كتاب علاقات خطرة

Book-Cover

كتاب علاقات خطرة (المؤلف: محمد طه)

إن هناك ٣ حالات تعيش بداخل كل واحد، وهي من تمسك بزمام الأمور بالتبادل في المواقف المختلفة.

حالات الأنا

الطفـل

أول فرد بداخلك هو الطفل! وهو نسخة منك وأنت صغير.

الطفل له ثلاث حالات:

  • ممكن أن يكون حرًّا، يحب اللعب والمزاح. عندما تخرج هذه الحالة تكون في حالة طفولية؛ تتحرك بمرونة وتتصرف بعفوية وتلقائية.
  • الطفل يمكن أيضًا أن يكون متكيّفًا -مذعن- وهذه النسخة تكونت عندما وصلت لسن معينة، وقررت التنازل فيها عن حريتك وتحولت بها إلى طفل لا يقول كلمة لا حتى يتقبله المحيطون به. هذا الطفل صوته منخفض، وجلسته محنية، وعينه مكسورة. ويظهر عندما تكون الظروف المحيطة بك قاسية وصعبة، وتشعر بأنك لا تعرف ما الذي عليك فعله.
  • الشكل الثالث لحالة الطفل هو الطفل المتمرد، وهذا الطفل دائمًا في صراع ومنافسة مع غيره، عنيد ويحب الرد والهجوم! 

الوالد

الشخص الثاني الذي يسكننا هو الوالد.

الوالد تشكَّل بداخلك عن طريق تعاملك مع أبيك أو أمك أو حتى مدرِّسك- أي شخص كان لديه سلطة عليك.

ويظهر في المواقف التي تستدعي الحنان، التي يُطلب منك فيها أن تكون مسؤولًا فتستمع، تطبطب تنصح وتوجّه -تلك هي حالة الوالد الراعي-. 

ولكن هناك أكثر من حالة لشخصية الوالد تمامًا مثل شخصية الطفل. فمثلًا هناك الوالد الناقد، وهذا يكون شخصًا قاسيًا، لا يعجبه شيء، ولا يتوقف عن اللوم والتعليقات والأوامر.

ويظهر في المواقف المستفزة التي تخرجك عن إطار التعليم والتفهم والحكمة.

البالغ

الشخص الثالث هو البالغ أو الأنا الراشدة. هذه الحالة تشبه الحاسوب لا تعرف غير المنطق والحسابات والتجرد من العواطف، وفيها يمكنك ضبط انفعالاتك بعيدًا عن تلقائية الطفل وحنان الوالد وقسوته.

كل واحد من تلك الشخصيات له تعبيرات وجه مختلفة، ولديه طريقة تميزه سواء في الكلام أو بنبرة الصوت، وأيضًا طريقة مميزة بالحركة والمشي!

ما الذي ستسفيده من معرفتك لهذه التفاصيل؟

من المهم أن تعرف في كل تفاعل من هو الشخص الذي يتكلم:

  • أي شخص من الشخصيات الثلاث هو من يتحدث على لسانك.
  • ومن الشخص المقابل لك الذي يرد عليك!

في كل تفاعـل أو تعامـل مــع أحــد، شخص من هؤلاء الثلاثة يخاطب شخصًا من الثلاث شخصيات الموجودة في الطرف الآخر.. الطبيعـي والسـليم أن من أوجِّه له الكلام هو من سيجيبني، وليس أن أحدث شخصًا فيرد عليَّ شخص آخر؛ فينتهي الحوار بشكل غير مناسب.

فمثلًا من الطبيعي أنك عند عودتك إلى البيت بعد يوم عمل متعب ومرِّهق، وتقول لزوجتك بمنتهى الهدوء والعقـل بحالة الأنا الراشـدة: أنا جائع جدًّا هل حضرتِ الطعام؟ 

الطبيعي أن تجيبك بــ(الأنا الراشـدة) الموجودة بداخلها فتقول لك: أجل الطعام جاهز، أو لقد كنت مشغولة اليوم ولم يكن لديَّ وقت لتحضيره. هذا يسمى تفاعلًا طبيعيًّا. 

ولكن عندما تجيبك بنبرة مليئة بالظلم والإهانة وعدم التقدير وتقول: ألا ترى أي أحد غيري؟ أنا أشقى وأتعب طوال الوقت، وأنت تأتي لتطلب وتأمر!!

هنا (الطفـل المذعن- المتكيف) الموجود بداخلها هو من يجيب ويشتكي، لو كنت مدركًا للتقسيمة السابقة ستتمكن من التعامل مع الموقف بشكل أفضل.

كل حالـة يوجد لها مفتاح، وكل شـخصية فيهم لها مدخـل.. على سبيل المثال عندما تتحدث لشخص منزعج وغاضب ويعيش في حالة (الطفــل المذعن- المتكيف) انتبه لنقطة أنك عليك أن تخاطب فيه الحالة الظاهرة فتمازحه وتحدثه بالعواطف- لا تحدثه بحالة الوالد وتغضب منه وتلومه ولا بحالة الراشد وتكلمه بالمنطق.

الطرح

أيضًا في بعض الأحيان قد ترى فتاة في الشارع وتحس تجاهها بحب مفاجئ وقوي وسريع. ومن دون حتى أن تقول هذه الفتاة كلمة واحدة تجد نفسك مؤمنًا بأنها أروع فتاة في الدنيا. 

مثال آخر: شخص ما لم يقل لكِ صباح الخير فتجدين نفسك تشعرين تجاهه بالغضب الشديد، وتحكمين عليه من هذا الموقف الصغير بأنه يكرهكِ ويستحق أن تكرهيه. 

الشعور في تلك الأمثلة نابع من ما يسمى الطرح.

الطـرح معناه ببساطة إعادة توجيه مشاعر وأفكار تجاه شخص معين في الحاضر (بشـكل غـير واعٍ) في حين أن أصلها كان تجاه شخص آخر مختلف تمامًا في الماضي.

ويمكن أن يظهر بأشكال مختلفة: حـب، كــره، غضــب، تقديـس…

حسنًا! كيف يمكنك التمييز بين مشاعر الطرح ومشاعرك الحقيقية؟

عندما تجد مشاعرك تجاه شخص ما طاغية جدًّا وسريعة جدًّا وبدون مبرر، فأنت غالبًا لا ترى هذا الشخص بعينه بل تتعامل بمشاعرك مع شخص آخر من ماضيك بدون وعي منك. 

أيضًا انتبه لهذه الفكرة في التعامل مع الآخرين، عندما يحدث بينك وبين شخص ما مناقشة عادية ولسبب تافه تجد منه ردَ فعل قوي وعنيف وغير متناسب أبدًا مع الموقف، غالبًا هذا الشخص لا يحدثك أنت بل يحدث شخصًا آخر قديمًا في شخصك.

دراما الآخر

كل شخص ستقابله في حياتك يوجد داخله سيناريو قديم.

مجموعة من الأحداث الحياتية التي تعرَّض لها في مرحلة ما من حياته، ستجد مثلًا: 

  • الشخص الذي لا يزال بداخله شكل وتفاصيـل علاقته بأبيه، وكيف أنه كان طيبًا وحنونًا وصبورًا معه. 
  • الشخص الذي لا يزال يحتفظ بمشاعر خوفه مـن أخيه الكبـير.
  • الشخص الذي يشتاق إلى أمه.
  • الفتاة التي لم تتمكن من نسيان الرعب الذي أحست به عندما فقدت أمها بالسـوق وهـي صغـيرة.

دراما موجودة داخل كل واحـد أو واحدة.. كل حـدث أو مشـهد أو حكايـة من تلك ترك رسالة نفسية مهمة.

رسائل يعيش بها الشخص عمره كله، ويبني عليها حياته ويتعامل على أساسها مع الناس. 

  • ستجد من وصلت إليه رسالة مضمونها "أنت لا تستحق". 
  • وهناك من وصلته رسالة تقول "لا أحد سيعطيك أي اهتمام إلا إن كنت صانعًا للمشكلات". 
  • شخص ثالث وصلته رسائل مجملها يقول: "لن تستطيع فعلها وحدك". 

الكثيرون وصلتهم رسائل بهذا الشكل، ولا يكون أمامهم خيار إلا أن يصدقوها لأنها أتتهم من أقرب الناس وفي وقـت وعمـر وظــروف أجبرتهم على الاستسلام لها.

والأصعب من ذلك، أن الشخص هنا سيسعى طوال الوقـت لتحقيق تلك الرسائل وكأنها نبوءة، وذلك لسـبب بسيط، هو لم يعرف عن نفسـه من المحيطين به في ذلك الوقت غير هذا! ولم يتعلم عن الحياة والعلاقات في ذلك الوقت شيئًا آخر.

في الحياة اليومية ستقابل هذا الشخص، ستجده يبحث عن شخص ما ليلعب دورًا في مسرحيته كي يحافظ على سير أحداثها، وتحقق له النبوءة المؤمن بها في النهاية. 

وأحيانًا يقع عليك أنت الاختيار!

قد تجد شخصًا ما يُخرِج منك كل شر، ويســتفز فيــك كل غضــب، ويتصيــد لك كل خطــأ، حتى يُلبِسك دور الشرير المتسلط المفتري، ويؤكد لنفسه رسالة "كل الناس أشرار، وأنا فقط الطيب"..

وقد تجد شخصًا يشكرك دائمًا ويعبر لك عن امتنانه بدون أن تفعل أي شيء.. فلا يتحرك إلا بإذنك ولا يفعل شيئًا بدون مشورتك، كي يلبسك دور الشخص القوي المخلص ويعتمد عليك ويؤكد لنفسه رسالة "لا يمكنني الاعتماد على نفسي".

ستجد من يحاول أن يلبسك دور الجاني، ومن يحاول أن يلبس دور الضحية، ومن يحاول أن يلبسك دور المنقذ.

لا تجعل نفسك طرفًا في لعبة درامية بائسة، لا هي لعبتك ولا أنت قادر عليها..

الاضطرابات النفسية

تتداخل عشرات العوامـل حتى تحدث الاضطرابات النفسية.

طريقة التربيــة مــن أهــم تلك العوامــل، ومعاملــة الأب والأم، والرسائل التي وصلـت للأبناء مـن خلالهما.

تلك الرسائل النفسـية مع تكرارها وتأكيدها مـن الأب والأم تتحول إلى جزء لا يتجـزأ مـن التكويـن النفـسي لدينا.

بعد ذلك ستخرج من داخلنا بشكل تلقائي وكأنها صفة أصيلة فينا من البداية.

إن الشخص الذي وصلته رسائل من نوع:

  • "أنت لا تستحق".
  • "يا ليتنا لم ننجبك".
  • "أنت أقل من غيرك".
  • "انظر إلى فلان فهو أفضل منك".

سيكبر وستظل تلك الرسائل بداخله، سيحدثه صوته الداخلي دائمًا هكذا … أنت ضعيف … أنت غير كافٍ… أنت سيئ … فلان حقق كذا وأنت لم تفعل…

يمكن أن تكون تلك الرسائل بالتصرفات.

مثلًا شخص يقال له بالـكلام: اختر مسـتقبلك وقم بكل شيء ترغب فيه، ولكن يقال له بالتصرفات: إياك أن تكون غير المشروع الذي أتمناه أنا.

أو فتاة يقال لها بالكلام أنتِ حرة ومعززة ومكرّمة، ولكن يقال لها بالتصرُّف أنتِ عار ووجـودك جريمـة وذنـب.

هل تتخيل كيف سيشعر هؤلاء الأشخاص داخليًّا؟! شعورهم بأنفسهم وبالعالم من حولهم سيأخذ أي شكل؟ 

بدون الدخـول في تفاصيـل مؤلمـة، هؤلاء للأسف هم مادة خام وتربـة خصبـة للمـرض النفسي.. 

بصورة عامة الأمــراض النفســية هــي إما جنــون، وإما دفاعات ضـد الجنـون. 

  • أي إن الشخص الذي سيستطيع تحمُّل واقعـه المـؤلم، ويحتفـظ ببعض مـن عقله في مواجهـة تربيتـه وظروفـه وجيناتـه، سيصاب بأمـراض مثل الاكتئاب والقلق واضطرابات الشـخصية. 
  • أما الشخص الذي لن يتحمَّل الواقــع والظــروف والضغــوط والصدمات النفســية التي رآها طوال حياته فهو سيقرر بشـكل واعٍ أو غـير واعٍ بأنه سينفصل (ينفصـم) عـن الواقـع تمامًا، ويخلـق الواقـع الخاص به!

الجهاد

هناك نقطة مهمة، كثيرًا ما نجد شخصًا مؤهلًا كي يكون مريـضًا نفسيًّا، لكنـه لم يمرض نفسـيًّا بالرغـم مـن ذلك! وذلك بسبب عامــل مهــم آخر في حدوث وعــدم حــدوث المــرض النفسي. هذا العامل هو القرار.

الطفــل الذي يســتقبل رسائل نفســية مؤذيــة لسنوات عديدة عنـد سـن معـينة يقرر (أحيانًا بشـكل واعٍ وأحيانًا بشـكل غـير واعٍ)، ألا يكون نفسه مرة ثانية. كي يُعفي نفسه مــن الأذى ويتمكن من العيش.

 وأحيانًا يكون هذا القـرار مُخزَّنًا في نفسه لسنوات طويلـة، وتحــت الظــروف المواتيــة، يقرر الاستسلام للواقـع، والتســليم للضغــوط عندما تحدث. 

فتجد شخصًا قد قرر أن يكون انطــوائيًّا، وآخر قرر أن يكون اعتماديًّا ، وأخرى قررت أن تصبح هستيرية، وأخرى قررت أن تكره جسدها، وآخر قرر أن يكره نفسه، وآخر قرر أن يفقد عقله ويصاب بالجنون.

نحن في لحظة انطلاق شرارة المرض النفسي يكون أمامنا فرصة الاختيار. 

الشخص الذي مرَّ بتلك اللحظة سيتذكّرها جيدًا، ويكون مقابله خيارين:

  • إما المقاومة. 
  • وإما الاستسلام للأفـكار والوساوس.

إما التحمـل، وإما الاستسهال والدخــول في كهــف الاكتئاب المظلــم.. إما التعامــل مــع الناس مهــما كان ذلك صعبًا، أو إلغاؤهــم واختــلاق صــور وأصــوات وأشــكال وناس وهــلاوس وضــلالات.. إما الحياة، وإما المــوت..

قبل أن نختم فقرة القرار، هناك شيء أخير يجب الإشارة إليه: القرار لا يمكننا تعميمه على كل الأمراض النفسية، فالأمراض النفسية التي سببها اضطراب عضوي في المخ مثلًا، للأسف تحدث بدون أي قرار من المريض.

الصورة الكاملة

هذا الكتاب يمكن أن يترك لديك انطباعًا مزعجًا تجاه الأهل والمجتمع بسبب كمية الرسائل المؤذية التي وصلتنا منهم، ولكنك لو رأيت الصورة الكاملة فذلك الانزعاج سينقلب إلى رحمة.

في الحقيقة إن كنت ضعيفًا ومظلومًا؛ فأبوك وأمك مظلومان أكثر منك، ولو أنك تعرضت لتشويه نفسي فهما تعرضا لضرر أكبر وأشد من قبل أهلهما.. أجيال تسلّم أجيالًا. 

ما قاما به معك هو الشيء الوحيد الذي عرفاه وشاهداه وتربيا عليه وتعلماه.

بدلًا من أن توجِّه طاقتك للغضب ناحيتهما وجِّهها تجاه الاحتياجات التي ترى بأنك حُرمت منها وحاول تلبيتها لنفسك.

ثقوب نفسية

يوجد في داخل الكثير منَّا ثقوب فارغة نحاول أن نملأها بطرق وأشياء مختلفة: 

  • هناك من يملؤها بنجاحات مدويـة وخارقة ومبهـرة. 
  • وهناك من يحاول ملأها بنظرات إعجاب في عيـون الناس. 
  • وهناك من يحاول ملأها بنهــم غــير مــبرر للمال.
  • وهناك من يحاول ملأها بالدخول في قصـص حـب متكررة سـطحية زائفـة. 
  • وهناك من يحاول ملأها بادّعائه علمًا أو حكمـة مـن غـير عمـق أو أصالـة أو حقيقـة.

ولكن للأسف كل ذلك لن يملأ أو يسد الفراغ النفسي الموجود.

هذا الفراغ لا يمتلئ إلا بأمر واحد وهو أن "تصدِّق بأنك تستحق".

  • أحيانًا يشكك المجتمــع بهذه الرسالة، وأحيانًا يوصل لك عكسها.
  • قد يصل إليك من الأب والأم في بعــض الأوقات أنك لا تستحق حبّهما أو اهتمامهما أو رعايتهما أو قبولهما.
  • ويمكن أن تصلك رسالة بأنك تستحق فقط بمقدار انصياعك لرغباتهما وتنفيذ أوامرهما. 
  • يمكن أن يوصل لك المجتمع أنك تستحق فقط على قدر المال الذي تمتلكه.

إن احتفظت بهذه القناعات وصدّقتها سيستمر الثقب الأسود في داخلك مهما حققت من إنجازات.

لن ترضى ولن تشعر بالإنجاز إلا عندما ترفض تلك الرسائل، وتصدق أنك تستحق فذلك سيكفيك.