المتحدث الواث

Book-Cover

مقدمة

أتذكر عندما طلب منك معلمك أن تشرح درسًا أمام بقية زملائك في الفصل؟ وهل تذكر عندما أجبرك مديرك على إعداد عرض تقديمي عن الشركة أو آخر مبيعاتكم؟ أو عندما تقدمت لوظيفة وجاء ميعاد المقابلة الشخصية؟ سهرت الليالي دون نوم تبحث عن الموضوع الذي ستعرضه، وجاء اليوم الموعود بعد مجهود كبير ووقت طويل، وبمجرد أن وقفت أمام الناس وأخذت نَفَسًا عميقًا وفتحت فمك لتتكلم، شعرت بجسمك يتشنج وازداد معدل سرعة ضربات قلبك، وبدأت في التعرُّق ثم اتسعت عيناك ونظرت إلى الجمهور فوجدته منتبهًا إليك منتظرًا ما ستقول، حينها تتسلل إلى عقلك أفكار مثل: هل لاحظ أحدهم ما حدث؟ تُرى لو فشلت، ماذا ستكون ردود أفعالهم؟ تبًّا لمن كان السبب في كل هذا!

تقول ليتهم لا يلاحظون، وتضغط على نفسك أكثر فيضيق نَفَسُك وترتعش يداك، والحل الوحيد الذي يخطر ببالك حينها هو أن تختفي من المكان.

اطمئن، فكلنا قد مررنا بهذه التجربة، القلق من التحدث أمام الجمهور، وهو نوع من الخوف الاجتماعي البسيط، هدفنا اليوم محاولة فهم أسبابه وجذوره ومعرفة كيفية احتوائه والتعامل معه، وسنتعلم بعض التقنيات والأساليب التي ستحسن طريقة تعاملنا في أي موقف نتعرض إليه في ما بعد أمام مجموعة من الناس. 

أسباب القلق

سنرجع إلى الوراء قليلًا ونسأل، ما أسباب القلق أصلًا ولماذا الآن تحديدًا؟

القلق يكون نتيجة مجموعة من الأسباب، خبرات سابقة سيئة تعرضت إليها مثل موقف سيئ حدث لك أمام مجموعة من الناس، أو مع أصحابك تسبب في قلة ثقتك بنفسك ونمّى عندك خوفًا قديمًا من التجمعات أو خجلًا كبيرًا يجعلك تهرب وتتجنب التعامل مع الناس بشكل عام، ومخاطبتهم عندما يكونون أعدادًا كبيرة بشكل خاص، وأحيانًا يكون القلق نتيجة استجابة لبعض الأفكار والتوقعات السلبية، ونتيجة لحالة مزاجية ومشاعر سيئة.

أول رد فعل هو أن تحاول إخفاء قلقك عن طريق بعض الحركات الغريبة التي تصبح لا إرادية في ما بعد، فتكون مثلًا في اجتماع مع مديرك وزملائك وتبدأ في اللعب بالقلم أو ربما تتصفح هاتفك أو تلمس شعرك ورقبتك، أو ترتبك في كلامك عندما تحاول أن تتعرف على أشخاص جدد بسبب أنك تتكلم بسرعة، وتتساءل دائمًا، كيف ستكون نظرتهم إليَّ؟

خرافات عن القلق

دعني أقل لك أولًا إن القلق لن يستمر للأبد لأن هذا لا يمكن علميًّا أن يحدث، فعندما يفرز الجهاز العصبي السيمبثاوي هرمون الأدرينالين المسؤول عن زيادة ضربات قلبك وسرعة تنفسك وبقية الأعراض التي تشعر بها، يحافظ الجهاز العصبي الباراسيمبثاوي على انتظام عمليات الجسم، بمعنى أنه يعيد إليك توازنك، لذا لا يزداد الأمر سوءًا بمرور الوقت كما تظن.

هؤلاء الناس الذين تخافهم ليسوا آليين، هم أيضًا يخطئون ويتوترون ويخافون، فلا يجب أن تقلق جدًّا من أحكامهم عليك إن لاحظوا أنك توترت قليلًا، بالعكس، هوّن الأمر واعلم أن الحل لا يكمن في الهروب أو تجنب المواقف التي تواجه فيها الجمهور، فهذا، على العكس، سيزيد قلقك وخوفك وشعورك بالعجز.

 ربما نصحك كثيرون نصائح سيئة من قبل، كأن تتدرب على إلقائك كثيرًا قبل العرض، أو تكتب كل ما تريد أن تقوله في ورقة بالتفصيل الممل وتكرره حتى تحفظ عرضك، نصف هاتين النصيحتين صحيح، التدريب جيد عندما يكون متزنًا، حتى لا تشعر بالقلق إن لم تتدرب 15 مرة مثلًا قبل العرض، وكتابة نقاط عرضك في ورقة مهمة للتنظيم، لكن هذا لا يعني أن تكتب كل شيء لأنك ستكون كالآلة الخالية من العواطف والتعبيرات والتلقائية عندما تتكلم، وهذا سيشكل حاجزًا بينك وبين الجمهور.

بعض الناس يتوترون من الجمهور بسبب تواصلهم البصري معه، لذا يركزون على نقطة فوق الجمهور أو على شيء ما في الأرض أو على شخص واحد فقط وسطهم، مما يقطع أي تواصل أو تفاهم بينهما، الأمر ليس صعبًا، فقط يحتاج إلى تدريب ليس أكثر، ولا تعتبر الجمهور عدوك.

احرص على عدم جلد الذات بعد الانتهاء، ولا تذكِّر نفسك بالأخطاء الكثيرة التي وقعت فيها اليوم، من المهم أن تحلل وتراجع لكن حاول أن توازن، وذلك طبعًا بعد التخلص من المشاعر السلبية.

الاستعداد للتغلب على القلق

حسنًا، كيف تتغلب على القلق بعدما عرفت أسبابه وخرافاته؟

أولًا: حدد الهدف الذي تريد تحقيقه، فهذا سيجعلك تركز كل جهودك على شيء واحد فقط بدلًا من أن تشتت نفسك، اسأل نفسك سؤالًا بسيطًا جدًّا، ما الذي تريد إيصاله إلى الحاضرين من خلال عرضك؟ هل ستقنعهم بفعل ما؟ أم ستوصل إليهم آخر المعلومات في مجالك؟

ثانيًا: نظِّم جيدًا، وذلك عن طريق الاطلاع على كل التفاصيل المتاحة عن جمهورك، عددهم وسنهم ومستواهم الثقافي والاجتماعي، سيساعدك هذا على تحديد أنسب طريقة للعرض واختيار ألفاظك بشكل يليق بهم، كما يجب أن تفحص المكان الذي ستعرض فيه لتعتاده وتكسر حاجز الرهبة.

ثالثًا: ركز على المادة نفسها، وابحث جيدًا في الموضوع واجمع أكبر كم ممكن من المعلومات المؤكدة والحقائق عنه لتكون واثقًا بنفسك في أثناء العرض، ويجب أن يكون تدرّبك عليها كافيًا وليس زائدًا عن اللازم.

رابعًا: حضِّر افتتاحية وخاتمة قوية تجذب الجمهور، مثل قصة مؤثرة أو موقف حدث لك واستفدت منه واربطه بعرضك.

خامسًا: تأكد من أنك ستترك وقتًا للأسئلة ليشعر الجمهور بأنك مهتم بوجودهم، مما سينمي التواصل في ما بينكم، ولا تخف، فحتى إن لم تستطع الإجابة عن سؤال ما فيمكنك أن تطلب مهلة لتبحث ويمكنك تعيد توجيه السؤال إلى الجمهور وسيظنون أنك تحاول أن تجعلهم يشاركون في الحوار.

وأخيرًا لعشاق جلد الذات: راجع وحلل أداءك بتوازن، لا تظلم نفسك وتبخسها حقها، ولا تبدأ التقويم ولديك مشاعر سلبية لأن هذا لن يكون عادلًا، وستحاول أن تشبع رغبتك في الانتقام من نفسك ومعاقبتها، لذا اجعل التقويم مبنيًّا على الشواهد، أحضر ورقة وقلمًا في ساعة صفاء وسجل الموقف الذي حدث وشواهده ونتيجته، مثلًا كنت تتكلم بسرعة في جزء معين بدليل أنه طُلِبَ منك أن تعيده لأنه لم يُفهَم وهكذا.

أدوات مساعدة

حسنًا، بعد أن طبّقت ما سبق، ننتقل الآن إلى الأعراض مثل ضيق التنفس وتسارع نبض القلب والتعرق وغيرها "ما الذي يجب فعله؟ "، في ما يلي بعض النصائح التي ستساعدك على الاسترخاء، مثل التنفس العميق قبل التكلم، تدرب عليه كل يوم، أرخِ عضلات جسمك، عضلات الكتف والرقبة مثلًا، مارس الرياضة بانتظام لتفرِّغ التوتر والقلق.

حاول أن تحسن حالتك المزاجية، واعرف الأشياء التي تسبب لك شعورًا بالسعادة وافعلها، مثل طعام معين تحبه من يدي ست الحبايب، أو رياضة تحترفها أو حتى أغنية أو فيلم تحبه.

ربما يقول لي أحدهم إن هذا الكلام جميل لكنه يعلم أنه لن يجدي معه، وبصراحة أهل مكة أدرى بشعابها، هذا مثال حي على النقد السلبي الهدام الذي لا يقدم ولا يؤخر، تذكر أن كل إنجاز أنجزته مهم مهما كان صغيرًا، مثل مستوى جيد وصلت إليه في أي شيء مارسته، أو تعاملك الجميل مع أصحابك وأهلك ومن يحبونك، فلو تأملت في هذه الأفعال اليومية البسيطة ستعرف أنك لست فاشلًا، مشكلتك فقط أنك لم تعتد النظر إلى هذا الجانب، وتذكر دائمًا مهما كانت النصائح التي ستسمعها فهي متوقفة على قوة إرادتك في التنفيذ، فلا حل يظهر في يوم وليلة.

محاولة احتواء القلق

في ما سبق تكلمنا عمّا يحدث قبل القلق وبعده، حسنًا، ماذا أفعل في الموقف نفسه أمام الجمهور وأنا قَلِق؟

كما قلنا، أنت متفهم لشعورك وتعرف أسبابه وطبّقتَ ما قلتُه لك سابقًا، هذا سيقلل مستوى قلقك جدًّا، ينقصك فقط أن تغير بعض الأفكار البسيطة، تذكر دائمًا أنك أنت الحكم على نفسك وليس الناس، وتوقعاتك هي التي تضغط عليك الآن، وإن توقعت الأفضل مع استعدادك للأسوأ فلن تكون قلقًا جدًّا هكذا، وأذكرك مرة أخرى، توقف عن سلوكيات إخفاء القلق لأنها تزيد قلقك وتشتت تركيزك.

مع كل مرة سترغب في أن تتكلم أمام الناس، بل وتستمتع بهذا أيضًا، فالتعود والألفة سيساعدانك على أن تتخطى مخاوفك، لكن يجب أن تمتلك الشجاعة الكافية للتجربة، ولا تنسَقْ وراء خوفك وتتجنب المواجهة وتهرب منها. 

زيادة الثقة والتعامل مع الجمهور

أهم عنصر في هذه العملية كلها يا صديقي هو الثقة.

يجب أن تثق بنفسك، وهذه حالة ذهنية تزداد مع الأيام والمواقف التي تمر بها، لكن يمكنك أن تتعلم بعض التقنيات التي ستساعدك، كأن تهتم بلياقتك البدنية، وتأكل طعامًا صحيًّا بسيطًا مع بعض التمارين الرياضية وإن كانت منزلية، والمظهر مهم جدًّا وله تأثير كبير في الآخرين، اختر الملابس التي تجعل مظهرك جميلًا منظمًا، وحاول أن تكون على طبيعتك، لكن إن كنت تتصف بصفة لا تحبها فيمكنك أن تغيرها.

حسك الفكاهي مهم، نظم الأفكار أو الطريقة التي ستتبعها في ذهنك، وحاول أن تجعل طريقة عرضك للمعلومات المملة على شكل رواية أو قصة لتجذب انتباه الجمهور وتمنع عنهم الملل.

الآن ننتقل إلى الجمهور، ولنفترض في أسوأ الأحوال أنك أمام جمهور عدواني لا يحتمل حتى نفسه، ويترقب وقوعك في أي خطأ، أو حتى لا يحتاج إلى خطأ ليجادلك، أنا لا أحاول تخويفك لكن كما قلنا فالتحضير والاستعداد لأي احتمالات سيقلل توترك وقلقك.

ما دمت مركزًا على هدفك الأساسي فلن يستطيع أحد تشتيتك، يمكنك أن تترك لهم النقاط الفرعية، وحاول التزام الهدوء والتحكم في أعصابك وردود أفعالك، وكن إيجابيًّا وتفاءل بأن الموقف سينتهي لمصلحتك، ركز دائمًا في النقاش على أن تقول الحقائق المثبتة التي تأكدت منها، تذكر عندما تكلمنا عن البحث والإعداد الجيد؟

واحرص على انضباط لغة جسدك ونبرة صوتك، حتى لا يحتدم الموقف ولا تشحنهم ضدك أكثر، بل امتص مشاعرهم السلبية بثقة، وأسس أرضية مشتركة معهم، وأشعرهم بأنك لست عدوهم بل تعرف مصلحتهم وتريد أن تفيدهم، وأنك تحترم آراءهم وشخصياتهم جدًّا، وأن تكسبهم كأصدقاء أو زملاء أهم من إقناعهم بوجهة نظرك.

ولتعدل سلوكًا أو عادة سيئة عندك، تحتاج دائمًا إلى وقت ومجهود، فالتغيرات الكبيرة هي تراكم لعشرات التغيرات الصغيرة، وإدراكك أنك إنسان ناقص ستظل تخطئ وتتعلم حتى تموت، سيقلل الحِمل والهمَّ الذي تحمله بسبب أنك تريد أن يكون كل شيء مثاليًّا.

إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم.. أليس كذلك؟