الإتقان

Book-Cover

مقدمة

هل تظن أن آينشتاين وتوماس أديسون ونيوتن وغيرهم من العباقرة وصلوا إلى ما وصلوا إليه لأن أدمغتهم كانت مختلفة عن أدمغتنا أم أننا نمتلك نفس قدراتهم؟ 

- نفس قدراتهم؟! كيف ذلك؟!

أتعرف أنك تبني الآن سورًا بينك وبين العظمة والإبداع؟ عندما تعتقد أنه لا أحد يستطيع الوصول إلى العبقرية لأنها موهبة يولد بها الشخص، أو تراها سرًّا يصعب على أي أحد الوصول إليه = فإنك تضيف حجرًا إلى السور الذي بينك وبينها، وكل خرافة تعتقدها عن العبقرية هي حجر يرفع السور بينك وبينها.

صديقي (غير العبقري)، تعال لنذهب في رحلة نعرف فيها كيف تكون عبقريًّا ولامعًا في أي شيء من البداية إلى النهاية.   

المفارقة العجيبة

رحلتنا تتكون من 6 محطات، لكن قبل أن نمشي أول خطوة في الرحلة، أحتاج إلى إخبارك بشيء بسيط 🤏

هل ترى دماغك هذا؟ إنه تقريبًا نفس دماغي، ونفس دماغ هذا الراجل: آينشتاين، كلنا تقريبًا لدينا دماغ واحد والاختلاف ليس كبيرًا. 

 أيعقل؟! 

وما دام دماغنا واحدًا فلماذا عدد العباقرة قليل؟ 

سؤالك جميل، ولكن دعني أعيدك بالزمن بضع سنوات.. أتذكر صديقك الذي كان أمهر طالب في المدرسة ومتميزًا وكل الناس شهدوا له بالتفوق؟ أين هو الآن؟ على المقهى؟! أنا آسف 

 إن صديقك هذا وكثيرين من الأطفال كانوا يظهرون مهارات ومواهب استثنائية في طفولتهم، لكن عددًا قليلًا منهم هو الذي يظهر ويكون شيئًا كبيرًا عندما يكبر، في حين أن كثيرًا من الأطفال الأقل تفوقًا وتميزًا عندما كبروا أصبحوا متقنين في مجالاتهم وسبقوا أقرانهم.. أنا لا أقول لا تذاكر ولا تتعب وستصبح مدير شركة ومثل هذا الكلام.. لا، أنا فقط أفتح عينيك وأخبرك بأن الموهبة الطبيعية أو معدل الذكاء المرتفع ليسا الضامن الذي سيضمن إنجازك وتميزك طوال الحياة، ولا عدم توافرهما فيك سيؤثر كثيرًا.

كل الذين وصلوا إلى مرحلة الإتقان بدأ الأمر عندهم بشغف وحب في الطفولة لشيء معين، ويكون كل منهم مميزًا فيه بطريقته الخاصة، وأكثر شيء يكشف عن هذه الميول وهذا الشغف هي الطفولة: فتجد واحدًا كان يهرب من حصص العلوم مثلًا ويحب أن يتفاعل مع حصة الرسم ويجلب كل الأدوات المطلوبة، أو طفل لاحظت أسرته شغفه الكبير بتفكيك الألعاب والأجهزة وتجميعها مرة أخرى. 

انطفاء الشغف

المشكلة أن الشغف يحدث له انطفاء مع الوقت، إما لأن أباك لا يريدك أن تكون صاحب لوحات ويقال عليك ذهب الرسّام جاء الرسّام، فبيؤثر فيك ويوجهك إلى كلية العلوم، فمجموعك يدخلك الكلية، معقول أن تتركها وتدخل فنون جميلة؟! أو لأن المجتمع نفسه يقول إن عمل الفنانين لا يجلب المال، ادخل تجارة إنجلش وستكون محاسبًا.. مع أنك لست حافظًا لجدول الضرب حتى، ولكنك وجدت المال في هذا المجال كثيرًا فدخلته. D: 

هل تشعر أنك تبتعد عن نفسك وتغير جلدك وتكون شخصًا آخر عندما تفعل ذلك؟ إننا مع الأسف فقدنا اتصالنا مع الصوت الداخلي لنا، الصوت الذي كان يوجه دافينشي لأن يسرق الورق من والده ويجلس في أماكن طبيعية ويرسمها typical على الورق! وهو نفس الصوت الذي كان يجعلك تفعل الأشياء بحب ودون رتابة كما أصبحت تؤدي عملك الآن، لمجرد أن تحصل على راتبك في نهاية الشهر. 

كل الاكتئاب والسلبية وعدم الرضا التي تشعر بها في حياتك الآن، في الغالب سببها أنك بعيد عن نفسك وعن إمكانياتك الإبداعية.. تعال لنعرف كيف يمكن أن تعود لتتواصل مع صوتك الداخلي مرة أخرى: 

1- اكتشف نداءك الباطني

أول محطة هي أن تكتشف نداءك الباطني أو "مهمة حياتك"، كيف؟ 

هناك عدد من الاستراتيجيات التي ستساعدك: 

- منها أن ترجع لأصلك ولطفولتك، وانظر ما الجانب الذي كنت مميزًا فيه وأنت طفل وفي أثناء المدرسة وكنت تحب عمله أو تحب أن تكمل فيه، نشاط لم تكن تتعب من تكراره أو شيء أثار فيك فضولًا كبيرًا لكي تعرفه.. فآينشتاين مثلًا عندما قدم له والده بوصلة هدية، سيطر على تفكيره كيف تغير الإبرة اتجاهها كلما انتقل من مكان إلى آخر؟ فكرة أن هناك قوة مغناطيسية تؤثر في الإبرة دون أن نراها بالعين جعلته يفكر أن أن هناك قوى أخرى في العالم غير مرئية تتحكم فينا، فكان دافعًا له أن يتعمق أكثر في الطبيعة. 

- واستراتيجية أخرى كي تكتشف نداءك الباطني أن تبدأ في أثناء عملك بالمجال الذي أنت فيه، بفتح مجالات أخرى على الهامش لتعمل عليها، فلو كنت تعمل في الهندسة وتشعر أن داخلك حسّ الكاتب، فلا تقرر ترك الهندسة مرة واحدة ولا تهمل الكتابة، ابدأ في البحث عن مواقع تقبل كتابة مقالات فيها دون شروط معقدة، واعمل بها في وقت فراغك، ورويدًا رويدًا ستجد نفسك قد دخلت المجال من باب صغير، ثم قرر وقتها فيم ستكمل. 

- ثالث شيء: تمرد، نعم، تمرد على أي شيء أثر فيك وجعلك تختار مجالًا ليس مجالك، سواء كانت هذه المؤثرات أشخاص يحاولون إقناعك أن تكمل أو كانت إغراءات جعلتك تقبل بالمجال لأجل المال أو الشهرة.. قاوم كل ذلك. 

2- التلمذة

اكتشفت مهمتك في الحياة وأعدت الاتصال بالنداء الباطني الخاص بك؟ حسنٌ يا بطل، لكن هناك محطة مهمة لا يصح تجاوزها: التلمذة.. وتدخلها عندما تحتاج إلى أن تتعلم فعلًا أي شيء، لو أردت أن تغير وظيفتك فلا بد أن تتلمذ أولًا وتتعلم ما يساعدك على فهم هذه الوظيفة. وعندما تكون "تلميذًا" فإنك تأخذ 3 وضعيات: 

 1- في أول وضع تكون رجل المنظار، الذي يراقب من بعيد دون أن يلاحظه أحد، تحاول أن تستكشف ما نظامهم في هذا العمل وما القوانين والقواعد التي يسيرون عليها، وكيف يعملون.. فليس كل شيء مكتوبًا على الورق، بالتأكيد هناك أشياء تعرف عندما ترى.. لست محتاجًا إلى أي شيء هنا، لا تحاول لفت انتباه أحد في هذهالمرحلة، ركز في التفاصيل فقط.

2- بعد ذلك ستجد أنك دخلت في وضع الممارسة أو اكتساب المهارات، ويحدث ذلك عندما تنزل بنفسك إلى الملعب بعد أن كنت تسخن بس في وضع الملاحظة. وهنا حاول أن تكتسب ما تستطيع اكتسابه من المهارات، وزود خبرتك فيها فلن يلومك أحد إن أخطأت، لأنك ما زلت تتعلم والخطأ وارد فهذه فرصتك.

3- بينما عند وصولك إلى وضع التجارب العملية وكونك فاعلًا لا مجرد متلق أو ممارس.. فإنك لو أخطأت خطأ صغيرًا فلن يرحمك أحد، أنت هنا تطبق ما تعلمته ومارسته وتظهر نتيجة كل ما سبق، فعندما تؤلف كتابًا أو ترسم لوحة مثًلا، فإنك تقول للعالم كله "انتقدوني" وعندك استعداد لأن تسمع نقد الآخرين لك.

لكن وأنت تتتلمذ انتبه لأن تجعل قيمة التعلم أعلى من قيمة المال بالنسبة إليك، وهو ما سيسمح لك بفرص تعلم أكبر فتقبل بوظيفة راتبها بالكاد يكفي أساسيات حياتك، حتى تجد وقتًا لكي تتعلم وتتدرب، ويساعدك في النزول لدورات تدريب غير مدفوعة الأجر لكي تكتسب خبرة عملية. كذلك انس مخاوفك من أن تجرب شيئًا جديدًا، كن كالطفل ولا تحمل همًّا، التلمذة فرصة فلا تضيعها. وارم نفسك على التعب وقرّب مما يؤلمك، ابذل مجهودًا كبيرًا في التلمذة لأن المجدي فيها أن تتعب لكي تلقي أثرًا جيدًا، مثلما يتعب كابتن الجيم من التمارين الشاقة لكنه في النهاية يبني جسدًا رياضيًّا جميلًا. 😌

3- مرشدك الخاص

ولأنك في الرحلة لا يجب أن تكون وحدك، فيجب أن يكون معك مرشد خاص تشرب خبرته ونصائحه التي ستسهل عليك كثيرًا وتوفر عليك وقتًا كنت ستضيعه في أخطاء كبيرة، لكن ضع في اعتبارك دائمًا أنك تأخذ خبرته لكي تضيفها إلى خبرتك أنت ولمساتك أنت = فسيأتي عليك وقت من الأوقات يكون لديك رصيد كبير من الخبرة والدراية تسمح بتفوقك على مرشدك واستقلالك بذاتك. 

ولا يجب أن يكون مرشدك متساهلًا معك ويقبل بتسويفك للأمور، فلا بد أن يضع حدودًا للمماطلة ويرميك في الصعب، وإذا وجدك تغرق ينتشلك ويساعدك. وحقه عليك أنك تضيف له شيئًا من تفكيرك وهو سيثري هذا التفكير بما عنده، فلا تأخذ منه فقط كأنك مستمع ومتلق. 

4- الذكاء الاجتماعي

وخلال رحلتك للإتقان من الطبيعي ألا يكون الطريق مفروشًا بالورود، فإن لم تتعامل مع الآخرين كما ينبغي ولم تكن علاقاتك معهم مكانتش بالشكل الصحيح = سيتم استنزافك. هذه المعارك والصراعات التي تدخلها معهم لا تعطلك فقط بل إنها لن توصلك إلى الإتقان الحقيقي أصلًا، لكن المشكلة أن هذه المعارك تفرض علينا ونوضع فيها دائمًا وليست خيارنا. 

لذلك فالذكاء الاجتماعي هو أنك تلاعبهم دون أن تخسر، تقرأ سلوكيات الآخرين وأفكارهم وحركاتهم الجسدية وتستشف طبائعهم وبناء على كل ذلك ستعامل كل شخص بما يريحه، لكن في الوقت نفسه أنت محافظ على مبادئك وقيمك لكن لا داعي لأن تدخل بها في صراع مع الشخص، وفرّ هذا الوقت لتعلم شيء جديدة أو لتطوير مهاراتك، اتركه يفكر ويضيع وقته واستغل وقتك أنت ببعض الملخصات على تطبيق أخضر D:. تحمل حماقات الآخرين، فليس عليك أن تغير كل شخص كما تحب، ركز على المشترك بينكما واعتمد عليه في تواصلك معه.

5- كيمياء الإبداع: إيقاظ العقل البعدي 

هناك محطة مهمة لن تكتمل رحلتك للإتقان من دونها: "السرنديبية".

ماذا؟! 

انتظر، هذا ليس سحرًا ولا تعويذة، أنت الآن اكتشفت صوتك الباطني وعرفت مهمتك، أي أنك استعدت روح الطفولة والإبداع الكامن بداخلك، صحيح؟ هذا يسمى "العقل الأصلي"، العباقرة عندهم هذا العقل الأصلي، ويضيفون إليه جانبًا آخر متحررًا وينظر إلى الأمور من زوايا مختلفة تمامًا، وهو ما نسميه "العقل البعدي" أو ما بعد معرفة القواعد والأصول وما بعد اكتساب الخبرة.. لأن كل هذه الأمور المعقدة تعطيك انطباعًا بأنه لا يجب أن تخرج عنها وستستمر هي التفكير داخل الصندوق، لكن لكي تخرج خارج الصندوق هناك عدد من الاستراتيجيات:

- منها السرنديبية كما قلت لك، وهي اكتشاف بالصدفة مثلما اكتشف المهندس سبنسر شيئًا أوصله إلى اختراع الميكروويف.. أتعرف كيف؟ في أثناء اندلاع الحرب العالمية الثانية كان سبنسر مكلفًا بتطوير أجهزة الرادار، وبينما هو واقف إلى جانب أنابيب الماجنترون المستخدمة في الرادر، لاحظ أن قطعة الحلوى التي في جيبه حدث لها ذوبان! فظل وراء هذا الأمر إلى أن وصل لنا المايكرويف.. صدفة 😌 فاسمح لنفسك أن تجرب أشياء جديدة واجعل عندك فضولًا لتعرف لماذا حدث ذلك وهكذا.

- ولكي توقظ عقلك البعدي من نومه لا تهمل التفاصيل والجزئيات وتركز فقط على الأمور العامة والمتفق عليها، خذ كل المعلومات المتاحة مهما قلت أهميتها، وكوّن صورة عن الموضوع في البداية ثم انطلق فيها. التفاصيل ستفتح عينيك على أمور كثيرة يمكن إغفالها.

- وافترض سيناريوهات مختلفة للأحداث ولأي شيء، حتى التي لا يمكن أن تحدث افترضها وفكر فيها لو حصلت كيف ستتصرف؟ 

6- دمج الحدسي مع العقلاني

آخر محطة في الوصول إلى الإتقان هي حدسك، قبل أن تفكر أن الحدس مجرد إلهام لا نعلم من أين يأتي، دعني أقول لك أنني أقصد تحديدًا الحدس الذي يكون نتيجة للمعلومات والمعارف والأفكار المختمرة في دماغك من قبل، الأشياء المختبئة في ذاكرتك وتخرج منها فكرة جديدة أنت فعليًّا لا تعرف كيف حدث ذلك ولكن انطلقت شرارة أحدثت ذلك. 

وهذا يتطلب منك توسُعًا أكبر في مجالك وتجميعًا لأكبر قدر من المعلومات حتى تكون هناك فرصة لأن يعمل الحدس بدرجة أعلى. 

الخاتمة

أعرف أن الأمر ليس بالسهولة التي تجعلني أقول لك "أرأيت كيف أن الموضوع بسيط وسهل؟" لكن أريد أن أذكرك أنه ما دامت الخريطة معك فإنك تستطيع أن تسير بطريقة صحيحة مهما ابتعدت عن الطريق، لقد رسمت لك الخريطة التي ستسير عليها، فلا تنتظر ظروفًا مثالية تحدث لكي تبدأ، أنا وأنت نعلم أن هذه الظروف المثالية في الغالب لن تحدث. 

وتذكر لنا في التعليقات ما المجال الذي تريد أن تصل فيه إلى مرحلة الإتقان؟

 

سلام ❤