كيف تصبح مُفكرًا مبدعًا

Book-Cover

 مقدمة

في رأيك، ما الذي يجمع بين دافنشي وجاليليو وبيكاسو وموزارت وداروين؟ -غير أن كلهم رجال ميتون- طبعًا ستقول إنهم مشهورون جدًّا وكانوا عباقرة في مجالاتهم.

جميل، وما الذي جعلهم عباقرة؟

ظهرت دراسات كثيرة حاولت أن تربط العبقرية بأي شيء، منها ما يقول إنها ظروف أسرية مثل أن بعضهم كان يتيمًا مثلًا، ومنها ما يقول إنهم كانوا مرضى في طفولتهم، لكن لم تثبت أي دراسة بشكل قطعي علاقة أي شيء بالعبقرية.

إذًا ما القصة؟ السر كله يا صديقي مُتعلق بطريقة التفكير التي تجعلهم يرون أشياء لا نراها نحن، ويربطون بين أشياء لم تكن لتخطر ببالنا. 

إذ إننا عندما نقع في أزمة نفتش في عقولنا عن حل قديم استخدمناه في موقف مشابه ونقول: "وجدتها!"، وإن لم نجد موقفًا مشابهًا نفكر بطريقة تقليدية جدًّا، لكن العباقرة عندما يواجهون مشكلة لا يفكرون مباشرة "تُرى ما حلها؟"، ولكن "هل تُراني أحيط بالمشكلة من كل جوانبها؟ وبكم طريقة أستطيع أن أحلها؟ وبأي طريقة أصلًا سأفكر في الحل؟". 

 

يقدم لنا الكتاب ٩ استراتيجيات للتفكير الإبداعي، سنأخذها واحدة واحدة، ونبدأ بالاستراتيجية الأولى التي توضح لنا كيف نرى أي موضوع أو مشكلة بمنظور مختلف، وهي استراتيجية "كيف ترى؟".

1- الاستراتيجية الأولى: كيف ترى؟

كما قلنا منذ قليل إن الواحد منا عندما يقع في مشكلة يتطوع عقله ويعطي له حلًّا معتمِدًا على خبرات قديمة، ويتخيل أنه هكذا سهّل علينا الأمر، لكنه لا يعرف أنه أغلق في وجهنا أي باب تفكير مختلف. 

وهذا ما يميز العباقرة، هم يعرفون أن هذا سيضللهم أكثر، لذا طلب دافنشي منا ما يسمى بـ"إعادة هيكلة المشكلة"، وببساطة هذا يعني أن تشَكِّل المشكلة من جديد أكثر من مرة.

حسنًا كيف أعيد هذه الهيكلة التي يتكلم عنها؟

أولًا تحتاج إلى تحديد المشكلة، لكن ليس أي تحديد، بل يجب أن نصيغ المشكلة على شكل سؤال واضح وهو "بأي طريقة أستطيع أن أفعل كذا وكذا؟"، تخيل لو أن هربرت إيفرست مُخترع الكرسي المتحرك سأل نفسه بعد إصابة ظهره "كيف أشغل وقتي وأنا راقد على السرير؟" بدلًا من "كيف أترك السرير وأمارس حياتي بشكل طبيعي؟"، بالتأكيد لم يكن ليخترع الكرسي المتحرك ولم يستفد به الآلاف من الناس.

بعد إعادة صياغة المشكلة ستصبح لديك طرائق كثيرة لإعادة هيكلتها:

أولها طريقة اسمها التجريد، ومعناها إعادة صياغة المشكلة إما بطريقة شاملة وإما بطريقة محددة. 

فلو أن مشكلتك تكمن في قلة مبيعات متجرك، يمكنك أن تسأل نفسك: "بأي طريقة أستطيع بيع منتجات أكثر؟" وتكتفي بهذا، لكن يمكنك أن تكمل وتسأل: "لماذا أريد أن أبيع أكثر؟"، مثلًا لأني أريد أن أزيد دخلي وأعيش حياة أفضل، وساعتها يمكن أن تنظر بمنظور جديد وتسأل: "بأي طريقة أستطيع تحسين معيشتي؟".

وثانيها طريقة متعلقة باختيار الكلمات وتأثير تغييرها.

عندما طلبت شركة تويوتا من موظفيها أن يقدموا اقتراحات عن كيفية زيادة الإنتاجية، لم يرد عليهم غير عدد قليل جدًّا، لكن عندما غيروا السؤال إلى "كيف تجعل وظيفتك أسهل؟"، انهالت عليهم الإجابات من كل صوب وحدب. 

وثالثها طريقة لإعادة هيكلة المشكلة وهي أن تضع نفسك مكان المشكلة، نعم كما سمعت.

أينشتاين العبقري الأشهر في العالم تخيل نفسه شعاعًا من الضوء، وبهذه الطريقة استطاع أن يصل إلى نظرية النسبية، فماذا سيحدث مثلًا إن تخيلت نفسك سلك كمبيوتر تالفًا؟ 

رابع طريقة والأخيرة هي الأسئلة، زود الأسءلة ولا تهتم، ويمكن أيضًا أن تفكر في المشكلة كأنها كائن حي يحتاج إلى أن تسأل عن شكله واهتماماته وميوله لتفهمه. 

حتى الآن نحن نتكلم عن الاستراتيجية الأولى فقط للتفكير الإبداعي.

أما الاستراتيجية الثانية فهي أن تعطي تفكيرك شكلًا مرئيًّا. 

2- الاستراتيجية الثانية: إعطاء تفكيرك شكلًا مرئيًّا

في عصر النهضة حدث انفجار إبداعي رهيب، وعندما بدأ تحليلُ أسبابه وُجِدَ أنه مرتبط بتسجيل كل شيء عرفه العلماء والفلاسفة بلغة أخرى وهي لغة الصور والرسوم البيانية. 

ولو ظلَّ كل العلماء معتمدين على اللغة العادية فقط لفقدنا واحدة من أهم الاكتشافات الفيزيائية على الإطلاق وهي إمكانية انشطار الذرة، لأن كلمة الذرة نفسها تعني في اللغة اليونانية "الشيء غير القابل للانقسام"، لذا اقتنع كل الفيزيائيين القدماء بأنها أصغر جزء، وبعد سنين خرج العلماء من هذا القيد اللفظي ونظروا إليها بشكل مرئي أكثر، مما جعلهم يكتشفون أنها يمكن أن تنقسم!

كما وجدنا في مذكرات داروين تمثيلًا بيانيًّا متكررًا للطبيعة على شكل شجرة لها فروع كثيرة لا يشبه بعضها الآخر، وساعد هذا الشكل على جمع أفكاره عن التطور والجمع بين معلومات لم تكن الصلة بينها ظاهرة أصلًا.  

إذًا هل علينا أن نصنع شجرًا عشوائيًّا لأي مشكلة مثل داروين؟ هذا ممكن طبعًا، لكن من الأفضل صنعُها بطريقة منظمة أكثر أي على هيئة خرائط ذهنية.

وتقنية الخرائط الذهنية هذه ظهرت على يد توني بوزان، الذي وجد أن الخرائط المرسومة تنشط المخ، والخريطة عامة تعتمد على كلمة مفتاحية لموضوعك، ومن ثم تُخَرّج منها أفكارًا وتصورات على شكل أسهم وخطوط، وهذه الأسهم تساعد مخك على تكوين العلاقات بسهولة وإخراج أفكار مبدعة.

فاعلية هذه الخرائط ترجع إلى أنها تشبه الطريقة التي يجمع عقلُنا الفِكَر َبها، لذا يقبل مخك المعلومات الموجودة في الخريطة ويسهل عليه تذكرها.

نوِّع في شكل الخرائط الذهنية، فقد حدث من قبل أن أحدًا صنع خريطة على شكل سمكة وانتشرت جدًّا. 

بهذا نكون قد انتهينا من الاستراتيجية الثانية، وسننتقل إلى الاستراتيجية الثالثة التي تشرح لنا كيف نفكر بسلاسة وطلاقة.

3- الاستراتيجية الثالثة: التفكير بسلاسة

من الخصائص التي تميز العباقرة هي غزارة إنتاجهم، نشر أينشتاين 248 بحثًا غير النسبية، ورسم بيكاسو أكثر من 20 ألف رسمة، وكل هذا ناتج عن التفكير بسلاسة وطلاقة.

التفكير بسلاسة معناه أن تطلق العنان لعقلك ليأتي لك بفِكَر كثيرة دون أن تقيده، أما التفكير بطلاقة فيحتاج إلى أن تعتمد على مبادئ اسمها تفكير الشَّمَال الحقيقي.

لماذا ليست الجنوب أو الشرق؟ اسم هذه المبادئ مستوحًى من نوع بوصلة اسمها البوصلة الدوارة، وهي تُشير إلى الشمال الحقيقي للأرض الذي لا يتأثر بالمجال المغناطيسي، على عكس البوصلة العادية التي تشتتك كلما تحركت وغيرت اتجاه الشمال، لذا خذ هذه المبادئ ثقة.

 إذًا ما هذه المبادئ؟

- أول مبدأ هو تأجيل إصدار الأحكام: فإن أتاك حل وأنت تفكر لا تقل "لا، لن يجدي"، ثم تبحث عن حل جديد، لأن هذا مما يقتل الإبداع، فمهما كانت الفكرة ضعيفة في البداية يمكنها أن تمهد لك الطريق لفكرة ثانية وثالثة وهكذا. 

- ثاني مبدأ هو توليد أكبر عدد ممكن من الفِكَر، لا تكتفِ بأول فكرتين فقط لأنهما بالتأكيد لن تكونا مبدعتين، لذا تحتاج إلى أن تكمل.

- ثالث مبدأ هو تسجيل الفِكَر، احتفظ دائمًا بدفتر صغير تدون فيه أي فكرة تخطر ببالك.

- المبدأ الرابع والأخير من مبادئ تفكير الشمال الحقيقي هو تطوير الفِكَر، وأكبر مثال على هذا هو عندما اخترع ألكساندر جراهام التليفون، طوّر إديسون عمل ألكساندر واخترع الفونوغراف وهو أول جهاز استُخدِم لتسجيل الصوت.

أما الاستراتيجيتان الرابعة والخامسة فهُما صناعة توليفات غير مألوفة ووصل ما ليس متصلًا.

4- الاستراتيجية الرابعة والخامسة: اصنع توليفات غير مألوفة وصِل ما ليس متصلًا

لديك 3 طرائق لتصنع هذه التوليفات غير المألوفة:  

1. الطريقة الأولى اسمها أسلوب دافنشي، قبل أن يرسم دافنشي الموناليزا كان يرسم وجوهًا غريبة وهذا لأنه كان يدرس خصائص الوجه، وبعد أن استوعبها تمامًا بدأ يعدل في كل خاصية ويبالغ في نسبها، ولتفعلَ مثله يجب أولًا أن تحدد مشكلتك أو هدفك ثم تكتب العوامل الخاصة بالمشكلة وتحت كل عامل متغيراته وتحاول أن تدمج بين هذه المتغيرات.

2. الطريقة الثانية تكون بدمج عناصر أفضل احتمال وأسوأ احتمال.

ماذا يعني هذا الكلام؟ يعني لو أنك فكرت أن تبدأ مشروعًا، اسأل نفسك إن كنت تملك كل الموارد التي ستحتاج إليها، فما الفكرة التي يمكن أن تخرج بها؟ وعلى النقيض إن كنت مفلسًا تمامًا، فكيف ستفكر؟ ثم حاول أن تدمج الفكرتين.

3. وآخر طريقة في صنع التوليفات هي دمج المجالات، كما دمج سلفادور دالي الرسم مع نظرية النسبية ورسم لوحة طبيعة الموت والحياة التي تصور أشياء مختلفة في وضعيات حركة وسكون في الوقت نفسه.

حسنًا ماذا عن استراتيجية وصل ما ليس متصلًا؟ 

- يمكنك أن تصنع بنك أفكارٍ بأن تقطع مقالات وإعلانات وتجمعها في علبة، وعندما تواجهك مشكلة اختر أي واحدة بشكل عشوائي وحاول أن تربطها بمشكلتك.

- والطريقة الثانية أن تكتب الحواس الخمسة، ثم تربط بين الحاسة ومشكلتك، فإن كنت تفكر في كيفية زيادة إنتاجية الموظفين ففكر في ما يمكن أن يسعدهم بصريًّا، بوضع لوحات ملونة على الحوائط مثلًا، أما السمع فيمكن أن تسمعهم موسيقى لطيفة وهكذا.

هكذا نكون قد وصلنا إلى الاستراتيجية السادسة للتفكير العبقري وهي العثور على ما لا تبحث عنه.

6- الاستراتيجية السادسة: العثور على ما لا تبحث عنه

بالتأكيد مرّ بك من قبل أن طُلِبَ منك مشروع للكلية وبدأت فيه وفشلت، ثم خطر ببالك مشروع (مقهى بلدي) سيعيّشك ملكًا، وبالفعل تركت مشروع الكلية وخططت لمشروع المقهى.

 هذه الاستراتيجية خاصة بالمصادفة الإبداعية أو موهبة اكتشاف الأشياء السارة العظيمة صدفةً، لذا عندما تخطر ببالك أي فكرة بعيدة عما تحاول فعله تمسك بها واستغلها لأنها فرصة إبداعية.

- طريقة (زائد ناقص مثير للاهتمام) ستساعدك على تنشيط الصدفة الإبداعية،كل ما عليك فعله أن تقسم الورقة إلى 3 أعمدة، عمود زائد للأشياء الإيجابية وعمود ناقص للأشياء السلبية وعمود مثير للاهتمام لكل الأشياء اللافتة بالموضوع ولا يمكن أن تُعتبر إيجابية أو سلبية، وسيساعدك هذا العمود تحديدًا على ابتكار فكرة جديدة أو على الأقل منظورًا جديدًا لموضوعك.

- الطريقة الثانية للعثور على ما لا تبحث عنه هي إعادة التدوير، ومعناها أن تحدد موضوعًا أو فكرة موجودة بالفعل ومن ثم تحولها إلى شيء آخر سواء بتعديلها أو إضافة شيء من عندك.

أما الاستراتيجية السابعة للتفكير الإبداعي فهي التي ستوضح لنا أهمية العمل الجماعي وروح التعاون.

7- الاستراتيجية السابعة: إيقاظ روح التعاون

 متخيل يا عزيزي أنه في وقتٍ ما كان الثلاثة الحاصلون على جائزة نوبل في الفيزياء -وهم أينشتاين وهايسنبرج وفولفغانغ باولي- يجلسون مع بعضهم ويتكلمون عن اكتشافاتهم والأبحاث التي يعملون عليها من دون أن يتشاجروا أو يخفي أحدهم معلومة عن الآخر؟ ومتخيل أيضًا أن اجتماعاتهم هذه هي السبب في أنك كنت سترسب في مادة الفيزياء في الثانوية؟ 

قبل أينشتاين، فهم اليونانيون القدامى أهمية التعاون الفكري ووضعوا مبادئ "روح الزمالة"، وتشمل هذه المبادئ:

- إقامة حوار، وحوار معناها باليونانية "الكلام بِحُرِّيَّة"، أي إنها لا تتضمن جدالًا أو مقاطعة أو غضبًا أو ضربًا بالكراسي.

-  كما تشمل عدم التحيز، وألا تبدأ حوارًا مع أحد تعتبره غير ذكي لأنك لن تركز على كلامه.

- بالإضافة إلى أنها تؤكد على أن تكون صادقًا مع نفسك ومع أفكارك وتقولها بشجاعة وإن كانت غريبة ومثيرة للجدل.

 وأما آخر استراتيجيتين ومسك الختام هما النظر إلى الجانب الآخر وداخل العوالم الأخرى.

8- الاستراتيجيتان الثامنة والتاسعة: النظر إلى الجانب الآخر وداخل العوالم الأخرى

عندما نحاول حل مشكلة، نفترض، دون قصدٍ، أن لها حدودًا معينة وهذه الحدود تقيد فكرنا وتجعله تقليديًّا، مع أن هذه الحدود لا أساس لها من الصحة، لذا مطلوب منك أن تنظر إلى المشكلة بطريقة عكسية تمامًا.

عندما تولى آل سلون رئاسة شركة جنرال موتورز، اتبع هذه الطريقة العكسية، وبعدما كان الطبيعي أن تدفع ثمن السيارة كاملًا لتستطيع أن تقودها، قال إن بإمكانك أن تقودها من دون أن تدفع الثمن كاملًا واخترع أسلوب الشراء بالتقسيط. 

أنت لن تعكس مشكلتك فقط بل يمكنك أن تقلب أي افتراض في الدنيا وتفتح آفاقًا جديدة لعقلك، فمثلًا بدلًا من أن تقول "أنا أشاهد مقطع فيديو لملخصات أخضر"، ستقول "مقطع الفيديو هو الذي يشاهدني!"، لا تخافوا ولكن احذروا! 👀

أما النظر إلى العوالم الأخرى، فالعوالم هنا مقصود بها مجالات أخرى بعيدة عن مجالك، بشرط أن تملك معلومات كافية عنها لتركز على أوجه مقارنة وشبه وفروق بين حقائق في مجالات وعوالم مختلفة. 

فمثلًا الأخوان رايت اللذان يُنسب إليهما اختراع الطائرة، ركزا على عالم الطبيعة وانبهرا بطريقة طيران الصقور وخصوصًا طريقة احتفاظها بالتوازن، ومما رأيا ودرسا استطاعا أن يطورا الخصائص التي تساعد الطائرة على المناورة والاستقرار وحفظ التوازن. 

يمكن أيضًا أن تغوص في عالم الخرائط الذهنية والرسومات كما شرحنا في البداية إن ظننت أن مشكلتك معقدة والكلام غير قادر على تحليلها جيدًا.

وأخيرًا يمكنك أن تستعين بعالم الخيال كما كان يفعل أينشتاين مع شعاع الضوء كما قلنا سابقًا.

ماذا تنتظر؟ أحضر ورقة وقلمًا وسجل كل ما قلناه في شكل خريطة أو وردة أو حتى ضفدع، وابدأ في الاستعانة بهذه الطرائق في تفكيرك، من يعلم؟ ربما تكون أنت العبقري الجديد، لكن لا تنسَنا!