كتاب النباهة والاستحمار

كتاب النباهة والاستحمار (المؤلف: علي شريعتي)
"عادل" اليوم بعد عودته من عمله، كانت هناك مفاجأة سيئة بانتظاره، سيشاهد منزله تلتهمه النيران! وتلك كانت المرة الأولى التي يكون فيها بموقف كهذا، ولم يعرف كيف سيتصرف. "جلال" جاره - الذي يكرهه بالخفاء- سينصحه بأن يصلي ويدعو الله لحل المشكلة بدلًا من أن يقترح عليه أن يحاولا إطفاء النار.
هذا المثال يمكننا أن نستخدمه لتعريف الاستحمار ؛ الاستحمار هو خدعة تعطيل الوعي وبكلمة أخرى هي تسخير الناس مثل الحمير، وطبعًا المثال السابق كان واضحًا جدًّا، وأي أحد يستطيع اكتشاف الخدعة، لكن ما يتم تطبيقه في الحقيقة يكون معقدًا أكثر من ذلك.
الفكرة كلها قائمة على الخديعة. فلو أن هناك شخصًا يريد إيذاءك ليس شرطًا أن يدفعك لارتكاب عمل سيئ لأنه لو فعل ذلك ستكتشفه وترفض وتبتعد عنه وهنا خطته كلها ستفشل، لكن ما قد يفعله هو توجيهك لفعل شيء مفيد وبريء ليُخفي عنك شيئًا مهمًّا جدًّا، ويصرف تفكيرك عن التصرف الأصح.
المعارك لم تعد معارك سلاح والحروب أصبحت حروب توجيه وإيهام، الفائز هو الذي يعرف كيف يستغل عواطف الناس ويوجههم ويسيطر عليهم نفسيًّا. الاستحمار موجود من حولنا في كل مكان وأصبح من الصعب معرفته لأنه تحول لنوع من أنواع الفن يقف خلفه محترفون باستغلال نقاط ضعف البشر وعلم النفس، أشخاص يعرفون ويفهمون كيفية التحكم بالعقول البشرية.
على المقاس
الاستحمار يتم تفصيله لكل فرد على حسب ميوله واهتماماته، "محسن" مثلًا مهووس بالكرة فسيتم الوصول إليه من خلال هذه النقطة، وهنا لا أقصد مشاهدته للمباريات فقط بل سيتحول الموضوع لهوس مرضي لفريق موجود بدولة أخرى، هوس معطل ومخدر لحياة "محسن" الطبيعية، هوس يشغله عن أولويات حياته.
"جابر" عمدة القرية التي يقوم بسرقتها ولا يعرف كيف يديرها وعندما يقف أهل القرية في وجهه لمحاسبته على فشله فى تأدية عمله، سيستغل أن الفخر نقطة ضعف العائلات في البلد وسيُشغلهم به، ويحول الموضوع لثأر فيما بينهم، ويخلق معركة جانبية تلهيهم عن معركتهم الأصلية.
استغلال الدين
أسهل وأكبر وأقوى شيء يمكن استخدامه فى الاستحمار، وسيكون من الصعب كشفه وحتى لو كُشِف، الشخص الذي سيعترض ويقف في وجهه سيكون موقفه ضعيفًا والناس هم الذين سيقفون ضده هو استغلال العاطفة الدينية.
استغلال العاطفة الدينية
كانت "رنا" و"سلمى" مشتركتين في مشروع. كانت "سلمى" المديرة، وكانت مديرة متهورة وتتحرك بدون أي علم وستضيع أموال "رنا" في النهاية. ولكن عندما تأتي "رنا" لمحاسبتها والمطالبة بحقها، سترد "سلمى" عليها: الخسارة التي حدثت لنا هي إرادة الله.
"حمدي" سيدخل لإجراء عملية والطبيب بسبب إهماله سيتسبب له بمشكلة صحية تلازمه مدى الحياة، "حمدي" عندما يذهب لتقديم شكوى، الطبيب سيقول له احمد الله، هناك أشخاص غيرك يفقدون حياتهم في هذا النوع من العمليات.
سيذهب "حمدي" لمدير المستشفى، المدير سيقول له أنت مثل ابني وسأنصحك نصيحة أبوية؛ الدنيا فانية يا بني فلا تتمسك بها، ما حصل قد حصل لذلك انظر للأمر على أنه تكفير عن أعمالك أو اختبار لك من الله، واصبر فبكل تأكيد ربنا سيجزيك كل خير، "حمدي" فى البداية كان يريد أن يأخذ حقه وكان من الممكن أن يبحث عن علاج للمشكلة التي حدثت له، أما الآن فهو يرى بأنه ليس من مسؤوليته أصلًا، ولا يمكنه أن يتدخل في إرادة الله.
بهذه الطريقة: "رنا" أو "حمدي" أو أي أحد عندما يتعرض لظلم أو لسرقة فلن يطالب بحقه، بل سيزهد ويضحي بحقه، ويقتنع بأن الله سيعوضه، وسيقبل الواقع! ليس من الخطأ أن يفعل الإنسان ذلك لكن بشرط أن يفعل ذلك وهو قوي ويأخذ القرار بنفسه وليس عن طريق استغلاله وابتزازه عاطفيًّا. بهذه الطريقة سيكون الفرد شخصًا ضعيفًا غير مناسب للحياة، وسيتم استغلاله من كل الأشخاص المحيطين به حرفيًّا.
قيمة الأشياء
عرف سكان مدينة صغيرة عن طريق جواسيسهم أن أعداءهم يجهزون الجيش وسيهجمون على مدينتهم بعد شهر، هنا ستكون لديهم فرصة ذهبية بأن يبدؤوا بترميم الحصن المحيط بمدينتهم، لكن المشكلة أن إمكانياتهم قليلة، وبالرغم من ذلك فقد جمعوا أقل إمكانيات ممكنة بالكاد تكفي لترميم الحصن. ولكن مجموعة منهم ستظهر وتطالب بأن يقتطعوا جزءًا من الإمكانيات التي جمعوها والتي بالكاد ستكفي، لتوسيع المسجد.
من يطالبهم بذلك إما أنه خائن ومتعمد أن يهدر إمكانياتهم ويساعد أعداءهم على دخول المدينة، أو جاهل، وفي كلتا الحالتين هو ليس أهلًا لأخذ الرأي منه.
ما الذي سيستفيد منه السكان لو قاموا بتوسيع المسجد، وبعد شهر استطاع أعداؤهم اقتحام المدينة واستولوا عليها وحولوا المسجد لاستراحة لهم؟
هذه النقطة توصلنا لسؤال مهم: ما الذي يعطي للأشياء قيمة؟ ما الذي يجعل فعلًا ما جيدًا وفعلًا آخر سيئًا؟ هل ذات الفعل نفسها؟
"بسمة" مثلًا تسير في الشارع ورأت فتاة صغيرة مسكينة، وستقرر إعطاءها بعض المال، هل هذا فعل جيد أم سيئ؟ بالطبع جيد! حسنًا ماذا لو ترتب على هذا الفعل أن أهل الفتاة الصغيرة بعد أن رؤوا ذلك قرروا أن يستغلوا ابنتهم في التسول مدى الحياة ويحولوها لمصدر دخل لهم! بذلك يكون الفعل الأول جيدًا أم سيئًا؟
هناك الكثير من الأمور تكون جيدة وبريئة لذاتها، ولكن ليس بالضرورة أن تكون نتيجتها مفيدة! يمكن أن تكون مضرة والحكم على الشيء من خلال ذاته فقط هو نظرة ضيقة وغير دقيقة.
التجارة
بسبب وسائل التواصل الحديثة لم يعد الاستحمار شخصيًّا، بل أصبح الموضوع يشبه الفيروس؛ فلو تم إصابة مجموعة صغيرة، سيقومون بنقل العدوى لأصحابهم وينتشر الاستحمار في وقت بسيط، ويتحول الشخص لمصاب وناقل للمرض، ويصبح جنديًّا في الجيش المضاد من دون أن يعلم.
بداية من رسائل تُنشر على غرار تحداني يهودي، وبقية الرسائل الساذجة مثل امرأة شاهدت رؤية في المنام والشخص الذي رفض النشر لـ ٩ أشخاص سمع خبرًا يحزنه، وصولًا إلى الرسائل المعقدة أكثر، واللعب على العواطف القومية والدينية واستغلالها تجاريًّا في الإعلانات وفي قنوات التلفاز وفي الجرائد والمواقع وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي.
نصف العلم
"ناجي" و "شادي" كل منهما تعطلت غسالته في الوقت نفسه. "ناجي" لا يعرف أي شيء عن تصليح الغسالات فلن يحاول أن يصلحها وسيستأجر شخصًا مناسبًا ليقوم بالمهمة تلك. على عكس "شادي" الذي يعرف القليل عن تصليح الغسالات، وهنا تكمن المشكلة لأنه يعتقد بأنه يعرف كل شيء عنها مع أنه في الحقيقة لا يعرف كل شيء، هذا سيجعله يفك الغسالة بنفسه ويحاول تصليحها، عناده وغروره سيشعرانه بأنه غير محتاج لأي مساعدة وأن علمه شامل وأنه عارف وفاهم لكل شيء، وفي النهاية سيخرب الغسالة أكثر مما كانت.
"ناجي" يمثل الإنسان الجاهل و"شادي" يمثل الإنسان نصف المتعلم ونصف المثقف. المجتمع الجاهل يشعر بالجوع وسيبحث عن الطعام، ولكن المجتمع نصف المثقف يشعر بالشبع ولن يهتم بأن يكمل نصفه الثاني الفارغ، لأنه يشعر بأنه ختم العلم ويكون واثقًا من كل المعلومات التي يعرفها.
الخاتمة
كان هناك عصابة تقوم بخطف الناس وسرقة أعضائهم، ولكنها كانت تعاني مشكلة واحدة، وهي أن أعضاء العصابة في كل مرة يحاولون فيها فتح بطن الضحية كان ذلك الشخص يقاومهم مهما كتفوه.
إلى أن يتوصل زعيم العصابة للحل! خدر المخطوف قبل العملية وستتمكن من سرقة كل الأعضاء التي تريدها بمنتهى السهولة. الاستحمار مثل التخدير يمنعك من الإحساس بالذي تم استهلاكه منك، لن تشعر بالجزء الذي يتم التهامه كل يوم وسيجعل الشخص متخدرًا لا يعرف من يكون وما الذي يفعله وما هو هدفه من الحياة!! فيعيش حياة في منتهى العبث بدون عقيدة شخصية.
الحل الوحيد بالنباهة بعدم الإحساس بالإشباع الفكري بعدم الاقتناع بالوصول لمستوى معين في المعرفة، بالبحث والسعي طول الوقت.