كتاب أبي الذي أكره: تأملات حول التعافي من إساءات الأبوين وصدمات النشأة

ملخص كتاب "أبي الذي أكره.. تأملات حول التعافي من إساءات الأبوين وصدمات النشأة" (المؤلف:عماد رشاد عثمان)
سجن كبير مليء بزَنازين مختلفة، وفي كل زنزانة سجين، والأمر المشترك بين كل السجناء أنهم أبرياء! ليس غريبًا أن مَن أقاموا هذا السجن كانوا أقرب الناس إليهم، مثل آبائهم وأمهاتهم وأقربائهم بل وحتى معلموهم ورموزهم المجتمعية، لكن الغريب فعًلا أن أبواب الزنازين كانت مفتوحة، لكنهم كانوا قد اعتادوا السجن وما عادوا يفكرون في وجود حياة أخرى خارج الزنازين.. حتى تجرأ واحد منهم وخرج إلى لنور وصاح في كل السجناء المحبوسين، ليحثهم على الخروج في رحلة الهروب من السجن، فالتقوا جميعًا عند ممر التعافي وحفروا على الجدران حكاياتهم وأسرار الهروب من ظلمات السجون..
أصحابنا الذين تحرروا منصفون، وفرقوا لنا بين الإساءات الأسرية التي تركز على الخطأ والأذى أكثر من الصواب والعناية والحب، وبين الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها كل أب وكل أم وإن كانوا محسنين. كلهم أكدوا أن أي إساءة تترك في داخلنا أربعة أبعاد:
أولها: جرح الهجر
تخيل أن تولد بلا وطن وبدون جنسية! أو أن تجدهما فجأة يُسلبان منك، لتختفي الأرض التي تحتويك والبيئة الداعمة.. الأسرة بالنسبة لأي ناشيء هي الدائرة الحاضنة له، نصف قطرها هو الذراع الأبوي والنصف الثاني حضن الأمومة، ومحيط هذه الدائرة هو حالة الاحتضان الشعوري والجسدي. باختصار الأسرة هي وطنك، تولد وأنت خائف ومُهدد فلو لم تجد الاحتضان والقبول من وطنك الذي هو الأسرة، ستغدو لاجئًا في الحياة، ووسيُضاف إلى تهديد وجودك الأصلي في العالم تهديد هجر البيئة الحاضنة، وستبدأ في البحث عن بيئات أخرى تمثل مُسكنات، كالانعزال المفرط أو الشهرة أو الإدمان بكل أنواعه في محاولة للتعويض.
ماذا لو وُلدتُ في أسرة لا تمنحني الحب والقبول وهجرتني؟ هل علي أن أرفع الراية البيضاء وأستسلم للإساءة؟ بالتأكيد لا! فجزء كبير من التعافي من إساءة الهجر يكمن في أن تجد بيئة حاضنة آمنة وسوية بدلًا عن البيئة التي هجرتك، وبالتأكيد لن تكون الإدمان أو العزلة، ستجدها في طبيب أو معالج مختص أو حتى في صديق وفي صدوق.
البُعد الثاني: الاستياء الدفين؛
تُشكله مشاعر غضب تجاه المسيء، مكبوتة لأننا لم نستطع أن نصرخ في وجهه من الألم؛ خوفًَا من استفزاز مشاعره فيزيد الطين بلة. هذا الغضب من أصعب المشاعر وأكثرها ثورية وتمردًا، فإن حاولنا نفيه في جزيرة معزولة في داخلنا؛ لن نستطيع، ولن يقبل أن يكون تحت الإقامة الجبرية وبالتالي سيلعب الغضب لعبته ويتنكر في في أحد هذه الأشكال:
- إما أن يتنكر في ملابس (التحويل) ويتوجه ضد أناس آخرين غير الشخص المسيء الأصلي، ومن هنا تبدأ مأساة تكرار ما عانيناه مع شخص آخر، وذلك الشخص سيحمل في داخله الطفل الغاضب وسيخرجه على شخص آخر، وسنظل ندور في دوامة "الآباء الغاضبون ليسوا سوى أطفالٍ غاضبين!"
- ويمكن مثًلا أن نثور في أتفه المواقف، فنوجه الانفعالات والسُباب إلى هواتفنا النقالة أو إلى أي شيء نصادفه.
- أو يتحول الغضب المكبوت -للأسف!- تجاه ذواتنا نحن، فننتقم انتقامًا ذاتيًا من أنفسنا، ونكون في محكمة نحن فيها القضاة والجناة والضحايا في آن واحد!
وحل الاستياء الدفين أن نعود إلى سماع صرخة الطفل الغاضب في داخلنا، أن نتقبلها، ونفهمها، وأن نتعاطف مع الطفل الذي في داخلنا كي يهدأ وكي نتجنب نوبة التمرد التي تنتابه من حين إلى آخر.
البُعد الثالث: الصدمة وعدم الشعور بالأمان؛
الإساءات تسرق منا الأمان الداخلي ويظهر بدلًا منه الخوف الدائم؛ نشعر بالوحدة والخطر، بل ونرى أن الوجود كله عبثٌ بلا غاية وأننا نعيش "حياة بلا هدف". افتقاد مشاعر الأمان تُدخلنا في أزمة نفسية عميقة لدرجة تجعل مشاعر الغضب تتجه نحو السماء، وتساؤلاتنا التي هي أساسًا تفريغ للغضب والخوف المتعلق بالإساءات تُصنف في فئة الغاضبين على الدين بل والملحدين، فيزيد عنادنا وتتأكد فينا مشاعر الغربة ووخروجنا عن النص. من أين جاءت المشكلة؟ المشكلة نتيجةٌ للخلط بين الله وبين السلطة الأبوية، فعندما يحدث خلل ما في علاقة الطفل بالوالدين، صورة الله في ذهن الطفل تتشوه، لذلك نجد كثيرًا ممن لديهم مشكلة في علاقتهم بالله والإيمان يرجع سبب سخطهم إلى علاقاتهم بآبائهم.
البُعد الرابع: الخزي.
ليس فينا من سيحب ذاته بحق إلا إذا تلقى بالفعل حبًا صحيًا، نحن نتصور أن الإساءات في التكوين والتربية تغرس كراهية الآباء في الأبناء، لكن الحقيقة أنها تجعل الأبناء يكرهون أنفسهم! نقول في داخلنا "إذا كانت أسرنا التي ينبغي أن تتقبلنا وتحبنا بالفطرة قد هجرتنا ولم يحبنا فيها أحد، فهل سنكون محبوبين عند غيرهم! لا شك أن الخلل فينا نحن" ومن هنا يأتي الخزي. ما هو الخزي؟ هو شعور مركب من الذنب والإشمئزاز من النفس والرفض الذاتي، يُشعر الشخص أنه هو الخطأ نفسه وليس مجرد شخصٍ ارتكب خطأ.
كل الأبعاد التي ذُكرت طُبعت في شخصياتنا نتيجة للإساءات المتكررة من الأسرة، وكنتيجة للهجر وغياب الحب والخزي يحدث خلل في علاقتنا بأسرنا والآخرين أو ما يسمى بـ:
اضطرابات العلاقات
- من أشكال هذه الاضطرابات: التمرد والرغبة في المخالفة
يظهر ذلك مثلًا حين يرشدنا أهلنا للصواب في مرة ومع ذلك نفعل عكسها، لأننا فقدنا الثقة وصرنا نرى كل نُصح منهم أوامر ووصاية علينا ولم يعد لدينا معيار نميز به.
- شكل آخر من أشكال اضطرابات العلاقات هو: السلطة غير المرئية
وكأن في دماغك لجنة منعقدة دائمة تحاول أن تُرضيها، كل عضو من أعضاء تلك اللجنة هو شخص تسلط علينا من قبل بشكل أو بآخر، وفرض علينا بعض المفروضات التي طُبعت في ذهننا بشكل غير مباشر، هذه اللجنة هي السلطة التي لا نراها، أي "غير مرئية"، وهي ليست الضمير إطلاقًا، بل هي سرطان في الضمير يُدمرنا ويجعلنا نعيش في حالة اغتراب مع النفس.
وحتى بعد أن نفارق أولئك الناس، يظل لهم سلطة علينا بالنقد أو حتى بالجلد والتقريع واللوم، لمَ تظن أن تأثيره ما زال موجودًا؟ لأن كل شخص تحول إلى صنم في دماغنا يُطالبنا بأن نعيش "بمواصفات قياسية" وأن نكون مثاليين لأقصى درجة.
تعالَ نلعب لعبة معًا؛ تكشف لك من هم أعضاء تلك اللجنة بالنسبة لك أنت:
- أمسِك ورقة وقلم
- ما المواقف التي مررت بها فأشعرك فيها احدهم أنك لست على المستوى المطلوب
- من من الرموز في مجتمعك المحيط تحاول أن ترضيهم وتلتزم بمعاييرهم؟
- أمام من تشعر أنك في قفص الاتهام وفي حاجة للتبرير دائمًا؟
- اكتب أسماءهم ومدى تأثير كلٍ منهم على حياتك، وكيف استطاع كل منهم أخد مقعده في دماغك لتكون له سلطة عليك.
- ابدأ في تحطيم تلك الأصنام حتى إن شعرت باحتياجك لهم كي تطور نفسك أو أنك بالفعل نجحت من قبل بسببهم.. شئت أم أبيت، ستفشل في النهاية وحياتك ستقف وتتعطل لأننا لسنا كاملين.
- شكل آخر من أشكال الإضطرابات التي تؤثر على علاقتنا بالآخرين هي: فوبيا الحميمية، والحميمية ليست فقط علاقة الرجل بالمرأة هنا، لكنها تشمل كل صور الاتصال الإنساني.
ما الذي تعنيه فوبيا الحميمية؟أي أن تخاف الاقتراب من الآخر
- إما بدافع عدائي تجاههم، فتكون علاقاتك معهم سطحية أكثر وتمنعهم أن يقتربوا منك
- أو بدافع العنف السلبي؛ فمثًلا تنتظر أن يقتحم أحد عزلتك ويسألنك عما بك، ويشعرك أنك محبوب وتنتظر منه أن يتوقع احتياجاتك ومشاكلك!
- أو حتى بدافع الخوف من أن يكشفنا الآخرون إن اقتربوا أكثر فيكرهوننا.
- تلك الاضطرابات تنتج أيضًا مع تكرار جمل مثل: "أنا أقسو عليك لأني أحبك" و "أنا أضربك حرصًا على مصلحتك" يمكن أن يحصل عند الطفل ارتباط شرطي بين الحب والألم، وذا ما نسميه متلازمة الحب الخشن؛ أي أنه لن يشعر بحب أحد له إلا لو قسى عليه ومنحه حبًا جافًا. أو يمكن حتى أن يجعله ذلك يمارس هو القسوة والغلظة لفظيًا وبدنيًا مع من يحبهم، وإن تأصل الارتباط والتلازم بين الحب والألم في نفسيته فيمكن أن يثير غضب شريك حياته مثًلا كي يشعر بحبه أو أن يتطور الأمر لمساحة الممارسة الجنسية العنيفة والسادية.
- هناك سيناريو آخر يمكن أن يتخذه الفرد الذي تشبع بالإساءات، وهو البحث عن شبيه للمؤذي، فيبدأ البحث عن شبيه ويحاول أن يحصل منه على الحب، آمِلًا أن يكتب نهاية لتلك القصة لتصير الإساءات بماضيها في طي النسيان.
كأشخاص تعرضنا للإساءات في الطفولة والمراهقة، أمامنا مساران:
- إما أن نتجاهل الإساءات ونتغافل عنها أونحتال عليها، وهذا يشبه تمامًا تخيل وجود فيل ضخم في الغرفة، ومع ذلك نتجاهله ونركز على لوحة معلقة على اللجدار.. وفي النهاية نصطدم بالحقيقة المرة، ويعود ظهورالإساءات في نوبات مؤلمة، ويظل الوضع كما كان.
- وإما أن نأخذ مسار التعافي من الإساءات ونتحمل الطريق المفروش بالشوك في سبيل ألا نتألم لباقي حياتنا، سنُخرج الطفل الغاضب من داخلنا، بكل الإساءات التي تعرض لها، برغم ألم استعادة الذكريات، وليس ضروريًا أن نعلن ذا للآخرين كلهم، ونسوقه كأنه سلعة، لكن المهم أن نبوح لأنفسنا بما في أنفسنا كي تقل حساسيتنا تجاه الإساءات مع التكرار حتى تخبو.
وبما أننا صعدنا على متن قطار التعافي؛ سنمر على بضع محطات نفهم فيها ما الذي تُحدثه فينا الإساءات، كي نستطيع التعافي بشكل صحيح.
- أول مرحلة من المراحل هي: الإنكار
كأشخاص تعرضنا لإساءات، لدينا صور متعددة من الإنكار، منها:
- أن نكون أصحاب دور واحد في الأسرةن سواء دور الضحية أو صاحب التضحية أو صانع البهجة أو أي دور آخر.
- والأخطر أننا يمكن أن نلتزم بذلك الدور طول حياتنا، حتى نضيق ذرعًا به ولا نستطيع الخروج منه، تمامًا كممثل سينمائي يتلبس بدور واحد في كل أعماله ولا يستطيع كسره.
- ومن صور الإنكار أيضًا، أن نُلغي وجود الإساءة من أذهاننا، وأن نكون انتقائيين حتى مع الأذى الواقع علينا.
- ويمكن أيضًا أن يتفرع عن ذلك الإنكار حالة من التناقض الشعوري؛أن تحب وتكره في آن واحد، فمثلًا تحب أبوك وأمك فطريًا ككل الناس، لكن نتيجةً للإساءة والأذى والهجر الذي تعرضت له منهما تتولد في داخلك مشاعر كره لهم، وهنا يحدث الانقسام الداخلي بين القوتين المتضادتين: الحب والكراهية.
- أما المرحلة الثانية التي ندخلها بعد الإنكار، فهي: الغضب
أُزيح الستار عن الإساءات، وسقطت التبريرات، وصار كل شيء واضحًا وضوح الشمس في منتصف النهار..
في هذه المرحلة ستحاول قدر المستطاع ألا تقلق من غضبك أو تكرهه وتخاف حدوثه، على العكس خوفك من مشاعرك وتجنبها هو من آثار الإساءة التي تحاول أن تتجاوزها، ولا أن تغضب حتى من غضبك فيصير غضبًا مركبًا من (غضب على الإساءة + غضب على نفسك لأنك غضبان)!
هل غضبك طبيعي؟ نعم، غضبك هنا طبيعي بصوره المختلفة، سواء
- إعلانك عن غضبك وسخطك
- أو صمتك وتجاهلك للمؤذي
- أو أيًا كان قرارك الذي ستراه مناسبًا، فإن الله يعلم، والقدر يستوعب، وكل من سيطلع على التفاصيل التي مررت بها سيتفهم أنك في مرحلة هدنة غاضبة ضرورية ومقبولة، لأن التعافي -ببساطة- كالمخاض الذي تمر به الأم الحامل، لا بُدَّ فيه من ألم عنيف.
- المرحلتان الثالثة والرابعة هما وضع الحدود واستعادة الذات.
وسواء سبقت المرحلةُ الثالثةُ الرابعةَ أو العكس، أو حتى وقعا معًا بالتوازي، فلا بأس.
- في مرحلة استعادة الذات نُركز على الحل لا على المشكلة.
- وفي وضع الحدود نوقف المؤذي عند حده، و نمنع حدوث أي إساءات لنا منه مجددًا، ونقفل في وجهه بوابات السماح بالإساءة ونقول "لا". ومن الطبيعي أن تكون ردة فعل المسيء على وضع الحدود بأن يتمادى ويزيد من الأذى، لا بد أن نحتمل تلك المرحلة بكل ما فيها لأنها الأصعب، حتى يصل المسيء للتكيف معك والتفاوض، فتبدأ مراحل السلام.
- وأخيرًا: المحطة الأخيرة في التعافي من الإساءات؛ مرحلة التجاوز.
وهي إكليل التعافي وثمرة رحلة شاقة، ربما اافتقدنا فيها حتى رفاف التعافي، فإيجادك رفاقًا في تلك الرحلة هو هدية من السما، شخص واحد متعافٍ وحسب يلهمنا ويمدنا بالقوة والزاد في رحلتنا، أفضل من مائة متخصص وباحث يمكن أن نلقاه في الرحلة.
في النهاية: إن تعرضت لإساءة في طفولتك فلا تتمسك بها طول حياتك، لا تعِش بالنمط الوحيد الذي تلقيته، لا تتمسك بالحبس والسجن ظانًا أن نار السجن أفضل من جنة الحرية المجهولة، لا ترتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه أصحابنا الذين رأوا أبواب الزنازين مفتوحة ولم يفكروا حتى في الخروج، ولا تتردد في أن تطير عندما يفتح لك باب القفص الذي حُبست فيه شخصٌ يُحبك ويدفعك للطيران، وقد يكون هذا الملخص وهذا الكتاب هما ما يدفعانك للطيران!
سلامًا لكل من تعافى.
سلامًا لكل روح جريحة شُفيت.
ولكل منتهكَة جاوزت.
ولكل مسلوب استرد.
ولكل متكتم قد باح!
والسلام!
