لا تغذِّ عقل القرد

Book-Cover

مقدّمة

هذه بسنت.. بسنت في صغرها كانت تقلق جدًّا من كل شيء؛ من التعامل مع الناس ومن الامتحانات، وبالطبع عندما وصلت إلى الثانوية العامة كان مستوى القلق رهيبًا جدًّا.

نجحت ودخلت الكلية والحمد لله، وجدت التكليفات كثيرة جدًّا.. ألن تكترث؟ لا ستقلق مع كل تكليف، وعندما تقدم زميلها لخطبتها، يا للقلق، قرار الزواج كان بمعجزة..

أنجبت بسنت سارة ومازن.. ولم تعد تقلق كالسابق.. بل أصبحت تقلق أكثر، نبدأ اليوم بالقلق من تأخر الأولاد على الباص، أو أن ينسيا اللانش بوكس، ثم الولد مريض، والبيض أصبح غاليًا! كفى، ما كل هذا القلق؟ كان الله في عون أبي مازن.. هل يقلق هو الآخر؟ أنا آسف.

بسنت ليست وحدها التي تفعل ذلك بصراحة، فكثير ما يكون القلق مسيطرًا علينا في كل خطوة في حياتنا، وتكون عندنا مخاوف كثيرة؛ خوف تقديم برزنتيشن، فقدان وظيفة، فشل مشروع، وهذا الذي يحدث معنا بسبب عقل القرد الذي يتولى قيادة دماغنا.. يقفز من شجرة لشجرة، ومن فكرة لفكرة، يشعر دائمًا بالتهديد فيبحث عن الأمان ويدخلنا في سلسلة من القلق اللا متناهي.

عقل القرد

جرب أن تتذكر معي أي موقف كانت حياتك فيه في خطر، كنت تشعر أن ضربات قلبك تزداد، والأدرينالين يعلو في جسمك، وصوت بداخلك يقول: اجرِ يا مجدي.

كالوقت الذي كانت ستصدمك فيه سيارة، أو عندما وجدت كلبًا يجري خلفك في الشارع.

الصوت الداخلي الذي ينبهك لوجود خطر ويخبرك بأن تجري هو عقل القرد، وهو جزء موجود في عقلك ومسؤول عن حمايتك من أي تهديد أو خطر يمكن أن يقابلك، وكذلك من ضمن مهامه أن يحافظ على علاقاتك الاجتماعية مع الناس.

لكن المشكلة أن طريقة تفكير عقل القرد لا تستطيع التفريق بين خطر أسد متوحش وخطر أن تنسى القهوة على النار، ويفضل دائمًا أن يجعلك في safe side أو منطقة الأمان، فيعتبر أي شيء جديد تهديدًا أو خطرًا عليك، وأن ما لا تعرفه من الأفضل الابتعاد عنه.

فمثلًا لو نويت أن تفتح مشروعًا، فهذه خطوة كبيرة، فسيشعر القرد بالخطر، ومن ثم سيأتيك فورًا ويقول لك لا تفعل! أنت لست متأكدًا ما إذا كنت ستنجح ويمكن حدوث أى مشكلة، غير أن الخطة ليست دقيقة، افترض أنها فشلت؟ بالتأكيد سيحزن أهلك وأصدقاؤك وسيصبح منظرك سيئًا.

والله ما قصر القرد.. لقد شعرت بالتهديد بالفعل وبدأت بالتراجع وإلغاء الفكرة، وعندما ألغيتها شعرت أن القلق قد زال.. الحمد لله، ومن ثم تأكد شعورك بأن المشروع كان تهديدًا عليك بالفعل!

وهنا تكون قد اكتملت أركان دورة القلق الأربعة بنجاح..

دورة القلق

- أول ركن عندما شعر القرد بأن هناك خطرًا عليك.

-  فقرر أن يحميك ويأتي للركن الثاني وجعلك تشعر بالقلق.

- عندها لو أصغيت لكلامه ستلجأ للركن الثالث المسمى باستراتيجيات الأمان.

- وهنا يكتمل الركن الرابع بأنك أكدت لعقل القرد أنك كنت في تهديد فعلًا.

وهكذا تستمر دورة القلق بالشكل نفسه كلما هممت بفعل الأمور التي تمثل لك قلقًا. 

وهذا يفسر دخولك في دوامة من القلق اللا متناهي عندما تفكر أن تبدأ شيئًا جديدًا عليك..

ولاحظ في مثال المشروع أن تفكير عقل القرد جعلك تمر بقلق عن طريق 3 أمور:

- أولها أنك لا بد أن تكون متأكدًا ومدركًا لأي مشكلة ومتوقعًا كل نتيجة يمكن أن تحدث في المستقبل،  ستقول لي يا أخضر هذا تفكير منطقي فما المشكلة؟
سأقول لك يا صديقي إن المشكلة هي أنك تبالغ في التفكير لدرجة أنك تتجمد في مكانك، ولا تشعر أبدًا أنك اتخذت القرار الصحيح.

- أما الأمر الثاني الذي نجده في عقل القرد فهو التمسك بالمثالية، فتسوِّف كثيرًا إلى أن تجد الوقت والظروف المثالية، ومع الأسف يمكن أن تعتبر أي نتيجة أقل من المتوقع فشلًا إلى أن تحبط وتقف.

- أما الأمر الأخير فهو الإحساس الزائد بالمسؤولية، وأنك مسؤول بتصرفاتك عن سعادة الآخرين، وأنك لا بد أن تكون عند توقعاتهم وإلا فسوف تشعر بالذنب.

ومن هنا يا صديقي إذا استولت عليك هذه ال3 أفكار ستلغي المشروع وأي خطوة مهمة أو جديدة في الحياة، لذا من المهم جدًّا أن نكسر دورة القلق هذه.

استراتيجيات الأمان

والآن لنتكلم أكثر عن الركن الثالث، وقصة استراتيجيات الأمان..

واستراتيجيات الأمان هي التصرفات التي تستخدمها كي توقف إحساس القلق وتبتعد عن المجازفة وتصبح في بر الأمان مرة أخرى، وهي التي تغذي عقلية القرد.

والسلوكيات أو الاستراتيجيات التي نستخدمها وقت القلق دائمًا ما تتحقق فيها صفتان:

- أول صفة أنها سلوك متكرر، ويمكن أن تكون في روتين يومك وتمنحك راحة مؤقتة من القلق.

- وثاني صفة لها أنها تبعدك عن هدفك الأساسي.

وكيف نعرفها؟

أولًا أن تراقب نفسك، وترى ما السلوكيات التي تفعلها وقتما تجد أمرًا ثقيلًا عليك، ويسبب لك قلقًا، كمذاكرة مادة صعبة لم تفتحها من بداية الترم.

- يمكن أن تبدأ في إلهاء نفسك بأي شيء؛ تتصفح الفيسبوك مثلًا، تصنع كوب الشاي رقم مئة، تحاول عمل طبخة جديدة أو تتعلم لغة النمل الأحمر، وهكذا…

- كذلك من الممكن أن تلجأ لاستراتيجية التسويف والمماطلة، وتقول سآخذ استراحة محارب فيقل قلقي وأركز أكثر، ومع الأسف هذا لا يحدث ويمكن ألا تعود أصلًا.

- ومعنا أيضًا الأفكار الثلاث التي أخبرنا بها عند فتح المشروع، وهي: "أنك لا بد أن تكون متأكدًا من كل شيء، والتمسك بالمثالية، والتحمل الزائد للمسؤولية".

الترحيب بالقلق

ستقول لي حسنًا يا أخضر لقد تكلمنا كثيرًا عن عقل القرد ودورة القلق، هل توجد طريقة ألغي بها القلق أم لا، لأنني بدأت أشعر بالقلق؟

سأقول لك يا صديقي لا تفكر في دب قطبي..

فكرت؟ بل وتخيلت شكله أيضًا!

يمكن أن تستغرب الآن وتسألني ما الذي يربط الدب القطبي بالقلق؟

سأقول لك إنها الفكرة نفسها، عندما تكون لديك فكرة سلبية أو شعور كالقلق، وتحاول منعه بأن تحاول ألا تفكر فيه، فستجد نفسك عندها قلقًا أكثر، وتفكر في الفكرة السلبية أكثر! مثلما فكرت في الدب رغم أنني قلت لك لا تفكر فيه.

 

لذا يمكننا أن نتفق الآن أن الحل ليس في مقاومة شعور القلق، فما العمل إذًا؟

  • العمل أن تتقبل مشاعر القلق وتأخد نفسًا عميقًا وتقول في نفسك شكرًا يا صديقي القرد على التنبيه، لكنني سأحاول أن أكمل في الشيء الذي أهرب منه إلى أن يفهم عقل القرد أن هذا الشيء ليس خطرًا.
  • ومن الممكن أيضًا أن تخصص وقتًا كل يوم تفكر  فيه في الأمور التي تقلقك وتسأل نفسك، ما أسوأ سيناريو يمكن أن يحدث؟ وعبر عن قلقك بكل حرية، شرط أن تتجاهل القلق باقي يومك.
    ومن ثم لو كنت تعمل على شيء معين وجاءك شعور القلق، ساعتها قل للقرد سأقلق لكن ليس الآن ربما في الساعة 12.

وكانت هذه أول خطوة في التغلب على القلق وعلى عقل القرد.

استراتيجيات توسعية

نأتي للخطوة الثانية، وهي أن تتوقف عن تغذية شعور القرد بالقلق.. واستعد يا صديقي لأننا سنكسر دورة القلق وسنغيرها الآن..

عن طريق قلب استراتيجيات الأمان وجعلها استراتيجيات توسعية..

 وتعال لنعود لمثال المشروع، حتى نفهم أكثر:

- وسنجد أن أول استراتيجية أمان واجهتها أنك لا بد أن تكون متأكدًا من كل شيء 100%، كي لا تكون هناك احتمالية لأن تواجه مشكلة ما في المستقبل.  

استراتيجية التوسع المقابلة هنا أن تقول في نفسك: سأضع افتراضًا بأنه من الممكن أن تواجهني مشكلة لم أحسب حسابها، وساعتها كل ما سأحتاج إليه بعض المرونة فقط.

- وثاني استراتيجية أمان سنستبدل بها هي التمسك بالمثالية، والتوسع هنا أن تقبل وجود أخطاء في عملك أو تصرفك، أنت فقط تبذل وسعك وما في مقدرتك، ونقد الآخرين لك سيكون فرصة كي تحسن من نفسك.

- أما ثالث استراتيجية أمان منعتك أن تفتح المشروع كانت الإحساس الزائد بالمسؤولية، وهنا كنت تفترض وتتحمل شعورًا سلبيًّا بدلًا من أهلك وأصحابك، واستراتيجية التوسع تقول هنا إنك غير مسؤول عن تحمل هموم غيرك لسلامك النفسي، وغيرك لا يحتاج إلى أن تفرض أو تسيطر على مشاعره، هو فقط يحتاج منك إلى دعم وتعاطف.

ودعنا نخرج من فكرة المشروع قليلًا ونعود إلى بسنت التي حكينا عنها في البداية، بسنت كان عندها قلق رهيب بسبب إحساسها الزائد بالمسؤولية تجاه أولادها، للدرجة التي تجعلها تتحكم في تصرفاتهم وتتدخل في قراراتهم خوفًا أن يتخذوا قرارًا خطأ.

وهذا مع الأسف كان يشكل عبئًا عليها وفي الوقت نفسه يشكل ضغطًا عليهم هم، والتوجيه والنصيحة في هذه الحالة كانا خيارين أفضل بكثير لهم.

 

وتعال نتخيل الدورة الجديدة بعد أن نستبدل باستراتيجيات الأمان الاستراتيجيات التوسعية، ونرى كيف سيكون شكلها:

- أول ركن هو نفسه، أن القرد سيشعر أن هناك خطرًا عليك، فستجد صوت إنذار وأضواء حمراء داخل دماغك. 

- فيتحقق الركن الثاني وتبدأ الشعور بالقلق.

- لكن هذه المرة وفي الركن الثالث لن تهرب من إحساس القلق باستراتيجيات الأمان، وكما اتفقنا لن تقاوم شعور القلق، كل ما ستفعله أنك ستستخدم الاستراتيجيات التوسعية.

- وعندها سيتغير الركن الرابع تمامًا، لأنك ستكون قد تغلبت على قلقك وستنهي الأشياء التي كنت تؤجلها بسبب قلقك، والدافع هنا سيكون المعارف والخبرات والقرارات التي ستؤخذ بثقة. 

- وهنا يا صديقي لقد أصبحت جاهزًا لأن تفتح المشروع أو تنطلق في أي شيء آخر كنت قلقًا منه.

  حيل مساعدة

ودعني أخبرك ببعض الحيل الإضافية التي ستساعدك على تنفيذ استراتيجياتك الجديدة:

- حاول أن تصنع جدولًا من أربع خانات، ضع في أول خانة كلام عقلية القرد، وفي ثاني خانة عقليتك التوسعية والقيم التي تريد أن تحققها، وفي الخانة الثالثة ضع استراتيجية الأمان التي يستخدمها، وفي آخر خانة ضع استراتيجيات التوسع وطريقة تنفيذها، وفي النهاية ضع علامة على الاستراتيجيات التي استطعت تنفيذها.

- ومن الممكن في البداية أن تتدرب وتبدأ بالمهمات التي تشكل لك قلقًا أقل كإحماء.

- إلى جانب محاولة النظر إلى الأمور بإيجابية أكثر، وشجع نفسك وقل لها أحسنت، حتى لو لم تتمكن من إتقان الأمر تمامًا، وركز أن ترى ماذا تعلمت من التجربة وقيم خطواتك بدلًا من جعل كل تركيزك على النتيجة النهائية فقط.

- وفي النهاية يمكن أن تحكي لأصحابك عن موقف كان القلق مسيطرًا عليك واستطعت أن تتغلب عليه في النهاية وانتصرت، كنوع من تبادل الخبرات والمشاركة.

الخاتمة

وهنا يا صديقي أنت من اليوم جاهز لأن تودع القلق، تبقى فقط أن تحضر ورقة وقلمًا وتكتب الأشياء التي تقلق منها دائمًا والتي كنت تؤجلها، واعرف ما استراتيجيات الأمان التي تستخدمها وبدل بها استراتيجيات توسعية، ثم قيم نتيجة استراتيجياتك واختر أكثر شيء مناسب لك. 

ولا تنس أن تقول لنا في تعليق ما الأشياء التي تسبب لك القلق، وما استراتيجياتك الجديدة التي ستفعلها للتغلب عليها؟