لماذا لا يحب التلاميذ المدرسة؟

مقدمة
دعني أسألك سؤالًا مباغتًا، هل تحب الذهاب إلى المدرسة؟
ودعني أيضًا أخمن أنك غالبًا ستكون محتارًا بين أنك كنت تحب الذهاب إلى المدرسة بسبب اجتماع الأصحاب والذكريات والمواقف اللطيفة التي مررت بها، وأنك لم تكن تطيق سيرة النظام المدرسي والمناهج والمواد التي لم تفهمها مثل الرياضيات والعلوم، والمدرس الذي زاد من كرهك للمدرسة، والاستيقاظ مبكرًا بصعوبة لتتناول الإفطار وتحمل حقيبة في مثل وزنك، ثم تجري لتلحق بحافلة المدرسة أو وسائل المواصلات قبل الازدحام حتى لا تتأخر على الطابور، أهم شيء ألا تتأخر على الطابور.
أما الأمهات، فطبعًا يعتبرن فقرة المذاكرة مع أطفالهن كابوسًا، لا تعلمين ما يجب أن تفعليه لهم، وكل مجهودك معهم يتبخر في اليوم التالي!
أما إن كنت معلمًا أصلًا، فكان الله في عونك.
لكن شئنا أم أبينا، فالمدرسة مؤسسة ضرورية جدًّا، لأن الطفل يدخلها وهو لا يعرف أي شيء، وهناك لا يتعلم فقط المواد الدراسية، بل يدرك العالم ويفهمه من خلالها ومن خلال تعامله مع زملائه ومعلميه والإدارة وغيرها من الأنشطة التي يمارسها، ويقضي الطفل فيها فترة كبيرة جدًّا نحو 15سنة من حياته، لذا فظاهرة الكره المتزايد للمدرسة خطيرة جدًّا وغير مبشرة بنتائج مستقبل الأطفال،
نعود إلى المدرسة.
التعليم والتفكير
عادة ما يكون الطلاب الذين يواجهون صعوبات دراسية أكثر مَن لا يحبون المدرسة، لذا نحتاج إلى أن نسأل، ما الذي يجعل طالبًا متفوقًا وطالبًا متأخرًا؟ ما الذي يوجد عند المتفوق ولا يوجد عند الآخرين؟
هل يفكر المتفوق بطريقة أفضل من الآخر مثلًا؟
هنا سأصدمك وأقول لك إن الوظيفة الأساسية للعقل ليست التفكير!
بالضبط كما أقول لك، على العكس، فإن العقل دائمًا ما يحاول أن يتجنب التفكير، لأنه عملية مرهقة وبطيئة جدًّا، لذا فالعقل يلجأ إلى الاعتماد على الذاكرة، غير أن العقل له وظائف أخرى أهم مثل الإبصار والحركة وتعديل أوضاع الجسم.
وهذا الاعتقاد عن وظيفة العقل من أكبر المعتقدات الخاطئة المنتشرة، التي كره كثير من الطلاب المدرسة بسببها.
ولتفهمني أكثر، دعنا نعرف أولًا كيف تتم عملية التفكير، المعلومات والمؤثرات التي تأتينا من الخارج، وكل شيء نسمعه ونراه نسميه البيئة، وعندما تدخل كل هذه المؤثرات دماغك وتفكر فيها تكون قد انتقلت من البيئة إلى الذاكرة العاملة التي هي الجزء الواعي في تفكيرنا، لكن مساحة الذاكرة العاملة محدودة جدًّا بالإضافة إلى أنك تبذل مجهودًا ذهنيًّا كبيرًا لتحافظ على المعلومات الموجودة فيها لفترة قصيرة، وهنا يحاول العقل -كما قلنا- أن يتجنب عملية التفكير، فيحول بعض المعلومات مع الوقت إلى الذاكرة الطويلة المدى، أما بقية المعلومات فيتخلص منها وينساها.
تصبح المعلومات التي تخزن في الذاكرة الطويلة المدى معارفَ وحقائقَ وتظل فترة طويلة في ذاكرتك ويمكنك أن تسترجعها في ما بعد، مثلما تتعلم القيادة، في البداية تركز جدًّا وتكون واعيًا لكل تفصيلة وحركة تفعلها، ثم تفعلها بشكل تلقائي مع الوقت وتكرار الممارسة.
أو مثلًا عندما تقابل مسألة رياضيات لأول مرة وتجد صعوبة شديدة في الحل، ثم تطلع على حلول لها أو لمسائل مشابهة، فتتحسن قدرتك على حلها، وذلك لأن الذاكرة تدخلت ولعبت دورها.
الذاكرة
لكن.. كيف نعتمد على الذاكرة دائمًا؟ وكيف عرفنا أول معلومة؟ وكيف نستطيع تعلم أشياء جديدة؟
الفهم هو التذكر لكنه متنكر قليلًا، ونحن نتعلم عن طريق ربط الأفكار الجديدة بما نعرفه فعلًا.
قل لي أي شرح للكهرباء أسهل، أن أقول لك إنها طاقة تنشأ من تحرك الإلكترونات بسبب فرق جهد بين نقطتين في جزء من مادة موصلة للكهرباء، أم أن أشبّه لك الأمر بخرطوم مياه، وجريان المياه يمثل حركة الإلكترونات، واندفاعها من طرف حتى خروجها من الفتحة يكون بسبب فرق الضغط، الذي يمكنني أن أزيده إن ضيقت الفتحة بإصبعي مثلًا.
بالطبع واضح أيهما الأسهل، هذه المقارنة توضح أيضًا مبدأً مهمًّا جدًّا من مبادئ العمليات العقلية وهو التجريد، بمعنى أنك تستنتج الفكرة أو المبدأ العام من المسائل أو المادة العلمية، وتستخدمها في الواقع، كأن تستطيع مثلًا أن تحسب مساحة شكل مستطيل، ثم أقول لك احسب مساحة ملعب الكرة هذا.
لو أدركت أن مساحة الملعب هي مساحة مستطيل، ستستطيع أن تطبق ما فهمته من المسألة بشكل واقعي وتحسب مساحة الملعب الذي هو في الأصل مستطيل.
إذًا فهمنا دور الذاكرة الحقيقي، هل معنى هذا أن المشكلات اختفت؟ ستقول لي إنك أصلًا لا تتذكر ما تذاكره، مع أنك تتذكر تفاصيل هدف في نهائي دوري أبطال أوروبا منذ 7 سنين، أو كلمات أغنية إعلان جاء في رمضان من خمس سنين على الرغم من أنك لم تكن تحبه أصلًا.
دعني أفسر لك ما يحدث وأقل لك إن الذاكرة لا تخزن ما تقول لها أن تخزنه، لكنها تخزن ما تفكر فيه، فهي نتيجة التفكير المتكرر في فكرة معينة قد انتبهت إليها الانتباه الكافي، وربطتها بمعنى في حياتك الواقعية، أو سبّبت رد فعل عاطفيًّا مؤثرًا عندك، أو ذكرتك بمشاعر وذكريات قديمة.
لذا إن احتجت أن تسهّل على نفسك أن تتذكر شيئًا ما، فاربط الأمور ببعضها على شكل قصة تُجيب عن أسئلة معينة، لتتمكن من استيعابها بطريقة مسلية منظمة وتتذكرها في ما بعد.
المعرفة والذكاء
ربما تخطر ببالك فكرة ذكية، وهي أنه ما دام الأمر معتمدًا على الذاكرة لهذه الدرجة، فيمكننا أن نذاكر كل شيء قبل الامتحان بأسبوع، ولا يجب أن نذاكر ونتعب من بداية السنة، أنا أعرف أن هذه الطريقة ربما تمكّنك من حصد درجات أعلى بمجهود أقل فعلًا، لكننا نعرف أننا سننسى كل شيء بمجرد الخروج من الامتحان، لماذا إذًا؟
لأنك لم تكتسب معرفة حقيقية، لم يُخزَّن شيء في الذاكرة الطويلة المدى لتمارس عليه مهارات مختلفة مثل النقد والمقارنة والتحليل والتركيب، لكن إن وزعت المعلومات على فترات طوال السنة، فسيظل عقلك مشغولًا بها وسيستطيع أن يعالجها معالجة كافية وينقلها إلى الذاكرة الطويلة المدى، ومن ثم ستتحسن قدرتك على تذكرها باستمرار.
يمكن أن يفعل أحدهم هذا بسهولة وسرعة، أو ربما لا يحتاج إلى أن يفعله ليحصد درجات جيدة، إذ إن نسبة ذكائه العالية تسهّل عليه العمليات العقلية المختلفة، لكن من أين يأتي ذلك الذكاء العالي؟
الحقيقة أنه يكون مزيجًا من صفات وراثية اكتسبها من الوالدين بالإضافة إلى بيئة محفزة استطاع أن ينمو فيها بشكل جيد ويكتسب الذكاء، ومعنى هذا أن أي أحد يمكن أن يزيد نسبة ذكائه بمعدل طبيعي واقعي، وأن هذا يرجع إلى الأشخاص الذين يمثلون البيئة المحيطة، مثل أهله ومعلميه الذين يمدحون مجهوده وليس نتيجته، ويظهرون له أنهم واثقون به، ويحفزونه بشكل معتدل غير هستيري حتى لا تصير النتائج عكسية ويتحول التحفيز إلى ضغط عليه يضخم خوفه من الفشل الذي يجب أن نعامله كجزء طبيعي من عملية التعلم، لأنها عبارة عن رحلة طويلة، تحتاج إلى اجتهاد مستمر لنشعر بفرق حقيقي.
نظرية الذكاءات
هل الذكاء شيء واحد؟
غالبًا ما تجد في كل مجموعة 3 أنواع من الأصحاب، الرياضي الماهر في الكرة الذي نتشاجر لنضمه إلى فرقتنا، والعبقري الذي نهرول إليه في أيام الامتحانات ليحل الأسئلة التي لم نستطع حلها، والثالث الذي إذا سِرتَ معه وقفتم كل 5 دقائق لتسلّموا على أحد معارفه، لكن ما علاقة هذا بالذكاء؟
بالتأكيد كلنا سمعنا بنظرية الذكاءات المتعددة لعالم النفس الأمريكي الشهير جاردنر الذي أوضح فيها وجود 8 أنواع من الذكاء، وليس نوعين فقط كما كان شائعًا، فأضاف إلى الذكاء اللغوي والمنطقي 6 أنواع أخرى، الحركي والاجتماعي والشخصي والموسيقي والطبيعي والمكاني، وأوضح أيضًا أن ليس كل الناس متفقين في نسب ذكاءاتهم، فربما تجد شخصًا يملك ذكاءً موسيقيًّا عاليًا لذا يجيد العزف على الآلات الموسيقية لكن عنده مشكلة مع الرياضيات، في حين أن زميله الذي يملك ذكاءً منطقيًّا عاليًا يحل مسائلها وهو نائم، وزميلهم الثالث رجل رياضي يمارس غيرَ لعبة جماعية وفردية، فسيكون من الظلم أن تعتمد المدرسة على نوعين فقط أو حتى ثلاثة وتجبر التلاميذ عليهم.
وعلى الرغم من شهرة هذه النظرية منذ الثمانينات، فالمفاجأة أنه ليس من الجيد أصلًا أن نصنف التلاميذ حسب أنواع ذكائهم ونجعل كلًّا منهم يمارس النوع الذي نعتقد أنه متميز فيه ويترك بقية المهارات والمعارف، وهذا لأن الإحصاءات الحقيقة لا تدعم تأكيد النظرية أصلًا، إذًا ماذا نفعل الآن؟!
الصواب أن نقسم المحتوى التعليمي بحيث نعرضه بعدة طرائق في الوقت نفسه، فإن كان المعلم يشرح درسًا من دروس الجغرافيا، فيمكنه أن يعرض للطلاب مكان الدولة على الخريطة، ويسمعهم نشيدها الوطني، ويعرض لهم لباسها التقليدي وأشهر تعبيراتها اللغوية وتقاليدها وأعرافها ليفهموا الوضع الاجتماعي لهذه الدولة، وهكذا نكون قد جمعنا بين أكثر من نوع ذكاء، وراعينا أشهر الأنماط المعرفية للتعلم التي تعبر عن الحاسة المفضلة لاستقبالنا للمعلومات، فبعض الأشخاص يفهم أفضل عندما يرى الكلمة أو المعلومة أمامه وهذا نمطه بصري، وكانت الخريطة تطبيقًا عليه في مثالنا، والبعض الآخر يعتمد على حاسة السمع فشرح المعلم والنشيد الوطني سيؤثر فيه أكثر، أما النمط الحركي فيعتمد على التواصل باللمس، ويكتشف العالم بجسمه، وهذا يجب أن يجرب بيده.
دوافع التعلم
لكن من المهم أن نعرف أن كل هذه الأساليب والمحاولات لن تنجح إلا لو كان الطالب نفسه عنده دافع إلى التعلم، كلنا نملك فضولًا فطريًّا يحببنا في تعلم أشياء جديدة، بالإضافة إلى أننا نحب شعور الإنجاز والرضا الذي نستمتع به بعد نجاحنا في حل مسألة أو مشكلة أو تعلم معلومات جديدة، فكيف نوازن بين هذه الدوافع وعقلنا الذي يميل إلى تجنب إرهاق عملية التفكير؟
الأمر بسيط وهو أننا نمسك العصا من المنتصف، نقدم إلى الطالب مشكلة معقولة المستوى ما بين الصعوبة والسهولة، ليست صعبة لدرجة أن يتكاسل عن بذل مجهود لحلها لأنه يظن أنه لن يستطيع حلها، فلماذا سيحاول أصلًا؟ وليست سهلة لدرجة أن يستهتر ولا يبذل مجهودًا لأنه يراها محلولة أصلًا، فوجود المشكلة على مسافة متساوية بين السهولة والصعوبة يحافظ على الطالب في حالة من نشاط، إذ إن صعوبة المشكلة ستحفزه وفي الوقت نفسه يرى أنها يمكن أن تُحَل.
وإن كُنّا المعلمين فيجب أن نحترم الحدود المعرفية ونتقبل الفروقات الفردية للتلاميذ، ولا نتوقع منهم مستويات عالية بشكل مفاجئ، فالنتيجة ستكون بطيئة بطبيعة الحال، ولا يجب أن نعتبر التلميذ ماكينة، إن ذاكر وتفوق فسأعامله جيدًا وإن لم يفعل أو عانى صعوبات معينة فسأعامله معاملة سيئة أو أغير نظرتي إليه، ففي النهاية قيمته غير مستمدة من ذكائه أو من درجاته.
حاول أيها المعلم أن توقظ دوافع الفضول والحيرة في عقول الطلاب لتجذب انتباهم الكامل، وغيّر دائمًا الإيقاع والأسلوب التدريسي حتى لا يملوا، وشجعهم دائمًا على القراءة.
ختام
وأخيرًا، فالنصائح والمعلومات كما لاحظت ليست موجهة إلى المعلم ليطبقها مع تلاميذه، أو إلى الأم وهي تعاني في المذاكرة مع أولادها، بل يمكنك أن تطبقها على نفسك وأنت تذاكر أو تتعلم أي شيء، لأن التعلم حاليًّا لم يعد مقتصرًا على مرحلة عمرية أو مكان محدد، وتذكر دائمًا أن التعليم أو التعلم ليسا غاية وإنما وسيلة، ومن أهم غايات طلب العلم دفع الجهل عن نفسك ونفع المحيطين بك، وعندما تضع الهدف والغاية الحقيقية أمامك ستتشجع أكثر لبذل المجهود وستهُون عليك الصعوباتُ التي تقابلها.