشعر بالوحدة أصلًا كيف أتخلص منها؟ وما المهارات التي أحتاج إليها لأكوّن علاقات تحقق لي معنى القرب الذي أرغب فيه؟ 

نرجع الآن إلى موضوع الوحدة.

وحدة من نوع جديد

قديمًا كان الشخص الوحيد هو الذي تعرّض للرفض من أشخاص وَدّ أن يكون معهم، فانعزَل وأصبح وحده، أما الآن ربما تكون وحيدًا وأنت وسط كل الناس الذين تحبهم، المشكلة أنك منفصل عن هذا الجو بسبب أن لا أحد منكم قريبٌ من الآخر بما يكفي، أي إن الوحدة الحالية نتيجة غياب القُرب، حسنًا.. ماذا يعني القرب؟ هل أقف إلى جوارهم؟

بالتأكيد لا، القرب هو أن تعرف العالم الداخلي للشخص، أفكاره ومشاعره وأحلامه وما يكره وما يخاف، إن كان لديك شخص قريب فعلًا فهو أول من ستهرول إليه وتحكي له عندما تتعرض لمشكلة كبيرة أو تكون على وشك أخذ قرار مصيري، إن كان هذا غير موجود فأنت مع الأسف يا صديقي تعاني الوحدة.

وما مشكلة الوحدة؟! هذا لا يؤثر في.. يمكنني أن أعيش من دون كل هؤلاء الناس!

لا أخفيك سرًّا يا صديقي، الوحدة الحقيقية من الصعب جدًّا الاستمرار فيها، تعلم في ما بعد نتيجتها وضررها على صحتك النفسية والجسدية، غير أنك هكذا تقلل فرصك في السعادة، لأنها لا تتأتى إلا من مشاركة الآخرين، فإن حققت إنجازًا ترغب في الذهاب إلى المقربين منك لتخبرهم، أليس كذلك؟ يجب أن يوجد أحد يصفق ويواسي ويطبطب.

التكنولوجيا هي السبب

لماذا ظهر أصلًا هذا النوع من الوحدة؟

لأن شكل المجتمع حاليًّا تغير كثيرًا عن شكل المجتمع قديمًا، أغلب الشباب يبتعدون عن بيوتهم من أجل فرص عمل، فأصبحت سن الزواج وتكوين الأسرة متأخرة جدًّا مقارنة بأي زمن مرّ، ومن ثم فمستوى التقارب المتاح في حياتنا أصبح مختلفًا وربما أقل. 

لكن ليست هذه وحدها المشكلة، لأن السبب الأكبر الذي أثر في علاقات الجيل الحالي هو التكنولوجيا، أتفق معك أن لها مميزات كثيرة، لكنْ دائمًا هناك جانب مظلم، ربما نتفق أنها سهلت التواصل بيننا، وأصبحتَ تستطيع أن تتواصل مع أصحابك في أي مكان، في محافظة أخرى أو بلد آخر أو حتى قارة أخرى، لكن إن كان صاحبك هذا معك وأغلب تواصلكما على مواقع التواصل الاجتماعي، فهذا التفاعل بينكما لا يتم بشكل شخصي حقيقي يعطي لكما فرصة لتقتربا أكثر، وكل هذه التفاعلات أو أغلبها تمرّ بوسيط تكنولوجي بينكما.

بالإضافة إلى أن التكنولوجيا جعلت عقليتنا تقنية في العلاقات، فإن ضايقك صاحبك وشغلك بمشكلاته على مواقع التواصل، يمكنك أن تلغي الصداقة أو تلغي متابعته أو تعلق رسائله، وهذا يجعلك غير صبور في العلاقات الحقيقية، تريد دائمًا أن تريح نفسك من المجهود الذي ينبغي أن تبذله لتقترب من الناس، هذا غير شكل الحياة الاجتماعية والعلاقات التي أصبحت سريعة متغيرة، ربما يظهر لك أن الأمر مريح إلا أنه في الحقيقة يجعلنا نفقد الأمان النفسي ويقضي على أي محاولة تواصل حقيقية.

طبعًا أخضر لا يقول لك افصل نفسك تمامًا عن مواقع التواصل الاجتماعي، لكن ينصحك بأن تقلل منها، وأن تحدد وقت استخدامك لها، وتتعلم كيف تقترب من الناس في العالم الحقيقي كما سنشرح الآن.

كيف أقرب؟

هذا هو الكلام المفيد، قل لي الحل مباشرة، هل أصاحب طوب الأرض وأمشي مع كل الناس، أم أُحِبُّ وأُحَبُّ، ربما أجد نصفي الثاني ويكرمني الله وأجد من يشعر بي؟

تمهّل يا صديقي.. هذه حلول غير مضمونة، على العكس، ربما تزيد الوحدة أصلًا إن لجأت إلى مثل هذه الحلول وفشلت في القرب، لأن صدمتَك حينها ستكون أضعافًا مضاعفة، كيف لا تفهمني زوجتي؟ هل يُعقل ألا يشعر بي أصحابي كلهم؟ لكن هل وضعك أخضر أمام مشكلة من قبل دون أن يخبرك بحلها؟ فقط اهدأ قليلًا وركز معي حتى النهاية وأجب عن هذا السؤال، ما الذي يجعلك ترغب في معرفة شخص قابلته أو التقرب منه أكثر؟

بالتأكيد جذبك فيه شيء ما، أفكاره أو ذكاؤه أو طريقة كلامه أو حتى شكله وماله إن كنت ماديًّا، الجاذبية هي الدافع الأول إلى التقارب بين أي طرفين، حسنًا.. إن وُجِدَ الدافع وأردت أن تقترب من شخص ما فعلًا، سواء كان صديقًا أو حتى شريك حياة محتمل، كيف تعرف أنه شخص يمكن أن تقرب منه؟

تعرف هذا عندما يملك نوعين أساسيين من المهارات:

النوع الأول هو مهارات التعارف:

- أول مهارة من هذه المهارات هي القدرة على كشف الذات، بمعنى ألا تكون عنده مشكلة في أن يشاركك أمورًا عن نفسه وهذا شيء أساسي في أي علاقة تستهدف القرب. إذًا كيف تعرف أن هذا الشخص لديه مشكلة في هذه الجزئية؟ تعرف هذا إن كان يتجنب الرد على أي سؤال شخصي بسيط، أو ربما يدور حول السؤال ويمكن أن يقول أشياء متناقضة وهكذا.

- المهارة الثانية هي القدرة على التبادل، أي تبادل الكلام والأسئلة والاهتمام، بمعنى ألا يتهرب منك في حين أنك ترد على كل أسئلته، أو أن يريد أن يظل دائمًا في دائرة الاهتمام ومحور الكون ولا يهمه أمرك.

- المهارة الثالثة هي تقبل المعلومات الجديدة التي سيعرفها عنك، لأن أغلبنا يكوّن تصورات عن الطرف الآخر ربما تكون غير حقيقية أو غير كاملة، فهل يتقبلك عندما تكشف له حقائق عن نفسك تدريجيًّا، أم يظل متمسكًا بالصورة الأولى؟

- أما المهارة الرابعة فهي أن يكون له حضور حقيقي ووجود في تفاصيل حياتك المستمرة في الوقت الحاضر.

 

هكذا انتهينا من مهارات التعارف، والآن نتطرق إلى النوع الثاني من مهارات التقرب وهي مهارات الرعاية أو الاهتمام:

- المهارة الأولى أن يكون قادرًا على أن يحس بمشاعره ويعبر عنها بشكل صحي واضح، ويفهم أيضًا مشاعر من أمامه من منظوره هو. 

- وهذا يأخذنا إلى المهارة الثانية وهي استجابته للمشاعر بطريقة جيدة، فلو قلتِ إنكِ خائفة تحاول أن تطمئنكِ وتمسك بيدكِ، أو لو قلتَ إنكَ متضايق لا تجد رد فعل غير مبالٍ وتسمع منه أنكَ تعطي للأمور أكثر من حقها. 

- آخر مهارة والأهم أن يكون مستعدًّا لتحمل المسؤولية في العلاقة ويهتم ويقدم الرعاية ويعطي مساحة للشخص الآخر ليهتم به.

إن وجدت أغلب هذه المهارات عند شخص ما فهذه غالبًا فرصة جيدة جدًّا، ومن المحتمل أن يكون صديقًا أو شريكًا رائعًا، حتى إن لم تكن كلها موجودة أو كان منغلقًا على نفسه قليلًا يمكن أن يكتسب هذه المهارات منك ويأخذ ثقة أكبر مع الوقت،  لأن كل هذه المهارات طبعًا يجب أن تكون عندك أنت أيضًا وليس عنده فقط. 

المعرفة الحقيقية

حسنًا.. ماذا إن امتلك الطرفان مهارات التعارف والاهتمام لكنهما غير قادرين على تحقيق التقارب الحقيقي حتى مع رغبتهما؟ هنا نقول إنه ينقصهما شيء بسيط جدًّا سأقوله لك الآن.

لكن جرب أولًا أن تركز على أغلب كلامك مع من حولك سواء أصحابك أو أهلك أو خطيبتك أو زوجتك، ستجد أنكم تتكلمون في مواضيع كثيرة جدًّا تشمل رغباتكم، إما أن تقول لأصحابك ماذا تريد أو ماذا ستفعل، وإما تسألهم ماذا ستفعلون أو ماذا تريدون، ونادرًا جدًّا أن يسأل أحد عن الاحتياج، لماذا ستفعل هذا؟ أو لماذا تريده أصلًا؟

سعاد تسأل صديقاتها دائمًا عن أنظمة تغذية صحية ومجموعات تمارين رياضية، وهن يعرفن أنها مهتمة بهذا ويظنن هكذا أنهن يعرفن سعادَ فعلًا، في حين لم تجرب إحداهن أن تسأل "لماذا تهتم سعاد جدًّا بأنظمة التغذية والرياضة؟"، هل يمكن أن يكون هذا الاهتمام علامة على عدم الرضا عن شكلها؟ إذًا يجب أن نساعدها بأن نتقبلها وندعمها أولًا، ونحاول أن نجعلها تتغير بشكل متوازن حتى لا تتأثر نفسيتها بالسلب، ساعتها سنكون فعلًا قد اقتربنا من سعاد وعرفنا احتياجها إلى القبول الاجتماعي والشعور بالرضا الذي كان مختبئًا وراء رغباتها واهتماماتها الخارجية.

كيف نصل إلى الاحتياجات الحقيقية للإنسان لنستطيع أن نقترب منه أكثر؟

عن طريق الأسئلة طبعًا، فإن لاحظتُ أن صاحبي حزين بعدما خرج من الامتحان، وأردت أن أقترب منه أكثر، في ظنك كيف يمكن أن أسأله، هل أقول له:

- لِمَ لَمْ تذاكر جيدًا يا صديقي؟

- ماذا ستفعل في الامتحان القادم؟

هذان مثالان على الأسئلة السيئة، ففي السؤال الأول أنت افترضت أنه لَمْ يذاكر ولمُته على هذا، وفي السؤال الثاني تحمّله همّ أن الامتحان القادم سيحدث فيه ما حدث في هذا الامتحان! الأسئلة الصحيحة التي تزيد قربك من الناس يا صديقي هي الأسئلة التي تتركهم ليعبروا عن أنفسهم ومشاعرهم فيها من غير أي افتراضات أو اتهامات، فيمكن أن تسأله:

- أراك متضايقًا يا صديقي، ما بك؟ 

وهكذا عرف صديقك أنك لاحظت تغيره وليس الامتحان همّك الوحيد، وسيبدأ يشتكي مما يضايقه وهو أداؤه في الامتحان، وفرصتك تزيد حينها في أن تظهر تعاطفك وتعرض المساعدة وتشرح له ما لم يفهمه، وحبذا إن اجتنبت تمامًا الأسئلة المستفزة مثل: لِمَ كان حلُّك سيئًا؟ حتى لو كان السبب واضحًا كالشمس، لا تقترب منه بشكل مباشر. 

التقمص العاطفي والاهتمام

حتى إن كنت أعرف السبب أو الاحتياج بشكل واضح؟

نعم، لأن الهدف هنا أن تتركه يعبّر، وتنظر إلى الأشياء من وجهة نظره ومن مشاعره لتستطيع أن تتعاطف وتهتم وتقرب، ليس بكلامك فقط بل بأفعالك أيضًا، وفكر دائمًا إن كنت مكانه ما الذي سيجعلك تشعر شعورًا أفضل؟

جميل.. كيف توصل إلى الشخص الآخر أنك مهتم فعلًا بأفعالك؟

- أولًا يجب أن تكون موجودًا في الأحداث العادية واليومية وليس في المناسبات فقط، وأن تكون حاضرًا بعقلك ومشاعرك.

- وإن حاول أن يلفت اهتمامك إلى شيء يريدك أن تشاركه فيه، يجب أن تفعل وأنت مهتم فعلًا ولا تمثل أنك مهتم.

- ومن المهم جدًّا ألا تحاول أن تغير نقاط الضعف الحقيقية في شخصية الآخر.

نقاط الضعف ليست مشكلة بل تعتبر جزءًا من الشخص، كأن يكون لدى الشخص خجل زائد قليلًا يجعله متوترًا أمام الناس ولا يحب التجمعات، فهنا لا يصح أن تتعامل مع هذا الضعف على أنه مشكلة يجب أن تحلها، إن لم تستطع الوصول إلى الرضا وتتقبلها فلا تقترب أكثر، لأنك ستجد العلاقة انقلبت فجأة إلى معركة وأنت لا تفهم أين المشكلة.

لكن احذر.. هذا لا يعني أني أقول لك تقبل الأشخاص السامين الذين يسببون لك ألمًا لا تقدر على تحمله، لا طبعًا، كل العلاقات فيها نسبة طبيعية من الألم والمجهود، وما دام هذا طبيعيًّا وغير مقصود فتحمله.

- واحذر أيضًا.. فالتقارب لا يعني أن يعرف كل منكما كل شيء وأدق التفاصيل عن الآخر، يجب أن يوجد قدر من الخصوصية والمساحة والحدود.

الحفاظ على التقارب

حسنًا وإن كنت أملك -الحمد لله- علاقات جيدة جدًّا وقريبة مني، ماذا أفعل لأحافظ عليها؟

توثقها ببعض المسامير وتثبتها: 

- أهم مسمار هو الروتين والعادات والمواقف واللغة، يجب أن تظلوا متشابهين في هذه الأشياء لأنها صاحبة التأثير الأكبر في قرب العلاقة. 

- وحبذا إن وُجِدَت ذكريات مشتركة، حافظوا عليها وتذكروها دائمًا، وإن لم يكن لديكم ذكريات فاخلقوها معًا، لتجدوا وقت المشكلات أشياء جميلة ترجعون إليها.

- يجب أيضًا أن يكون جزء كبير من أهدافكم مشتركًا، فلا يريد أحدكم أن يسافر العالم والآخر يريد أن يظل في البيت تحت اللحاف.

- وأخيرًا حافظ على جو الاحترام والمودة قدر الإمكان، لأنه الأكسجين الذي ستتنفسونه في العلاقة.

الآن اقترب من نفسك!

أحدهم كان يسمع الحلقة كلها ويهز رأسه ينتظرني أن أنتهي ليخرج لي البطاقة المدمرة ويقول لي: "انتهيت؟ أنا لا أحب نفسي أصلًا، وأشعر أني غريب عني!".

أنا لا أعجز يا صديقي، اسمعني.. طبّق النصائح نفسها التي ذكرناها سابقًا على نفسك واعرفها كأنها شخص آخر.

كيف؟

الأمر بسيط، لاحظ صفات جميلة في شخصيتك أو أشياء جيدة تفعلها بإتقان، واسأل نفسك لماذا تفعلها وما دوافعك إليها، حاول أن تفهم رغباتك وتعرف احتياجاتك واهتم أن تشبعها، لماذا أرغب في ممارسة الرياضة؟ هل لأني لا أتقبل شكلي، أم إني أقلد أصحابي، أم لأحسّن صحتي وأهتم بها؟

والأهم أن تفصل مشكلاتك وتحلها دون جلد ذاتك.

وأخيرًا تحكم في وقتك مع التكنولوجيا، وزود الوقت الذي تجالس فيه نفسك، لا أقصد أن تكون وحيدًا منعزلًا، بل أقصد أن تسمع نفسك، ربما يزول شعور الغربة يا صديقي!