التفكير في صناديق جديدة

Book-Cover

مقدمة

تبدأ أحداث مسرحية "لا مخرج" للفيلسوف سارتر والشخصيات الرئيسة محبوسة في غرفة تشبه الصندوق، وكانت هذه الغرفة هي الجحيم، وعلى مدار أحداث المسرحية بذل هؤلاء الأشخاص قصارى جهدهم وصرخوا وطرقوا الباب بقدر ما كانوا يعانون ليخرجوا من الجحيم، وفي اللحظة الأخيرة، فُتِحَ الباب أخيرًا، أخيرًا جاءت فرصتهم للحرية، الكل يجري ناحية الباب لينجو بنفسه، لكن ليس هذا ما حدث، المحبوسون لا يخرجون، بل ظلوا في الداخل لم يخطوا خطوة واحدة خارج الباب! 

لم يخرجوا فعلًا، متخيل يا صديقي أنهم فضَّلوا البقاء في الجحيم عملًا بمبدأ "ما نعرفه أفصل مما لا نعرفه"، وخوفَ أن يبدؤوا من الصفر في مكان مجهول حتى لو كان الجنة؟!

في مكان آخر على هذه الأرض، كلب اسمه سارتر -سُمِّيَ على اسم الفيلسوف نفسه- كان هذا الكلب يقفز كل يوم من فوق سور مزرعة أصحابه لينطلق ويلعب مع الجيران، فأشفق أصحابه عليه وأزالوا السور، ومع ذلك ظل سارتر يقفز كل مرة من المكان نفسه وأصبح غير قادر على إدراك أن السياج لم يعد موجودًا، الكلب لم يكن أعمًى، لكنه ظل محتفظًا من التجربة السابقة بأن الطريقة الوحيدة للخروج هي القفز من فوق السور لدرجة جعلته لا يدرك أن السور لم يعد موجودًا!

هل تذكرت شيئًا؟ ما فعله شخصيات المسرحية والكلب مشابه لطبيعتنا نحن البشر، دائمًا ما نخلق قوالب ذهنية تريحنا ونحصر أنفسنا فيها، وهذه القوالب هي الصناديق التي نضعها على رؤوسنا وننظر من خلالها إلى العالم، ومع الأسف نرى في البداية أنها تساعدنا ولكنها في الحقيقة يمكن أن تضرنا وتمنع عقلنا من التفكير بشكل مختلف أو تقبل أي شيء لا يتماشى مع نظرته إلى الحياة.

 لذا سيعرفك كتاب حلقتنا اليوم "التفكير في صناديق جديدة: نموذج فكري جديد للإبداع في عالم الأعمال" لـلوك دي براباندير وآلان أني، كيفية تقييم صناديق تفكيرك بموضوعية لتعرف سلبياتها ومن ثم يعلمك كيف تصنع صناديق جديدة تساعدك على حل أي مشكلات تواجهك بطريقة مبدعة ومختلفة.

لنرَ الآن طريقة التفكير في الصناديق الجديدة التي ذكرها الكتاب.

1- التفكير خارج الصندوق لا يكفي

ينصحك الجميع دائمًا بالتفكير خارج الصندوق لدرجة أنك مللت هذه النصيحة، لذا قرر هذا الكتاب أن يخبرك بشيء جديد وهو أنك لن تستطيع الاستغناء عن هذه الصناديق أصلًا، وأن عقلك في الحقيقة لا يمكنه فهم الواقع والتعامل معه إلا بواسطة هذه الصناديق. 

وذلك لأن التفكير في أي شيء في الدنيا يشمل عملية تصنيف، وأي شيء يواجهه العقل إما يدرجه تحت فئة قديمة، وإما يخلق له فئة جديدة، اعتبر عقلك مثل الخزانة، مليء بالأدراج والأقسام، يحتاج عقلك إلى أن يصنف كل شيء إلى خبرات وتجارب وفئات مفهومة كما نفصل الجوارب عن القمصان في الخزانة، لذا نجد أن نصيحة التفكير خارج الصندوق ليست نافعة بما يكفي.

قد تظهر من الخارج مميزة ومبدعة لكن لا معنى لها، لأنها لا تقدم إلى الناس أي توجيه ليجدوا حلولًا أفضل، كأنك تنصح أحدًا بألا يقود على طريق معين لكن لا تمده بأي معلومة عن الطريق الصحيح ولا تحدد له المشكلة، هل المشكلة في قيادته للسيارة أم في السيارة نفسها؟ وهل لو استقلّ "التُّكتُك" مثلًا سيصل بأمان؟ 

إذًا ما الحل العبقري لهذا الموضوع؟

الحل أن تصنع صناديق تفكير جديدة لكن بمواصفات مختلفة، صناديق تقدم عدد لا نهائيًّا من الحلول والإمكانات. 

كما فعل السويسري المتهور ريمو لانج سنة 2012 عندما قفز من طائرة فوق سويسرا، وكانت قفزة سقوط حر من ارتفاع يزيد على 600 متر فوق مستوى البحر وهو يرتدي بذلة بأجنحة وطار 16 ميلًا، وكل هذا لأنه بدل الصندوق الذي يقول إن البشر لا يستطيعون الطيران، بصندوق يقول إنهم يستطيعون، لِمَ لا؟ وهذا لا يعني أن تقلده لتجرب الفكرة، لا تجلب لنا المصائب سترك الله! 

كل ما نريده فقط أن تقفز من أسطورة التفكير خارج الصندوق، لكن يجب أن تفهم أولًا الصناديق الحالية التي تحكم تفكيرك، والأهم أن تعرف الثغرات التي ستخرجك منها، وإلى أين ستذهب بعدما تخرج؟

سنخبرك الآن كيف تفعل ذلك من خلال 5 خطوات بالضبط، وسنعتبرها وصفة صناعة الصناديق الجديدة.

2- الخطوة الأولى: إعادة النظر في أساليبك وتصوراتك للواقع

ننصحك في الخطوة الأولى بإعادة النظر في الأساليب والطرق التي تعودت استخدامها لتنجز أي شيء في حياتك، فبدلًا من أن تمشي من الطريق الذي اعتدته وأنت ذاهب إلى العمل، اسأل نفسك، هل هذا أفضل طريق؟ وجرب أن تسلك طريقًا آخر، وبدلًا من أن تبدأ اجتماع العمل بوجه عابس وكلام جادّ، جرب أن تبدأ بدعابة مثلًا.^^ 

إعادة النظر في كل شيء ستزيد من إبداعك وتفتح ذهنك.

فمثلًا ديك فوسبيري -أحد الذين شاركوا في مسابقة "القفز العالي" سنة 1968- قفز بالعكس، أي قفز بظهره، وحينها سخر الناس منه لأن فعله هذا لم يكن المُتوقَّع أو المعتاد، لكن المفاجأة أنه فاز في هذه المسابقة وحقق رقمًا قياسيًّا جديدًا، وسُمِّيَت طريقة القفز هذه باسمه، وحتى الآن لم يفز أحد بميدالية ذهبية إلا باستخدام قفزة فوسبيري! 

إذًا كيف نوظف إعادة النظر؟ هل أشك في شكلي أمام المرآة وأقول أنا لست قصيرًا أنا طويل؟

بالطبع لا، مع أن هذا سيكون مضحكًا بصراحة، لكن الكتاب يتضمن تدريبات كثيرة يمكن أن تخرجك من هذا اليقين الوهمي، أهمها تدريب اخلق مناخًا للشك:

هذا التدريب ينص على أن تسأل نفسك: أي من تصوراتي واعتقاداتي تخدعني؟ تذكر كمَّ الانطباعات الأولى التي أخذتها عن أشخاص واكتشفت أنها خطأ، عمومًا عقلنا يخطئ كثيرًا وخصوصًا في الآراء الأولية، تريد دليلًا؟ 

كثير منا يخاف الطيران ويعتبره وسيلة أخطر من السيارت، في حين أن إحصائيًّا السفر بالجو أأمن بكثير من السفر بالسيارت، إذًا لِمَ يصور لك عقلك أن الطيران أخطر؟

هذا لأنه يستخدم اختصارًا عقليًّا اسمه الاستدلال وفقًا للتوافر، بمعنى أن هذه هي المعلومة المتاحة أمامه بوفرة، ومن الطبيعي أن حوادث الطائرات تشتهر جدًّا وكثيرًا من الأفلام صُنِعَت لتجسيدها، إذًا بدهي أن يكون الطيران أخطر، فبقدر تطور العقل وتعقيده إلا أنه كسلان، لذا احذر ولا تثق بردود أفعالك الأولية أو بأول معلومة يقدمها إليك عقلك، وأعد النظر في كل شيء.

هكذا نكون قد أنهينا الخطوة الأولى للتفكير في صناديق جديدة وسنتطرق إلى الخطوة الثانية وهي: استكشف كل الاحتمالات الممكنة!

3- الخطوة الثانية: استكشف الممكن

ادخل العالم برجلك اليمنى وانظر إليه بعين الشك والتحليل، لأن هذه هي الخطوة التي ستبدأ فيها البحث واكتشاف العالم، هنا تسأل، ما الذي يمكنني أن أتعلمه عن الموضوع؟ وهل أنا أطرح الأسئلة الصحيحة؟ وأين يجب أن أبحث؟

ولنطبق الخطوة على عالم الأعمال، فلو مشكلتك في شركتك فأنت تحتاج إلى أن تجمع أكبر معلومات عن مجال صناعتك وأحوال شركتك وأنواع المنتجات وأحوال الاقتصاد العالمي وأشياء أخرى كثيرة.

وطبعًا لن تستطيع أن تبحث عن كل هذا، لكن لا تقلق، حدد لك الكتاب أهم 3 مجالات لتبحث فيها: 

1- المستهلكون: تحتاج إلى أن تعرف جيدًا الأفراد الذين يشترون منتجك، والعوامل التي تجعلهم يفضلونه عن غيره، وما ينقصهم في رحلتهم الشرائية.

ففي ماكدونالدز مثلًا، غيروا أشياء كثيرة في قائمة الطعام لديهم ليلبوا حاجات المستهلكين، فبدؤوا يقدمون السَّلَطَات وزودوا شرائح التفاح في وجبات الأطفال مما زاد مبيعاتهم.

2- استكشاف المنافسين: هنا ستبحث عن العوامل التي تحرك استراتيجيتهم وتحدد نقاط ضعفهم وقوتهم، كما ستحاول أن تتأكد من نظرتهم إليك، هل يرونك منافسًا كما تراهم أنت؟

فمثلًا شركة بيبسي هي المنافس الرئيس لكوكاكولا، لكن كوكاكولا ليست المنافس لبيبسي، لأن كوكاكولا تركز على المشروبات الغازية فقط، لكن بيبسي تمتلك علامات تجارية أخرى في مجال المأكولات، إذًا المنافسة بينهما ليست كما تخيلناها، وليست كما توحي إعلانات رمضان. 

3- التوجهات الكاسحة: هذه ما يمكن أن تقضي عليك وعلى عملك وعلى الكوكب كله، ويجب أن تواجهها بالتفكير المستقبلي، وبأن تتخيل سيناريوهات مختلفة وتفكر في كيفية التصرف معها، مثل انتشار فيروس كورونا. 😭 

سيرشح لك الكتاب طرائق كثيرة لكل عنصر، كما سيساعدك على التفكير فيه بشكل أوسع.

أما الخطوة الثالثة من خطوات صناعة صناديق جديدة فهي التشعب، وبها سنبتكر فِكَرًا جديدة. 

4- الخطوة الثالثة: شعِّب

هنا ستحتاج إلى أن تسمح لنفسك بالخطأ والابتكار وخلق أفكار غريبة دون خوف.

المهم قبل أن تبدأ في التشعب أن تجهز نفسك بالمسألة الرئيسة التي تحاول البحث عن إجابة لها، وهذه الخطوة تكون فعالة أكثر إن كانت جماعية، وحبذا لو كانت بعيدًا عن مكان العمل.

إليك بعض النصائح التي ستضمن لك نجاح جلسات التشعب:

1. حدد هدفًا واضحًا يعرفه كل الموجودين، قل لهم من البداية مثلًا إن الثمرة التي تنتظرها من هذه الجلسة أن نبتكر أفكارًا تجعل الشعب الموزمبيقي يتكلم عن منتج البسكويت الرائع الخاص بي!

2. ركز على جمع أكبر عدد ممكن من الأفكار وتقبلها كلها، لأن أي فكرة مهما كانت سيئة يمكن أن تؤدي بك إلى فكرة أخرى أفضل.

كما حدث مع شركة الاتصالات التي قررت عمل دعاية إيجابية بأن تكافئ المشترك رقم 100.000 بجائزة لافتة للأنظار، وفي جلسة تشعب اقترح واحد من الموجودين أن يأتوا له بالشخصية المشهورة المفضلة لديه إلى البيت، أعجبتهم الفكرة في البداية ثم وجدوا أن هذا سيكون مُكلفًا غير عملي، فكيف مثلًا سيحضرون الملكة إليزابيث أو جوليا روبرتس إلى بيت أحدهم؟ 

لذا راجعوا الفكرة وقرروا أن يحضروا شبيه الشخص الذي يحبه، وبالفعل كانت حملة مرحة ناجحة جدًّا. 

3. انظر إلى قضيتك الرئيسة من زوايا عدة وحاول أن تضعها في إطار جديد.

وذلك كما فعلت شركة "جينيرالي" للتأمين التي أرادت أن تحسن موقعها الإلكتروني، وبدلًا من أن تسأل ببساطة: كيف أحسّن الموقع؟ سألت: كيف يمكن أن تفرح جدتي عندما تجد "جينيرالي" على مواقع الإنترنت؟". 

بعدما سافرت بخيالك في خطوة التشعب، تأتي الخطوة الرابعة لتعيدك إلى أرض الواقع لتبدأ التطبيق، وهي بعنوان قارب. 

5-الخطوة الرابعة: قارب

وهذه هي المرحلة التي ستقيم فيها أفكارك وتختار أكثر فكرة هادفة وقيمة لتحولها إلى واقع، وهي مثل التشعب في أنها تحتاج إلى وجود آخرين معك، وفيها تحتاجون إلى تحديد 3 أشياء مهمة جدًّا:

1- القيود الرئيسة التي يتوقف عليها نجاح الفكرة أو فشلها، فمثلًا لو كانت شركتك خاصة بصناعة الملابس ومخزون بلدك من الحرير قليلًا، فليس من المنطقي أن تعرض فِكَرًا لملابس حريرية، بالإضافة إلى قيود الدولة التي لا يمكن أن تكسرها مثل المنتجات المحظورة.

 2- المعايير التي ستستخدمها لتختار الفِكَر التي لها الأولوية، وهذه المعايير تضم التكلفة والجهد والخبرات اللازمة، وموافقة الفكرة لأهداف الشركة، وغيرها كثير.

3- إجراءات الاختيار والتصويت التي تحدد من له حق التصويت والاختيار ويمكن يحصل على أكثر من مرحلة بداية من صغار الموظفين وصولًا إلى المديرين.

وإن لم تصل إلى ما يناسب الكل، يمكن أن تكرر خطوات التشعب والتقارب حتى تصل إلى الفكرة التي ترضي الجميع. 

الآن انتهينا من الخطوة الرابعة من خطوات صناعة صناديق جديدة، وسننتقل إلى الخطوة الخامسة والأخيرة وهي خطوة تقيم فيها كل ما فعلته، نعم يا عزيزي أعرف أننا قيمنا في الخطوة السابقة، وسنقيم ثانيًا وثالثًا ورابعًا، وبلا كلل كما يقول الكاتب!  😇 

6-الخطوة الخامسة: أعد التقييم بلا كلل

الخطوة الأخيرة تنصحك بألا تثبت الفكرة أو الصندوق، فلا فكرة ستظل نافعة للأبد، وكل صندوق مهما كان فعالًا مبدعًا في البداية سيأتي وقت ويحتاج إلى أن يُستبدل، كل شيء ذاهب وما دائم إلا وجه الله.

المهم، إن ابتكرت فكرة عبقرية بعد مرورك بالخطوات السابقة، فهذا لا يعني ألا تفكر مرة أخرى، وإنما لتصل إلى فكر عبقرية أكثر يجب أن تكمل في صنع وتعديل وتغيير الصناديق التي تحكم عقلك باستخدام هذه الخطوات غير مرة.  

كما أن هذه الخطوة تجهزك للمستقبل المتغير، لأنها تشجعك على التخلص من الصندوق العاطل في الوقت المناسب، كما فعلت شركة جنرال موتورز وغيرت من نظرتها لأنها أدركت في الثلاثينيات أن السيارات لم تعد تُستخدم للتوصيل فقط، بل أصبحت دليلًا على الثراء والمكانة الاجتماعية، فبدأت الشركة تزود مميزات هدفها الرفاهية والتفاخر فقط فزادت مبيعاتها فعلًا، وعلى العكس شركة فورد التي احتفظت بتصميمها الممل حتى إنها كانت ستفلس وقتها.

وحتى إن كانت الأمور تسير على ما يرام في شركتك وعملك يجب أيضًا أن تتحضر للمستقبل، وتشك في هذه اللحظة وتسأل نفسك: لِمَ أساليبي ناجحة الآن؟ وترى من أين ستأتي الأزمة القادمة؟ وليس هذا ما يفعله العم ضياء، بل هذا ما يجعلك تتخيل أسوأ سيناريو لتستعد بالأساليب التي ستواجهه بها.

وهكذا نكون قد أنهينا كل خطوات التفكير في صناديق جديدة، نتمنى أن تفتح لك يا صديقي بابًا جديدًا للتفكير، وتجعلك ترى المستحيل ممكنًا، وتكسر ما كُتِبَ عليه "غير قابل للكسر"!