فن اللامبالاة

المقدمة
تشارلز بوكوفسكي هو واحد من أشهر وأنجح الروائيين والشعراء في العصر الحديث، صاحب مؤلفات كثيرة انتشرت بسرعة كبيرة، ونجحت نجاحًا غير متوقع، وربما يكون أول ما يخطر في بالك عندما تعرف تفاصيل نجاح بوكوفسكي هو ظنك بأنه شخص منضبط وملتزم، يقرأ ويكتب دائمًا وتعب في حياته، لذلك وصل إلى هذا النجاح.. لكن هذا غير حقيقي، ولو نظرنا إلى قصته سنجد أن حياته كانت مثالًا للفشل. فقد كان بوكوفسكي مدمنًا للكحوليات والعلاقات الغرامية، وكان يعمل في وظيفة عادية لا علاقة لها بالكتابة، وبالنسبة إلى الكتابة.. كانت دور النشر ترفض أي شيء يكتبه لأن كتابته سيئة ورديئة، وظل الوضع كما هو إلى أن تخطى سن الخمسين، ووقتها جاءه عرض متواضع من دار نشر، وعلى الرغم من أن العائد كان أقل مما يتقاضى في عمله، فإنه رأى أن الفارق ليس كبيرًا، وبالفعل استقال من عمله وبدأ بالكتابة، وعرضت كتبه في المكتبات.. وهنا حدثت المفاجأة، فقد انتشرت كتبه بشكل غير متوقع، وتحول الكاتب الفاشل الذي يعيش في حياة أشبه بمستنقع إلى واحد من أهم الأدباء والشعراء.
ما يحاول الكاتب قوله في هذه القصة أن المحاولة والتعب ليسا كل شيء، فيمكن أن تتعب طوال حياتك وفي النهاية لا تصل إلى أي شيء، كما أنك من الممكن ألا تتعب وتصل إلى ما تريده وأكثر، لكن قبل أن تتسرع في الحكم وتكتئب وتقرر ألا تفعل شيئًا في حياتك، تعال لنفهم الموضوع بشكل أعمق، ولماذا يبدأ الكاتب الكتاب بقول لا تحاولوا.. جهز كوب الشاي حتى نبدأ في شرح أهم كتاب في التنمية الذاتية، الذي يهاجم في الوقت نفسه معظمها، ويعطيك نظرة مختلفة تمامًا عن نفسك وعن الحياة.
وهم التنمية البشرية
"لا تحاول" هذه الجملة هي عنوان أول فصل في الكتاب، وهي كذلك الجملة المكتوبة على قبر تشارلز بوكوفسكي. يرى مارك مانسون أن مدربي وكتّاب التنمية البشرية أصبحوا كثيرين، وأن القيمة الحقيقية التي يقدمونها قيمة مضرة، والأفضل لو يبتعد الناس عن هذا النوع من الأفكار. وهنا يتحدث الكاتب تحديدًا عن من يقولون إنك الأقوى على الكوكب، وإنك الوحيد الذي يستطيع فعل المستحيل، وإنك إن أغمضت عينيك سوف تستطيع تحقيق كل أمانيك في الخيال، وما تستطيع الوصول إليه في الخيال ستصل إليه في الواقع.. وبالطبع نعرف جميعًا باقي كلام التنمية البشرية، الذي اعتبر الكاتب أنه يغذي أوهامنا بشكل كبير، ويبعدنا عن الحياة الواقعية.. وهو ما يترك صدمة كبيرة عندما نصطدم بالحياة الواقعية، وعندها نكتشف أننا لسنا أقوى الناس ولا أحسنهم، وأن أحلامنا لا تتحقق بهذه السهولة.. والجدار الذي يمكن أن يقف في طريقك وقال المدرب إنك تستطيع كسره بسهولة، ستكتشف فجأة أنه ليس كذلك.. بكل بساطة إن مارك مانسون يحاول أن يأخذ بأيدينا وينزلنا من هذا الخيال المزيف إلى أرض الواقع، الواقع الذي يقول لنا إننا يمكن أن نحقق أحلامنا لكن ليس بهذه السهولة.. كما يقول إنه لا أحد منا مميز، أنا وأنت وابتسام ومارك مانسون، كلنا بشر عاديون. كما يناقش الكاتب نقطة فلسفية وهي أننا لو أصبحنا جميعًا غير عاديين وأفضل من البشر فمعنى ذلك أننا أصبحنا كلنا عاديين، لأننا جميعًا في المستوى نفسه، كما أن الكاتب يقول إن التنمية البشرية تجعل أعيننا على الأهداف لا الطريق التي نصل إليها منه.. فتجعلك ترى الجسد المثالي وليس سنوات التمارين الشاقة كي تصل إلى هذا الجسد، وتجعلك ترى الثراء، لكنها لا تريك الوقت والتعب والجهد المبذول كي تصبح غنيًّا.. لذا يقول مارك مانسون إننا يجب أن نفكر في الطريق نفسه والمصاعب الموجودة قبل الوصول، كما يقول إنه يجب علينا عندما نختار حلمًا أن نختار معه معاناته ومشكلاته.
المشكلات وطريقة تعاملنا معاها
الجدير بالذكر في نقطة عدم تميز أحد منا، هو أننا لسنا فقط غير متميزين في الحياة بالشكل الخيالي الخاص بالتنمية البشرية.. لا، إننا أيضًا غير متميزين في مشكلاتنا، فمشكلاتك التي تظن أنك الوحيد الذي يعيشها على كوكب الأرض، اسمح لي أن أفسد حزنك وأضيف بعض السخافة على الشخص الدراماتيك بداخلك، وأقول لك إن هذا الكلام غير حقيقي، فالبشر جميعًا لديهم مشكلات.. صحيح أن شكلها يختلف من شخص إلى آخر ومن ظروف إلى أخرى، لكن في النهاية يرى كل شخص مشكلته أكبر مشكلة في الحياة، بناءً على تجاربه في الحياة والمواقف التي يمر بها، فلو كنت شخصًا فقيرًا وأكبر مشكلاتك الحصول على وظيفة، ستجد بعد الوظيفة أنه أصبح لديك إيجار يجب سداده، ومدير في العمل يصعب عليك حياتك، ولو أصبحت أنت مدير العمل.. ستجد الموظفين لديهم مشكلات دائمًا، كما أن من الممكن أن تكون لديك مشكلات في البيت، ولو كنت وحيدًا وغنيًّا وأموالك هي التي تعمل.. فستجد كل خبر جديد عن الأسهم والبورصة يتحكم في حالتك الشعورية وعاطفتك، ولماذا نذهب بعيدًا؟! حاول أن تتذكر مشكلاتك من 10 سنوات مثلًا، أو من 20 سنة.. ستجد أنها بالنسبة إليك الآن مشكلات بسيطة وصغيرة جدًّا، وستستغرب أن هذه هي المشكلات التي كانت تشغلك. من أجل كل ما سبق لا بد أن نسلم بأن المعاناة الإنسانية والمشكلات التي تحدث لنا جميعًا موجودة، وأنه لا أحد خالٍ من المشكلات.. سلمت؟
حسنًا، عرفنا أن الدنيا مليئة بالمشكلات، هل نستمر في البكاء إلى جانبها؟ بالطبع لا، الفكرة أن مارك مانسون يرى أن المشكلات جزء لا يتجزأ من الحياة، وأنها تساعدنا وتجعلنا نتقدم، وهذه المشكلات ما إن تحل فإننا نشعر بالسعادة، فمن غير المشكلات وحلها لن نكون سعداء أساسًا، هذه المشكلات هي التي تعلمنا وتجعلنا نتطور ونختار بشكل صحيح بعد ذلك، بمعنى أن الضربة التي لا تقتل تقوي، لذا عليك أن تتعامل مع مشكلاتك وفشلك بشكل مختلف، لأنه من دون المشكلات ليس هناك متعة أو سعادة، ومن دون الفشل يستحيل أن يكون هناك نجاح.
الكاتب لا يرمينا أمام المشكلات ويذهب؛ لا، إنه يخبرنا كيف نتعامل معها، فهو يرى أن من أهم طرق التعامل مع المشكلات اختيار المشكلات، فما دمت ستعيش مشكلة في كل الأحوال، فانظر أي مشكلة تستحق وقتك ومجهودك.. وما المشكلات التي تشغل نفسك بها وتستمر بالتفكير فيها في حين أنها غير مهمة، اختيار مشكلاتك يعتبر من أهم التصرفات التي يمكن أن تفعلها في حياتك، لأن كل مشكلة بعد حلها ستوصلك إلى نقطة معينة، والمشكلة الموجودة في العمل مثلًا تختلف عن مشكلتك مع صديقك الذي نسي الإشارة إليك في صورة لكما، صحيح أنك في الحالتين لديك مشكلات وستفكر فيها، لكن إحداهما ستطور منك وتحسن حياتك والأخرى ستحرق وقتك فقط.. وبالمناسبة هذا هو فن اللا مبالاة، أن تعرف ماذا تختار وماذا تترك، ما الأمر الذي ستمنحه جزءًا من حياتك، وما الأمور التي تعد اللا مبالاة هي التعامل المثالي معها.
دعني أخبرك أنك لا يفترض عليك فقط أن تختار مشكلاتك، بل يفترض عليك إذا وضعت أمام مشكلة أن تختار ماذا ستفعل أمامها، أو دعني أقول إن عليك مسؤولية.. يقول مارك مانسون إنك لو استيقظت غدًا ووجدت طفلًا صغيرًا تركه أحدهم على بابك، فهذا الطفل مسؤوليتك، صحيح أنه ليس ذنبك أنت وأن الأمر مشكلة وضعت فيها، لكنه بكل تأكيد مسؤوليتك، وتستطيع تطبيق ذلك على كل شيء في حياتك.. الجسم المثالي الذي تريده، والمذاكرة التي تريد إنهاءها، وحتى مشكلاتك العاطفية والأسرية، صحيح أنك توضع في كثير من المشكلات، لكنك تستطيع الاختيار وتحمل المسؤولية، وألا يكون عندك لا مبالاة وتستمر في قول "ما شأني؟"، لأن هذا هو التصرف الصحيح الذي سيحسن حياتك بدلًا من إضاعة الوقت في إلقاء اللوم على الظروف والناس.
المعاناة والقيم والمقياس
قبل أن نبدأ نقطة جديدة من الكتاب دعني أحكي لك قصة الموسيقي ديف موستين Dave Mustaine.. وكان عضوًا من فرقة اسمها ميتاليكا “Metallica” لكنه طرد منها فجأة ودون مقدمات، وبعدها بيومين وقعت الفرقة عقد تسجيل سيغير حياتهم كلها.. أثر هذا الموقف بشكل كبير في ديف، وقرر أن يرد إليهم الخيانة وينتقم منهم، وذلك بإنشاء فرقة والسعي في إنجاحها أكثر من ميتاليكا، وبالفعل أنشأ ديف فرقة سماها ميجا ديث "Megadeth"، ونجحت الفرقة نجاحًا كبيرًا وباعت 25 مليون نسخة حول العالم، لكن في الوقت نفسه باعت ميتاليكا 180 مليون نسخة، وهو ما أثر في موستين طوال حياته، فاستمر في رؤية نفسه شخصًا فاشلًا ومطرودًا من ميتاليكا، مع فشله في أخذ حقه.
والحقيقة أننا لو تأملنا هذه القصة سنجد أن ديف لم يفشل، على العكس، فإنه يعتبر قد حقق نجاحًا كبيرًا، وهنا يقول مارك مانسون إن لكل نجاح ومعاناة قيمة ومقياسًا.. ونحن عندما نعاني فإننا نختار قيمة معينة، هذه القيمة هي التي قررنا أن نتعب من أجلها، لكننا كذلك نمتلك مقياسًا نقيس عليه المعاناة والنجاح، وكثيرًا ما يكون المقياس مشوهًا كما فكر ديف وحكم على نفسه بالفشل.
كما يبين الكاتب أهمية الاعتراف بالمعاناة والمشكلات في حياتنا وتقبلها، لأن هذا أول طريق التغيير.. ويقول إن اللحظة التي نقرر فيها ما إذا كنا نرغب في شيء معين هي التي نؤكد على أنفسنا فيها أننا نعاني نقصًا معينًا، مثلما تقول أريد أن أكون سعيدًا.. أنت بهذا تؤكد أنك حزين.. أو ترغب في علاقة أفضل، وغيرها من الأمثلة.. لذا من المفترض أن تتعامل بحرص مع الأشياء التي تريدها، وتتأكد أولًا ما إذا كنت تمتلكها بالفعل أم لا.
القيم الإيجابية والسلبية
قسم الكاتب القيم إلى قسمين، قيم إيجابية، وهي القيم التي يمكن أن نتحكم فيها، وتحسن المجتمع كما أنها قيم واقعية، كالصدق والأمانة وغيرها من القيم، وهناك القيم السيئة وهي القيم الخرافية أو الخيالية التي يصعب التحكم فيها وتضر المجتمع، كأحلام الشهرة والثراء وغيرها، إننا بالفعل نستطيع أن نكون صادقين أو أمناء، وهي أمور من السهل أن نتحكم فيها وتفيد المجتمع وواقعية، لكن من الصعب أن نتحكم في الشهرة أو المال.. ولن نجد إلا زيادة المشكلات بسبب سعينا لذلك.
وبعد كل هذا.. نموت
وكما بدأ الكتاب بفكرة غريبة فقد انتهى أيضًا بفكرة لم تعتد كتب التنمية البشرية الحديث عنها، وهي الموت، على الرغم من أن الموت فكرة مقلقة، وتجعل كثيرًا من الناس يتساءلون: لماذا نتعب وننجح ونصل إلى أي شيء ما دمنا في النهاية سنموت؟ الكاتب هنا يقول مفارقة تظهر غريبة في البداية، وهي أنه لماذا ما دمنا سنموت فليس مهمًّا أن نعيش حياة سيئة ومليئة بالفشل وليس مهمًّا أن نتعب، ما دام من الممكن أن نعيش حياة سعيدة ومهمة بما أننا سنموت في كل الأحوال، أي أنه ما دامت النهاية واحدة فلنركز على ما قبلها ونجعله أفضل، بعد ذلك يصبح الأمر أعمق، وندرك أن الموت والقلق منه هو السبب الحقيقي لتحركنا في الحياة، فمن غير الخوف من أن نموت من المرض مثلًا، لم نكن سنحاول العمل حتى نحصل عل المال كي نتعالج ولا نموت، من غير الموت لم نكن سنخاف ونقلق على المحيطين بنا، ولم نكن سنشعر بمعظم المشاعر التي نشعر بها الآن، لأن الله كما جعل الموت أمرًا يحدث لكل إنسان، فإن الموت كذلك يعتبر المحرك الأول للحياة، ومثلما أنه لو لم تكن هناك مشكلات فلن تكون هناك سعادة، ولو لم يكن هناك فشل فلن يكون هناك نجاح، كذلك لو لم يكن هناك موت فلن تكون هناك حياة، لأن الموت هو ما يحركنا، كما أن الموت هو السبب في إن الكثيرين يحاولون ترك أثر قبل الموت، وهذا الأثر هو ما يغير حياة البشرية، ولو فكرنا في الأمر سنجد أن أغلب ما في حياتنا دلوقتي من اختراعات وعلوم ودول وقانون ينظم التعامل بيننا وغير ذلك، هي آثار لأناس عاشوا قبلنا، لكنهم رفضوا أن يكون الموت نهايتهم.
الخاتمة
بهذا نكون أنهينا كتاب فن اللا مبالاة، الكتاب الذي يحاول أن يوصل لنا أهمية اختيار مشكلاتنا والأمور التي تشغل بالنا، ويحاول أن يرينا الواقع كي لا نصطدم به، ويقول لنا إننا بالفعل لسنا مميزين لكن هذا في حد ذاته تميز، وصحيح أننا جميعًا سنموت، لكننا نعيش الآن ونستطيع أن نعيش حياة جيدة، كما يمكننا أن نترك أثرًا وأفعال خير ليذكرنا بها الناس.
وصحيح أن الكتاب يؤكد لنا أن الدنيا مليئة بالمشكلات والفشل والأشخاص السيئين، لكنه يخبرنا أن هذا هو ما يعطي معنى لكل شيء حولنا، في النهاية دعونا نطرح سؤالًا ونفكر فيه معًا.. "هل تعرفون لماذا هذا الكتاب بالذات هو ما قرر محمد صلاح أن يقرأه؟"