عبادة المشاعر

مقدمة
ما آخر حدث رائج تتذكره أو حدث كبير كان الناس جميعًا يتحدثون عنه؟ مباراة الأهلي والزمالك الأخيرة، حرائق أستراليا ، زواج هاري وميغان، التعاطف مع ضحايا تفجير مرفأ بيروت، لا يمر أسبوع من دون حدث كبير يتحدث عنه الناس، وإن لم يكن حدثًا كبيرًا ويستحق، فلدينا بدلًا من الحدث الرائج 100، وإن لم يكن بالمستوى المطلوب، فهناك دراما وسينما وأنشطة ترفيهية تخلق الدراما والإثارة بأعلى مستوى!
والفيلم الناجح أصبح هو الذي يستطيع اللعب على مشاعرك، إن شعرت برعشة الخطر، يهدئك بجرعة حنان، عندما تضحك يدفعك إلى البكاء، هذا شخص شرير تكرهه، ثانية.. من هذا الشخص الذي أصبحت متعاطفًا معه؟! وهكذا بشكل مستمر هو قادر على جذبك طوال الوقت.
هذا شيء مدروس بالمناسبة، المسوّقون يعرفون أن أكثر شيء يحقق مبيعات هو اللعب على المشاعر، يمكنك إيقاف الفيديو لثوان، وتذكر ما أكثر إعلانات كنت تحبها وتعلق في ذهنك في آخر بضع سنوات؟
هل لاحظت ما المشترك بينها؟ غالبًا كلها تركز على جانب عاطفي يلمسك، فرحة، مشاركة، تجمع عائلي، مع أنها منتجات مادية عادية.
لكن ليس هذا فقط، فالمشاعر أصبحت طقسًا، مثل الهالووين، كما أن هناك تيارات اجتماعية كثيرة أصبحت تحاول إضافة جانب عاطفي قوي على الوجود الإنساني، مثل حركة العصر الجديد التي تدعو إلى الاندماج مع الكون وجعل الأحاسيس هي أساس المعرفة، وحتى كتب التطوير الذاتي تقول "حرر طاقتك الشعورية".
هذا كله يقول شيئًا واحدًا فقط، إن المشاعر عائدة بقوة، وإننا في عصر يقدس المشاعر، ولكن هل هذه العودة في صالحنا؟ وهل هناك استخدام جيد وسيئ للمشاعر؟ وما أسباب عودتها؟ ولماذا نقول رجوع أصلًا، هل كانت المشاعر مختفية قبل ذلك؟!😳
لنتعرف أولًا ما أسباب الرجوع إلى المشاعر بهذا الشكل القوي
1- أول سبب هو التعويض
في مراحل من الزمن عندما تنهار الآمال الكبرى للأمم، أو المشروعات الضخمة التي يمكن أن تحرك الناس في اتجاهها، أو عندما لا يوجد شيء ليوجه الناس طاقتهم نحوه، فيهربون وقتها للمشاعركبديل للفعل نفسه، وهنا يقول الكاتب إن "التغيير الذي يستحيل فرضه خارجيًّا يُعاد توجيهه إلى الداخل" وهو ما يولّد المشاعر، فأنا لا أملك شيئًا لأفعله، ولكني أتعاطف مع الكارثة في دول، وأنددّ بمواقف دول، في نوع من المشاركة العاطفية البديلة عن الفعل الحقيقي الذي لا أقدر عليه، و يمكن أن أعوض رغبتي في الشعور بالبطولة بمغامرات ورياضات خطيرة أو حتى في ألعاب فيديو، فأصبحنا مثل المدمن الذي يهرب من الواقع بالمخدرات، ولكن بمخدرات شعورية.
2-المشاعر وعبادة النفس
وغير الدور التعويضي، في عصرنا هذا أصبحت المشاعر ليست مجرد وسيلة، ولكن غاية في ذاتها، أصبحت صورة من صور تحقيق الذات، عبادة المشاعر هي أقصى تعبير عن الفردانية وتقديس الأنا الذي يميز هذا العصر، الذي يعني التفاف الإنسان حول ذاته واعتبارها هي المركز، مما جعل نموذج الإنسان المثالي في عصرنا هو الإنسان الباحث عن الأحاسيس.
ستقول لي أنت تتحدث عن الفردانية وللتو قلت إننا ننجذب لـ اللمة والتجمع، كما أننا نخرج لنشاهد المباريات في الخارج لأجل التجمع مع أننا نستطيع أن نشاهدها وحدنا في المنزل، ونذهب إلى الحفلات، ونستمتع في أي نشاط جماعي.
سأقول لك.. ملاحظة ذكية وفي محلها.
الشعور الجمعي
الفكرة هي أن المشاعر شيء فردي، إلا أن الناس تبحث عن مشاركة مشاعرهم مع الغير وأن تكون مع مجموعة، لماذا؟
- أول سبب هو حاجة الناس إلى تقوية الرابط الاجتماعي، والشعور بالتلاحم والانتماء لكيان، وهذا يعوض إلى حد ما التفكك الكبير الحاصل في الترابط الاجتماعي في عصرنا.
2- السبب الثاني أن المشاعر تكون فرصة للناس للتأكيد على قيمهم الشخصية، فأمر مثل التزام دقيقة صمت حداد على ضحايا حادثة في أي مكان، دائمًا ما يكون له قبول، وهكذا.
حرروا مشاعركم
كل شيء يسير في اتجاه تقديس المشاعر وتحريرها، ولكن كيف يحدث ذلك وكيف أتينا إلى هنا؟
يتم التحرر الشعوري على 3 مراحل:
1- أول مرحلة هي التحرر من القواعد الاجتماعية التي تمنع تعبير الإنسان عن مشاعره، ولكي نفهم هذا أكثر سنذهب إلى القرن الـ19 والكتابات الأدبية الموجودة وقتئذ، وكانت تعليماتها تمنع ظهور الانفعالات العاطفية، أخف حزنك، الضحك بحساب، قلل الحماس والاندفاع، تحكم شديد لا بد أن تمارسه على انفعالاتك كلها، ومن هذا العصر بدأ التمرد والدعوة لتحرير المشاعر.
2- المرحلة الثانية من تحرير المشاعر هي العمل على الجسد
ويتم من خلال تمارين للحواس وتمارين الاسترخاء والتنفس، وكل دعوات المحافظة على الجسد والاتصال به، تأخذنا فورًا لإعادة اكتشاف مشاعرنا، لأن كل تغير في المشاعر يظهر فورًا على الجسد، مثل تسارع دقات القلب، أو تغير النفس، وغيره.
3- أما المرحلة الثالثة في التحرر الشعوري فهي العلاج النفسي
ستقول لي ما الذي أتى بالعلاج النفسي إلى هنا؟ سأقول لك لا تتعجل، ولكن قبل أن نتكلم عن العلاج النفسي دعنا نرى نظرة العلم للمشاعر قديمًا وحديثًا.
قديمًا كان علم النفس يهمل عامل المشاعر أساسًا، وفي الخمسينيات والستينيات كانوا ينظرون إلى المشاعر على أنها خلل في تكيف سلوك الإنسان، وأنها "عيب في الصنع"، وكانت المشاعر تساوي في نظرهم الخلل العقلي.
بصرف النظر عن السياق الذي أوصلهم إلى هذه النظرة المتطرفة، لكن في السبعينيات بدأ يحدث تحول في هذه النظرة، واعتبر العلماء هذه المشاعر مكونًا أساسيًّا لهوية الإنسان، إلى أن وصلنا إلى نموذج فكري معتدل يقول بتكامل العقل والمشاعر، وضرورة المزج بينهما لكي يتحقق "الكمال الإدراكي".
وبالطبع مع تغير نظرة العلم إلى المشاعر، بدأت طرق العلاج النفسي تأخد المشاعر في الاعتبار كأساس لسلوك الإنسان، وتقول بأهمية الوصول لأعماق النفس وتحرير المشاعر المكبوتة داخلنا، التي غالبًا ما نقاومها بشكل غير واعٍ، لأن كبت المشاعر يتحول بالتدريج إلى أمراض نفسية.
العلاجات النفسية المعروفة مثل التحليل النفسي والعلاج المعرفي تكون من خلال حوار بين المريض والمعالج، لكن أصبحت هناك علاجات جديدة تستخدم آليات جسدية وشعورية، مثل كتاب الصيحة الأولى، والطاقة الإيحائية، هذه العلاجات لا تحاول تحليل المشاعر ولكنها تعيد إحياءها، وتجعلك تعيش الشعور نفسه مرة أخرى، وعودة المكبوتات بهذا الشكل تخرج أحيانًا عن السيطرة وتسبب خللًا أكبر في التوازن النفسي للمريض، مع ذلك بدأ الناس في التوجه لهذه الطرق، وهو ما يتماشى مع العودة الهستيرية للمشاعر في عصر عبادة المشاعر.
ستقول إنك لا تستطيع تحديد ما إذا كان هذا الأمر جيدًا أم سيئًا، أم أن له ما له وعليه ما عليه؟
سأقول إن إحساسك صحيح، لأننا مررنا ب 3 مراحل للتعامل مع المشاعر، مرحلة كانت سيئة وتلغي المشاعر، بدأنا بعد ذلك في إصلاحها وكان هذا ضروريًّا جدًّا، ثم تطرفنا فيها إلى أن ساءت مرة أخرى.
مشاعر الصدمة ومشاعر التأمل
ولكي نستجمع الموضوع نحتاج إلى أن نفرق بين نوعين من المشاعر، تخيل معي شخصين، الأول يشاهد فيلم رعب، والثاني يجلس في نزهة في مكان طبيعي جميل، كيف سيعبر كل منهما عن مشاعره؟
الأول غالبًا ستخرج مشاعره على شكل صرخة من الخوف والإثارة، والثاني ستخرج مشاعره على شكل تنهيدة وتنفس هادئ، سنسمي المشاعر الأولى مشاعر الصدمة، والثانية مشاعر التأمل أو الإحساس.
حتى التغيرات الفسيولوجية في الجسم التي تصاحب النوعين تكون مختلفة، الأولى تكون على شكل قمة، والثانية على شكل تموجات، مشاعر الصدمة عبارة عن صعود سريع وهبوط سريع، إثارة مجنونة لكن غير عميقة، تظل على السطح و تنسى بسرعة، وتتركك في لهفة لما بعدها، لكن في المقابل مشاعر التأمل عبارة عن تغيرات خفيفة ممتدة لفترة زمنية أطول، ويستمتع بها الشخص وتصنع داخله تأثيرًا حقيقيًّا.
والخلل الحاصل في حياتنا حاليًّا راجع إلى الإفراط في مشاعر الصدمة والنقص في مشاعر التأمل، وأننا نبحث دائمًا عن الإثارة والميل لكل ما هو مجنون، وهذا يجعل من المستحيل أن يشعر الشخص باستقرار، لأنه دائمًا يبحث عن مشاعر وتجارب متفجرة، فأصبحت الحياة الشعورية للإنسان المعاصر أشبه بمريض خاضع لحقن أدرينالين دائم من خلال:
1- التهييج الزائد والمفرط للحواس كلها، الموسيقى الصاخبة، الإبهار البصري وتقنيات ال 3d و 4d وتجارب بصرية ثرية جدًّا.
2- من خلال استغلال الجغرافيا والسفر حول العالم بغرض الحصول على تجارب مثيرة أكثر واختبار مشاعر قوية، حتى إن بعضهم يضع من ضمن برنامج رحلته زيارة لأكثر الأماكن فقرًا، ومشاهدة الأطفال الذين ينامون في المقبرة كمشهد صادم يغذون به تجربتهم الشعورية فقط! هذا غير السياحة الجنسية، وأيضًا محبي المغامرات والتزحلق وتسلق الجبال الذين يبحثون عن النشوة والرهبة والخضوع لقوة غير عادية مثل قوة الرياح والأمواج المتحكمة فيهم، في تجربة ذاتية تمامًا، جعلت الكاتب يسأل: "إنهم يتزحلقون فوق العالم، لكن هل ينظرون إليه؟!"
3-المخدر الثالث وهو أسوؤهم هو الإثارة المنحرفة
الثقافة الترفيهية حاليًّا تتغذى تقريبًا على التحكم في شعور المشاهد بالخوف والفزع أو الاشمئزاز، وأصبح نجاح الفن يقاس بالصدمة التي سببها، حتى لو من خلال القبح والمشاهد الدموية والاغتصاب والهلوسة.
"تهييج دائم وإحساس منعدم"
وهذا يعرفنا أن العودة إلى المشاعر في عصرنا عودة مزيفة لأنها ليست عودة إلى المشاعر السليمة أو إلى الإحساس، إنما عودة للإثارة والتهييج، وكلما أفرطنا في مشاعر الصدمة والتخدير التي تدخلنا فيه، فقدنا إحساسنا الطبيعي وحدثت تغيرات خطيرة جدًّا في حياتنا كلها ومنها:
1- انتشار المشاعر السلبية بشكل جمعي، لأن أغلب مشاعر الصدمة تكون بسبب مشاعر سلبية مثل الخوف والاشمئزاز والغضب، فتعزز كل ما هو قبيح ومنحرف بشكل جماعي، ومن ذلك تأثير مشاهدة أفلام العنف مثلًا.
2- الأمر الثاني ويمكن أن يكون أخطرهم "نسيان ما هو طبيعي"، مشاعر الصدمة مليئة بمؤثرات مصنوعة ومعدة بشكل معين يجعلها مبالغًا فيها، إخراج مبهر، أصوات، أشعة تقنية، لكن مشاعر التأمل تكتفي بنظرة طفل، بصوت الشجر، بغناء هادئ وجميل، الشخص المعتاد على مشاعر الصدمة لا تؤثر فيه الأشياء العادية الخالية من المهيجات، فيفقد قدرته على إدراك الجمال الطبيعي والاستمتاع به.
3-كما أن الشره في البحث عن الأحاسيس يؤدي إلى إفساد العلاقات الاجتماعية ويدخل الشخص في حالة من العزلة الشعورية حتى لو كان في نشاط جماعي لعدم وجود تواصل حقيقي، مثل الحفلات الصاخبة والرقص الجماعي لكن لا أحد يحادث الآخر.
4- كما أن الميل إلى مشاعر الصدمة أفسد الحياة العاطفية، وتحولت إلى بحث عن تجارب جنسية بأقصى حد من اللذة بدلًا من البحث عن مشاعر حب حقيقية.
إذًا ما الذي يجعل الإنسان يميل إلى نموذج مثل هذا عن عيش حياة اجتماعية وعاطفية حقيقية؟سأقول لك لأن الإنسان المعاصر الممتلئ بعبادة الذات وعبادة المشاعر، لا يريد أن يضحي بالمتع المتعددة الخالية من المسؤولية في مقابل حياة عاطفية حقيقية تحتاج منه إلى التزام وإخلاص وصبر، وفيها قدر من التضحية والألم والقيود!
هل يوجد حل لكل هذه الآثار أم أن الأمر انتهى إلى ذلك؟
يقول الكاتب إن هناك حلًّا، وهو الرجوع إلى الأحاسيس الطبيعية، وهو ما يلزم له أن نعوض مشاعر الصدمة بمشاعر التأمل، وهذا سيحتاج منا إلى 3 أمور: "الانتقائية، والجاهزية، والإعجاب".
الانتقائية حتى نختار الأشياء التي سنمنحها اهتمامنا، وأن تكون هذه الأشياء تستحق كي لا يكون تأملًا فارغًا، والجاهزية لأنه كما يقول الكتاب "كل جديد يجب أن يجدنا في كامل الجاهزية"، وهذا لن يحدث إلا بأن نخرج من ذاتيتنا، ومن وهم الاستقلالية، ونعترف بنقصنا وعدم كمالنا، حتى نستطيع أن ننفتح على الوجود ونستقبل منه ونتعلم من كل ما حولنا.
أما الإعجاب، أو الإجلال والتقدير والدهشة، فهذا شعور يتطلب الاعتراف بالتفوق، والانحناء أمام العظمة والجمال، وهو ما أصبحنا نفتقدينه بشدة بسبب تبديد الإعجاب وابتذاله، مثل ما يحدث في حلقات التوك شو والانبهار والتصفيق على أي شيء، وبسبب التشكيك في كل شيء، والنقد المستمر لكل شيء، والسخرية من الجميع، وعدم وجود ثوابت ومقدسات أو مثل عليا، كل شيء قابل للسخرية والتقليل منه، مع أن الإعجاب الجمعي المشترك بيننا من أكثر الطرق اللي تعيد إلى الذوق قيمته، وتحقق الترابط الاجتماعي وتسمو بالناس إلى غايات أعلى عندما يكون لديهم إيمان روحي، وإجلال وتقدير لتاريخهم والشخصيات العظيمة فيه ولأرضهم وتراثهم.
لقد انتهيت الآن، لكن آخر ما سأذكره اليوم هو ما كتبه سان برو من 250 سنة، عندما ترك قريته وسافر إلى باريس، كأنه يصف حياتنا الآن تمامًا، يقول :"بدأت أشعر بالخبل لكون هذه الحياة الهائجة تطمس أولئك الذين يعيشونها، وحل بي دوار شبيه بذلك الذي يحس به شخص عرضت أمام عينيه العديد من الأشياء بطريقة سريعة، قلبي لا يتعلق بأي شيء من كل الأشياء التي تشد انتباهي، ولكن كلها مجتمعة تشوش وتعطل أحاسيسي، لدرجة أنني أنسى في بعض اللحظات من أنا"!
نرجو لكم حياة مليئة بالمشاعر الحقيقية والصادقة.
سلام.