أزمة تعلُّق

Book-Cover

 مقدمة

هذا أحمد وهذه مي وهذه خطبتهما السعيدة، كلٌّ منهما كان سعيدًا بالآخر، قضيا الخطبة يتنزهان ويهادي كل منهما الآخر، رسم أحمد في خياله أن الحياة مستحيلة من دون مي، وأنه سيتحدى العالم كله معها، لكن مع الأسف لم يكن لمي مثل مشاعره هذه، كلما اقترب ابتعدت، وفجأة قالت له إنها لن تستطيع أن تستمر معه، وبالفعل انفصلا! 

أظلمت الدنيا في وجه أحمد، اكتأب وانعزل عن العالم، اختل نظام نومه وفقد وزنه وأصبح يسمع تامر عاشور، وكلما سألناه ما بك يا أبا حميد؟ وقلنا تماسك فهذه ليست نهاية العالم، غدًا تحب وتتزوج، قال أنا متعب يا أخضر.. متعب، لقد كانت القمر الذي يضيء حياتي، وكيف سأحب مرة ثانية؟ أنا لن أحب بعدها أبدًا!

وهنا نسأل سؤالًا، كيف يقول إنها قمر يضيء في حين أن القمر لا يضيء بل يعكس ضوء الشمس؟ احم.. آسف ليس هذا السؤال لا، السؤال هو ما سر هروب مي المفاجئ؟ وما سبب عذاب أحمد بهذا الشكل؟ وهل هذا هو الحب فعلًا، ويجب أن يتعذب كل من يحب هكذا؟ أم هذا تعلق زائد؟ وهل يوجد فرق أصلًا بين الحب والتعلق؟ وهل التعلق كله مؤذٍ أم له أنماط؟

خلِّنا نفهم أولًا معنى أن شخصًا متعلق بالآخر..

ما التعلق؟

معناه أن يكون الإنسان مرتبطًا نفسيًّا وعاطفيًّا بوجود شخص ما، ويعتبره مفتاح الأمان النفسي كما قال عالم النفس باولبي، ويتخيل أن هذا الرابط ثابت مستمر لا يتغيّر، وهي بالتأكيد لن تتركه، وهو لن يخذلها، ولا شيء سيفرقهما أبدًا.

 فيبدأ كل منهما يشبع مشاعره واحتياجاته ورغباته من وجود الطرف الآخر، ويحاول أن يتقرب منه أكثر ليحس بالاطمئنان والحماية.

وطريقة تعلق الإنسان بالآخر تتشكل منذ الطفولة، خصوصًا من علاقته بأمه، فمثلًا عندما يبكي الطفل فهذه إشارة إلى أنه جوعان أو يريد اهتمامًا، وحسب استجابة المحيطين أمه وأهله لاحتياجاته، تتشكل خريطة في اللا وعي عنده توضح كيف يشبع مشاعره عن طريق تعلقه بالأم، إن أُشبِعَت هذه المشاعر والاحتياجات بصورة سليمة فسيصبح تعلق الطفل بالأم تعلقًا آمنًا وعندما يكبر كذلك سيصبح تعلقه بالناس آمنًا، لكن إن تجاهلت الأم هذه الاحتياجات، تتكون عنده صور مختلفة من أنماط التعلق غير الآمن التي عادة ما تكون مؤذية سواء له أو للآخرين.

لنتعرف الآن أنماط التعلق ونحدد إلى أي نوع ننتمي..

 أنماط الشخصيات في العلاقة

أول نمط هو النمط الآمن: وهذا هو السعيد، وطبعًا من جاور السعيد يسعد، يستحق الثقة والآمان، مُتفهم لمشاعره ومشاعر غيره ويستطيع تنظيم ردود أفعاله، ليس شكاكًا، يحترم الآخرين وحدودهم ومساحاتهم الشخصية واختياراتهم، متزن بين القرب والاستقلالية، وهذا هو النمط المثالي لأي شخص في العلاقة وهو النمط الوحيد الصحي.

أما النمط الآخر فهو اللا مكترث: يتظاهر بأنه غير مهتم بأي شيء، دائمًا ما يقول أنا لا أحتاج إلى حبكم هذا، أنا أعيش وحدي ملك زماني من دون مشكلات، دائمًا يرى العلاقات عبئًا، وهذا تعبير عن خوفه منها، لأنها تجبره أن يعبر عن نفسه ومشاعره، وقد اعتاد أن يتجاهلها منذ الصغر بسبب إهمال الأم والأهل لإشاراته واحتياجاته، يبكي ولا يلتفتون إليه، ولا يشترون له الأشياء التي يريدها، وإن ارتبط فسيريد علاقة من دون مسؤوليات، حب ودلال فقط، لأنه أراد الحب والدلال في الصغر ولم يجد!

ثالث نمط هو القَلِق: وهذا عكس اللا مكترث تمامًا، لديه حساسية زائدة، وأي شيء بإمكانه أن يؤثر فيه ويضخم مشاعره، يشعر دائمًا أنه لا يستحق أن يُحَب، فيعوض ذلك بالتعلق الشديد بالطرف الآخر، ويقدم كل شيء ويتنازل بسبب خوفه أن يتركه الآخر في أي وقت، لكن الأمر يتحول عنده إلى رغبة في التحكم والسيطرة، فتجده دائمًا يريد أن يعرف كل شيء عنك، أين كنت ومع من، ومتى عُدت، ولِمَ لَمْ تتصل به أمس غير 17 مرة، وهكذا.

النمط الأخير هو الخواف: وهذا نمط مُحيِّر غير واضح، من اسمه دائمًا يخاف أي علاقة رغم أنه يريد أن يكوّنها، لكنه متردد أن يقترب قليلًا ثم يرجع، وهذا نتيجة إساءات تعرض لها في طفولته، أو أنه مرّ بخبرات سيئة ويخشى أن يتعرض للرفض، مما يجعله يلوم نفسه والطرف الآخر، وربما ينسحب من العلاقة فجأة، مثل مي عندما تركت أبا حميد وكسرت قلبه.

 أظنك الآن قادرًا على أن تحدد إلى نمط تنتمي.

هو وهي

لا يكفيك أن تحدد نمطك فقط، بل تحتاج إلى أن تحدد نمط الطرف الآخر، أو الذي سيصبح الطرف الآخر مستقبلًا، ولا تقل لي "السنجلة جنتلة"، قلت لك للتو إن هذه حجة اللا مكترث.

حسنًا، أن تعرف نمطك وصفاتك هذا أمر سهل، لكن كيف ستعرف هذا عن الطرف الآخر؟

هذا سهل أيضًا، أنت بالفعل عرفت صفات كل نمط، الأمر يحتاج منك فقط إلى بعض الذكاء العاطفي لتفهم المشاعر والانفعالات وتستجيب لها بشكل مناسب في الوقت والمكان الصحيحين، وإن أردت أن تعرف أكثر عن الذكاء العاطفي وكيف تكتسبه، فاسمع أو اقرأ ملخصات أخضر  في قسم النمو الشخصي.

ومهم أن تعرف أن نمطك غير الآمن لا يعني أنك ستظل وحيدًا، فربما يكون النمطان مختلفين لكن كلًّا منهما يعرف كيف يحتوي صفات ونقاط ضعف الطرف الآخر، المهم وجود رغبة حقيقية متبادلة للتواصل والتقدير والاهتمام والثقة والدعم، فهُم أساس أي علاقة تعلق صحية، هذا غير أن الأنماط غير الآمنة هذه يمكن أن تعالَج وتتحول إلى أنماط آمنة فعلًا كما سنوضح الآن.

بناء التعلق الآمن

دعنا نبدأ تكوين الأنماط الآمنة من البداية، وكما قلنا فإن أنماط التعلق نتيجة لتربية الوالدين للطفل، بأن يمنحاه الأمان ويشعرا به، ويحتويا مشاعره ويعلماه كيف يتعامل معها، ويعاملاه ككيان مستقل ينمو ويستكشف العالم، وكل هذا عن طريق:

الوجود العاطفي على مدار اليوم والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، وأن يضعا نفسيهما مكان الطفل ويستشعرا ما سيحس به، وأن يقبلا الطفل بعيوبه ومشكلاته ليشعر بالتقدير ولا يحس بالخطر والشك في مكانته عند الوالدين، كما أن عليهما أن يساعداه ويشجعاه ليؤدي المهام بشكل مستقل، وأهم شيء هو إحساسه الدائم بأنه منتمٍ إلى الأسرة، وأنه عندما يحتاج إلى دعم ومساندة سيجد هذا.

علاج الأنماط غير الآمنة

حسنًا، وإن كبرت ُوعرفتُ أن نمطي هو اللا مكترث أو القلق أو الخواف؟

حينها ستركز على التعافي والتحول إلى النمط الآمن، وذلك عن طريق:

- بناء الثقة بالنفس.

- أن تتعلم كيف تعتني بنفسك، وتشبع احتياجاتك بنفسك من دون اعتماد مطلق على الآخرين.

- أن تتعلم كيف تدير وتحتوي مشاعرك وتعبر عنها بشكل متزن.

- ومهم جدًّا أن تضع حدودًا واضحة في العلاقات وتحترمها أيًّا كان الطرف الآخر. 

- أن تفهم احتياجات الآخر بشكل جيد.

- ومهم جدًّا ألا تجعل كل حياتك تتمحور حول علاقة أو شخص معين، بل وزع اهتماماتك ونوّع من هواياتك وأهدافك الخاصة لتحافظ على استقلاليتك. 

- وهذا لأنك محتاج إلى أن تكون متوازنًا، فإن كنت اللا مكترث فاسمح لنفسك بأن تقرب وتهتم بصدق، وإن كنت قلقًا فاستقل نفسيًّا.

-  واقبل التعرض للرفض أو الانفصال.

وفي الكتاب تفاصيل أكثر تخص علاج كل نمط بذاته، وهذه الخطوات ستغير قناعتك الشخصية عن نفسك تدريجيًّا، ومع الوقت ستغير سلوكك ونمطك كله أصلًا، ولا مانع أن تطلب مساعدة متخصص إن كنت غير قادر على فعل ذلك وحدك.

مفاهيم مرتبطة بالتعلق الآمن

عمومًا التعلق لا يأتي هكذا وحده، بل يأتي ومعه بعض المفاهيم الأساسية في أي علاقة تعلق آمنة.

-  وأولها أنك محتاج إلى أن تدرك أن التعلق الآمن مجهود مشترك بين الطرفين.

- وأن أهم عنصر هو بناء الثقة، أي أن تثق بأن الطرف الآخر سيكون ملاذًا آمنًا عندما تحتاج إليه، وركنًا تطمئن فيه عندما تمر بك أوقات صعبة.

-  وثانيها مفهوم التواصل، وذلك لتفهم احتياجات الطرف الآخر ومشاعره وما يريده منك، يحتاج كل طرف إلى أن يسمعه الطرف الآخر، وأن يعبّر عن احتياجاته ومشاعره بشكل مباشر ومن دون أن قول "لو كنت مهتمًّا لعرفت".

- والأخطر هو طريقة تعاملكما في الأزمات، وكيف سيُدار الخلاف، هل سيكون الهدف حل الخلاف والخروج منه أقوى، أم إنكار وجود المشكلة والهروب منها، أم سيهاجم كل طرف الآخر؟

- ومن المفاهيم المهمة الاعتذار، والاعتراف بالخطأ والندم، وطلب المسامحة من الطرف الآخر، وفي المقابل يتعلم الآخر أن يغفر ويقبل الاعتذار، فلستما عدوين في حرب يريد كل منكما أن ينتصر على الآخر، بل شريكان في علاقة تريدانها ناجحة متطورة.

- التعلق الآمن وسط بين الاعتمادية والاستقلالية، فيبذل كل منكما مجهودًا من أجل الآخر، تخرجان معًا، ويهادي كل منكما الآخر وتقولان كلامًا حلوًا، وفي نفس الوقت يحافظ كل واحد على المساحة الشخصية للطرف الآخر ليكون له وقته الخاص به.

كيف نختار؟

الآن نسأل سؤالًا مهمًّا، هل يمكن أن نكون عارفين بأساسيات العلاقة الصحية والبطاقات الحمراء والخضراء ومع ذلك نخطئ الاختيار؟ 

الحقيقية نعم..

وهذا لأننا نتقبل الحب الذي نظن أننا نستحقه، بمعنى لو رأينا أنفسنا غير جديرين بالحب فسنقبل علاقات مؤذية جدًّا تقلل من احترامنا لذواتنا ومشاعرنا، كما يمكن أن نختار أن نعيد تجارب سابقة سيئة لنؤكد لأنفسنا أن تصورنا صحيح، حتى إن الأمر قد يصل إلى استفزاز الطرف الآخر ليتحول إلى شخصية سيئة، أظن الآن أنك أدركت كيف يمكن للماضي أن يتحكم في اختيارنا، لذا لا مفر من التعافي من تجارب الماضي وتعلم حب النفس أولًا.

التعافي من الانفصال وتجارب الماضي

لو كنت أعرف كيف أتعافى لما أصبح هذا حالي يا أخضر! 

أنا سأقول لك كيف يا صديقي..

أحيانًا تفشل كل محاولات إصلاح العلاقة، وتكتشف أن لا فائدة منها وأنها سامة ويجب أن تنتهي، وعلى الرغم من أن نهاية العلاقات بالانفصال أمر عادي جدًّا ووارد أن يحدث مع أي أحد، فاستجابة الناس له ليست واحدة، كلنا نخاف الهجر والوحدة والتهميش، وكلما زادت اعتماديتنا على الطرف الآخر زاد خوفنا من الانفصال، وهذا ربما يجبرنا على الاستمرار في علاقات سامة، مُحمّلين بشعور بالذنب والدونية، شاعرين بأننا نستحق كل ما يحدث معنا.

هل تذكر أحمد ومي؟ أول ما يحدث الانفصال نصبح مثل أحمد، نشعر بالألم والتيه وأن هذه هي نهاية العالم، كما نضخم مشاعرنا السلبية بالأغاني وحالة البؤس التي نعيشها، لكن لا يصح أن نترك أنفسنا لهذه الحالة كثيرًا.

والتعافي يمر بثلاث مراحل: 

- المرحلة الأولى هي الاحتجاج ويشمل مشاعر الغضب والإنكار ومحاولة استعادة العلاقة مع الطرف التاني. 

- المرحلة الثانية هي اليأس والحزن والشعور بأنه لا فائدة أو أمل في المستقبل.

- المرحلة الثالثة هي العودة إلى الحياة اليومية العادية، ومحاولة تنظيم انفعالاتنا بشكل متوازن كما كنا، وننفصل تمامًا عن الطرف الآخر، وبعدها نستطيع أن ندخل في علاقات جديدة ونحب بشكل طبيعي.

الحل ليس في الاختفاء

والعلاقات كما ترى تحتاج إلى مجهود وصبر، أنا لا أريدك أن تتعقد بعد حلقة اليوم، أنا فقط أفهمك وأوعّيك لتنتبه في ما بعد، حتى لا تقول أنقذني يا أخضر، كلكم تأتون بعد وقوع المصيبة، لا أحد يأتي قبلها!

عمومًا يا صديقي لا يصح أن نتكلم عن التعلق دون أن نتكلم عن علاقتنا بربنا، وهذا لأن التعلق في أصله بحث عن الأمان، لذا فالتعلق بالله هو أقصى درجات الأمان النفسي، وحتى الأبحاث والدراسات النفسية كلها تقول إن المؤمنين بإله عمومًا عندهم قابلية أكبر للتعامل مع الآلام النفسية والعاطفية، يرون كل ما يحدث لهم قدرًا من الله وهم مطالبون بالتسليم والرضا به، والممارسات الدينية عمومًا تحقق العبودية عند الفرد وتضعه في مكانه الطبيعي، وتذكره بأن الدنيا مهما طالت فانية لا تستحق كل هذا التضخيم.

وأخيرًا هذه نصيحة أخوية مني، شئت أم أبيت، أنت لديك فراغ وميل فطري للتعلق يجب أن تشبعه، فحاول أن تربط نفسك بمعنًى أكبر في حياتك يملأ بعض هذا الفراغ ويمنعه من التضخم، واهتم أيضًا بعلاقاتك الاجتماعية مع أسرتك وأصحابك، حتى تتزوج يا صديقي وتجد من يؤنسك.