كتاب التخلف الاجتماعي

Book-Cover

كتاب التخلف الاجتماعي (المؤلف: مصطفى حجازي)

التخلف الاجتماعي

كان يا مكان، كان هناك قرية بعيدة كان الناس فيها يعيشون بسلام؛ إلى أن أتى ضيف غريب إلى قريتهم وتسبب في إصابة القرية بمرض غامض. هذا المرض كان يغير طباع الشخص الذي يصيبه ويحول شخصيته ١٨٠ درجة.

الإصابات كانت متفاوتة ودرجة تأثرهم بالمرض كانت مختلفة، هناك أشخاص قضى عليهم المرض تمامًا، وهناك أشخاص لم تظهر عليهم أعراض المرض أصلًا، وهناك أشخاص تفاوتت الأعراض لديهم بين هذين الاثنين.

المرض كان اسمه التخلف، وأما الضيف الغريب فاسمه القهر!

________________________________________________________________

كل فترة يخرج شخص ما ويقول إن دولنا وشعوبنا هي شعوب متخلفة، وإن هذا هو طبعها أساسًا، وبأنها تفهم لغة الكرباج، ولاينفع معها شيء سوى التسلط وبأن تلك هي طبيعة مترسخة فيهم، يرون بأننا شعوب كسولة، لدينا ازدواجية معايير ونتقبل الظلم بدون أخذ ردة فعل تجاهه.

لكن في الحقيقة، التخلف لا يقوم على عوامل ثقافية أو عرقية، وكل ما قيل هو عبارة عن تحيزات غير صحيحة يقدمها المتسلط كي يبرر ما يقوم به.

 التخلف مرض والمجتمع المتخلف مجتمع مريض ومشكلاته كلها مجرد أعراض جانبية تظهر كرد فعل للقهر الذي يمارس عليه ويمكن حلها بمعالجة المرض الأساسي؛ ومن الممكن لأي مجتمع أن يصاب به ويتعالج منه فهو ليس حكرًا ولا طبعًا لعرق معين مثلًا.

__________________________________________________________________

درجة إصابة المجتمع والفرد للتخلف تختلف، وغير ثابتة، ويمكن أن تكون متأصلة جدًّا في الشخص، وفي هذه المرحلة أي مشاريع تنويرية لن يكون لها أي قيمة وستفشل طالما أن أسباب التخلف لا تزال موجودة.

مثل قرية كان أهلها يتعرضون لظلم شديد، حاكمهم لديه كرباج يضربهم به، ولذلك يستمرون بكبت الظلم الذي يتعرضون له إلى أن يأتي يوم ويصلون إلى مرحلة الانفجار! فيطردون الحاكم خارج قريتهم، ويختارون واحدًا منهم ليتولى الحكم. رائع! ولكنهم أيضًا سيعطونه الكرباج ليضربهم به ثانية ويحولونه لمتسلط جديد وسيبقون عالقين في دوائر مغلقة.

التخلف ظاهرة كلّية ويجب أن يكون علاجها شموليًّا، فلا يجوز أن نعالج أعراضًا أو حتى أسبابًا جانبية ونهمل أهم أمر وهو علاج الشخصية وتقويمها التي يكونها التخلف في الشخص المقهور.

كلمات مثل القهر والتسلط ستدفعك لأن تعتقد بأنني أقصد مواطنًا وحاكمًا أو دولة وقوة استعمارية مثلًا، ولكن الموضوع أشمل بكثير.

علاقة القهر يكون فيها طرفان، طرف مقهور وطرف متسلط.

يمكن أن تكون تلك العلاقة في البيت بين الأب وأولاده، أو بين الزوج وزوجته أو بين المدير والموظفين أو بين الكبير والصغير وبين الأستاذ والطالب.

حتى حب الأم لأبنائها بالرغم من العاطفة التي تقدمها لهم، ولكنها غالبًا ما يغلب عليها الطابع التملكي، فهي تعطيهم بصورة غير محدودة ولكنها تبتزهم عاطفيًّا وتحدد قراراتهم على هواها وتختار لأولادها مصائرهم. حتى إنه من الممكن أن يُمارس القهر على الحيوانات والجماد.

كل صاحب سلطة يمارس التسلط على الشخص الأقل منه، المجتمع كله عبارة عن سلسلة من التسلط غير المنتهية.

_____________________________________________________________

الشخص عندما يتعرض للقهر فإنه يتجه لوسائل دفاعية كي يحقق توازنًا نفسيًّا يمكنه من الاستمرار بالحياة مثل:

الهروب إلى الذات

فيرفض ويكره نمط حياة المتسلط، وينسحب ويتقبل مصيره ويهرب من إحساسه بالعجز.

الأغاني الشعبية التي تعبر عن المجتمع لن ينجح منها إلا الأغاني الحزينة القائمة على الجرح والغدر والمليئة بالتشاؤم. والناس تحب سماعها لتعزي نفسها.

الهروب إلى الماضي

فيختار فترة مضيئة من تاريخ أجداده فيها الأمجاد والأبطال ويهرب إليها. يتبنّاها ويراها مصدرًا لهويته وامتدادًا له. وممكن أن يحارب أي شخص يحاول الخروج عن ما هو متعارف عليه ويحول الأعراف لقوانين غير قابلة للنقد.

الهروب إلى الجماعة

يحتمي بجماعته التي ينتسب إليها، ويعوّض بذلك كل إخفاقاته، ويقسّم العالم إلى قسمين؛ الأول: الجماعة والأهل وهم بالطبع مصدر كل خير، والثاني: بقية العالم كله وأي أمر يأتي منهم يعتبره مصدرَ شكٍ. كلما ازداد الضغط على أفراد الجماعة احتموا بأنفسهم أكثر وهنا تتولد الطائفية. 

ليس شرطًا أن تكون الجماعة مكونة تبعًا لأساس اجتماعي، ولكن قد تكون بين أفراد مشتركين في وجهات نظر وممكن مهنة واحدة! 

ويتحول المجتمع إلى تكتلات وجزر كل مجموعة تحاول أن تستحوذ على أكبر امتيازات ممكنة؛ فتجد أن أعضاء مهن معينة يستحوذون على امتيازات معينة، فكأنهم في وادٍ وبقية الناس في وادٍ آخر.

الهروب بالاستعراض

الشخص هنا يركز اهتمامه على الاستعراض والمظاهر؛ فيكون لديه عقدة الوجاهة والمظاهر، فأهم أمر بالنسبة له هو أن يظهر وجاهته وسط جيرانه البؤساء.

 الناس يتسابقون على الاستهلاك بشراهة، ويسعون إلى استعراض موائدهم ويرونه دليلًا على أنهم استطاعوا الهروب من الجوع والحرمان؛ فيقيمون وليمة كبيرة، يأكلون منها طبقين ويرمون الباقي دون اكتراث. 

ممكن أن يعوّض الشخص نفسه عن أي إحباط له في الحياة بالإفراط في الأكل.

الهروب للخارج

سيعيش حياته غارقًا في الأوهام ويقتنع بالحلول السحرية. ويرى بأنه فشله يمكن أن يختفي في اليوم التالي هكذا من دون أي مجهود منه، فليس مهمًّا أن يصلح أخطاءه أو يحلل أسباب فشله، ولكنه يطمئن لفكرة أن كل المشكلات سوف تنتهي وتحل من تلقاء نفسها.

وقد يتبنى النظرة السلبية، فيرى بأن هذا هو قدره الذي عليه تقبله، فكل ما حدث له ليس له سيطرة عليه ولا ينبغي عليه أن يشعر بالذنب لأنه ليس مسؤولًا عن أي شيء.

"خالد" توفي والده عندما كان صغيرًا وقام عمه بسرقة ماله، ولكنه عندما أصبح شابًا سيقول لكل من ينصحه بأن يذهب إلى عمه ويأخذ حقه؛ "هذا قدري ونصيبي وأنا راضٍ به".

في حقيقة الأمر هو يحاول البحث عن أي تفسير لا يجعله السبب في المشكلة. أي تفسير يوفر له منفذًا يوجه إليه تهمة أنه مصدر للمشكلة، وهنا تظهر نظريات المؤامرة التي ستجعله يشعر بالامتياز وترضي غروره بالطبع، لأنه يشعر بأنه متفوق وبأن العالم كله يتآمر عليه.

سيبحث عن أي شخص ليحملّه المسؤولية، من الممكن أن يلجأ مثلًا لرد الاعتبار بالانتقام من طرف أضعف، ومن ثم يبرر الاعتداء عليه واستباحته بأنه هو السبب في المشكلة، "عندما أتخلص منه مشكلتي ستُحل".

أو هذا البلد الذي خسر الحرب، واعتبر أن ذلك حدث بسبب الهنود الحمر الموجودين فيه، فحُكم عليهم بأنهم خونة، ويجب أن يوضعوا بمعسكرات وتضرم فيهم النار! 

فبذلك، ودون أي دليل أطلقوا الحكم وحكموا عليهم ونفذوا الحكم!

الهروب بالتشبه بالمتسلط

 سيتشبه بالمتسلط ويقلد نمط حياته ويتبنى قيمه وطريقة تفكيره ويراه بصورة أكبر من حجمه وبأن لديه قوة خارقة فيعترف له بفرض سيطرته عليه.

تجده يتنكّر لنفسه ولجماعته بل ويسعى لتدمير أصالة أهله ونمط حياتهم بالكامل فيعتبرهم بأنهم كائنات برتبة أقل وبأنهم السبب في كل ما حدث له، ويتحول لمتسلط آخر على من هم أضعف منه.

أكبر كبش فداء يسقط المقهور ضعفه عليه هو المرأة. فيعوض قهره بالتسلط عليها لكي يحافظ على كبريائه وتوازنه.

لماذا فشلت؟ لبس المرأة هو السبب!

سيرمي كل الأسباب الحقيقية عُرض الحائط، ويرى بأنه الضحية وبأنه لا يوجد أي شيء خاطئ من طرفه؛ ففشله سببه الوحيد هو المرأة!

 هو لم يدرس الموضوع أو يخطط له ولم يعمل ولذلك فشل، ولكنه عوضًا عن اعترافه بذلك يحاول أن يتدارك الموقف ويجد سببًا ليلقي عليه التهم، وهنا المرأة هي السبب وهو مجرد ضحية!

ولكي تحافظ المرأة على توازنها تلجأ للأساليب الدفاعية نفسها مع أساليب جديدة أيضًا كالمبالغة في النرجسية؛ فترى نفسها بمنزلة سامية وتبالغ في تضخيم نفسها وإحساسها بأهميتها، وتسعى للسيطرة على الرجل بصور غير مباشرة كأن تبالغ في إظهار ضعفها مثلًا أو التنغيص والمكر وهكذا.

الهروب إلى العنف

آخر وسيلة دفاع للشخص المقهور هي أن يصرّف القهر للخارج فى صورة عدوانية. في البداية تكون غير مباشرة ورمزية، مثل: الكسل.

المتسلط يريد من المقهور أن ينجز عملًا جيدًا يخدم مصالحه، فيحاول أن يزرع فيه أهمية العمل كي يرفع قيمة الشركة أو الدولة، والمقهور سيتظاهر بالعمل وهو مقتنع تمامًا بأن جهده لن يفيده بشيء ولن يحسّن من وضعه فتبدأ الرشوة بالظهور، وذلك ما يخلق مشكلة الازدواجية والكذب.

البائع يكذب على المشتري، وكل منهم ينظر للآخر على أنه مجرد أداة يحاول الاستفادة منها على أكمل وجه.

  • الكذب موجود في الزواج والحب في ادعاء القيم والتصنّع. 
  • كل العلاقات غير حقيقية وقائمة على التضليل.
  • المجتمع كله قائم على الفهلوة.
  • ويظهر التعصب السياسي الذي يتناسب مع العدوانية.
  • والتعصب الطائفي الذي يستغله المتسلط والذي هو السبب فيه أساسًا ويغذيه كي يفرض سلطته عليهم، ويفهمهم بأنه هو الوحيد القادر على تطبيق القانون ووضع النظام.

المقهور يشعر بعدم الانتماء والغربة؛ فيخرب ممتلكات الدولة يشوّه الشوارع ويكسّر إشارات المرور ويراها بأنها ملك المتسلط وليست ملكه، فهو يشعر بالغربة في بلده.

أخيرًا.. العنف المباشر

وهنا يستغل المتسلط عنف المقهور كي يتهمه بالعدوانية، فيقول هؤلاء هم أشخاص عنيفون ولا يجوز التعامل معهم بغير القسوة، ويجب أن يحكمهم حاكم قوي مثلي تمامًا؛ فأنا الوحيد وطريقتي هي الوحيدة النافعة في حفظ النظام.

سآتي وأطرد أهلك من بيتهم وأسرق أرضك وأمارس ضدك كل أساليب العنف، وأنت إن حاولت الدفاع عن نفسك والرد بأبسط الطرق عندها سأتهمك بكل تهم الإرهاب الموجودة.

المقهور مطالب بأن يكون مسالمًا بالرغم من العنف الذي يتعرض، وأي مبادرة عنف منه ستكون مبررًا ضده لعنف أكبر.