كتاب فن التفكير بوضوح

Book-Cover

كتاب فن التفكير بوضوح (المؤلف: رولف دوبلي)

في قديم الزمان كان هناك رجل يعيش في بيئة بدائية، عدد الناس من حوله قليل والمواقف بسيطة، باختصار كانت حياته نفسها خالية من التعقيدات في أخذ القرارات لأن الخيارات كانت قليلة.

مع تطور الحياة ازداد عدد الناس من حوله وازدادت المواقف تعقيدًا، ومع كثرة التعقيدات تلك، ازدادت فرصة ارتكابه لانحرافات منهجية في طريقة تفكيره، وهذا الموضوع لا يرتبط كثيرًا بمدى ذكائه. 

العالم والمحامي

عقلنا لا يقوم بدور العالم الموضوعي الذي يبحث عن الحقيقة المجرّدة، أنه معظم الوقت مجرّد محامٍ لا يكترث جدًّا للحقيقة، بقدر ما يحاول إيجاد تبريرات على قراراته التي أخذها بشكل فطري بصورة مسبقة. 

التنافر المعرفي

في أحد الأيام كان الثور يتمشى مع أصدقائه في الغابة، وفي طريقهم وجدوا تفاحًا جميل الشكل على شجرة، ذهب صديقنا الثور إلى الشجرة وحاول قطف التفاح، إلا أنه كان بعيدًا ولم يستطع الوصول إليه. وبعد نصف ساعة من المحاولات الفاشلة سئم الثور، والتفت لأصحابه وقال لهم: طالما أن التفاح بهذا العلو إذًا فبالتأكيد أنه لم ينضج بعد، وبما أنه لم ينضج بعد فبالتأكيد أن طعمه مُر، وأنا لا أحب الطعم المُر.

الصراع

يوجد داخل الثور صراع وتناقض في الرغبة، التفاح الذي يرغب فيه والنتيجة التي حصل عليها التي هي عدم الحصول على التفاح. لكي يستطيع الاستمرار في حياته بشكل طبيعي يجب أن يحلَّ هذا الصراع، ولكي يفعل ذلك أمامه ثلاثة اختيارات:

  • الأول أن يستطيع فعليًّا الوصول إلى التفاح.
  • الثاني أن يعترف لنفسه بأن قدراته ليست كافية للوصول إلى الهدف.
  • الثالث أن يعيد تأويل الموقف كله، وهذا ما فعله.

الخطأ الذي وقع فيه وتحديدًا حالة خداع الذات هذه منتشرة بصورة كبيرة نوعًا ما؛ فهذا الرجل فشل في الحصول على الوظيفة نراه يقنع نفسه بأنه منذ البداية لم يكن يرغب في تلك الوظيفة؛ عوضًا أن يعترف بأنه ليس مؤهلًا كفاية لها، وذاك الآخر اكتشف بعد أن اشترى سيارة أنها ضيقة وصوتها عالٍ ومقاعدها غير مريحة، فبدلًا من أن يعترف بخطئه بأن اختياره كان سيئًا منذ البداية بدأ بمنتهى الجدية بالتبرير لنفسه أن الصوت العالي والمقاعد غير المريحة لها فوائد كثيرة كأن تمنعك من النوم في أثناء القيادة، وتحميك من هذا الخطر الكبير!

تأثير الهالة

لو أن شركة حققت نجاحًا كبيرًا سنجد الناس يتكلمون عن طاقم الشركة بكل إعجاب وعن مدى إبداعهم وتفوقهم وعن أنهم ينجزون كل شيء على أتم وجه وعن إستراتيجياتهم العبقرية. لو تركناهم وعدنا إليهم بعد سنة، وبفرض أن الشركة خسرت نصف قيمتها، سنجد الناس أنفسهم يشتمون هذه الشركة ويتهمونها بعكس الصفات التي كانوا يصفونها بها.

 بالرغم من أنه لم يتغير شيء في ذات الشركة بذات الموظفين وذات طريقة العمل كل شيء على حاله.

لكن لماذا يحصل هذا؟

لأننا نسمح لجانب واحد من الحكاية بأن يبهرنا، يبهرنا لدرجة أن يعمي عيوننا عن رؤية الصورة كاملة. الناس هنا سمحوا لأنفسهم بأن ينبهروا بالنجاح الذي حققته الشركة وأرجعوا ذلك النجاح لعوامل داخل الشركة نفسها من دون أن يحاولوا التأكد من صحتها.

تأثير الهالة يظهر عندما تحب شخصًا ستجده مثاليًّا وجذابًا بطريقة غير عادية، بالرغم من أن الناس يرونه عاديًا كبقية الناس. كما أنه يظهر في المثال المقبل. إعلان لشامبو يقوم به لاعب كرة ناجح ويقول بأن هذا هو أفضل نوع شامبو، ما الذي يدفع الناس لتصديقه واتباع نصيحته في مجال بعيد عن اختصاصه، السبب هو شيء واحد: نجاحه، أجل نجاحه يحيطه بهالة، ويعطي من حوله إحساسًا بأنه متفوق وناجح في كل شيء.

انحياز المصلحة الذاتية

هذه السيدة تتحدث مع أختها على الهاتف وكلّها فخر بابنها والإنجاز الذي حققه. وفي قرارة نفسها ترى بأنها صاحبة الفضل عليه، وأن الجزء الأكبر من نجاحه سببه تربيتها ومجهوداتها العظيمة في توفير بيئة مناسبة له، لكن لو أن ابنها فشل أو اقترف مصيبة ما، هذه الأم لن ترى الموضوع على أنها أم فاشلة بل لن ترى أبدًا أنه ذنبها أو مسؤوليتها، التقصير هذا لا يخصها مع أنه لا تزال لدينا ذات المعطيات القديمة. الذي حصل اسمه انحياز المصلحة الذاتية.

التفلسف

هناك صورة منه تظهر بشكل أقل وضوحًا، أنا مثلًا اليوم حصلت على الدرجة النهائية في امتحان ما، سأبدأ بعد الامتحان أتحدث عن هذا الامتحان بأنه يقيس معدل الذكاء، وكيف أنه امتحان عبقري ولا يستطيع أي شخص تحصيل الدرجة النهائية فيه. لكن لو أن الامتحان نفسه حصلتُ فيه على درجة سيئة سأقول بأن هذا مجرد امتحان عادي كبقية الامتحانات ولا داعي للاكتراث لأمر بالنتيجة. سأفلسف ما حققته وأعطيه صفة وأهمية بصورة مبالغ فيها، ومن ثم أصدق ما قلته.

 الانحياز أيضًا يظهر بصورة واضحة في الخلافات، لنراقب هذين الزوجين في موقف خلاف بينهما، سيكون كل طرف منهما مقتنعًا بأنه يقدم للعلاقة عطاءً أكبر بكثير من الآخر، كل طرف يبالغ في تقدير دوره. 

التفكير المستحث

اليوم اشتريتُ بيضة وبعد بضعة ساعات فقست فرخ بط صغير! أخذتُ هذه البطة الصغيرة وبدأتُ أرعاها وأضع لها الماء والحب كل يوم، كانت في البداية تخاف مني، ولكن مع الوقت وتكرار الرعاية التي أقدمها لها اختفت شكوكها وأصبحت تثق بي بشكل مطلق. بعد مدة من الزمن كبرت البطة وصار عندها قناعة أوصلتها لاستنتاج بأني شخص طيب يقدم لها الرعاية إلى أن جاء يوم واندهشت جدًّا بأنني آخذها كي أذبحها وآكلها.

المشاهدات السابقة

الخطأ الذي وقعت فيه البطة اسمه التفكير المستحث، فيه نجمع ملاحظتنا الفردية عن الحياة، ونستخلص منها ثوابت عامة ونتعامل معها على أنها ثوابت فعلًا. 

ولنفترض بأنني أمارس رياضة خطرة، ألعب قمارًا وآخذ قرارات بمجازفة كبيرة جدًّا والأمور تسير على ما يرام. حققت نجاحات كثيرة لعدّة سنوات، وذلك ولّد عندي قناعة بأنني معصوم فعلًا من الخطأ أو أنني محظوظ جدًّا أو بأنني مؤيد بطريقة ما، لأنه لدي العشرات من المرات التي مررت بها و مئات التجارب لصالحي، لكن النقطة الفاصلة هنا هي ليست بالعدد؛ فلو مشيت مئة مرة على حافة جبل ونجحت بذلك، مرّة واحدة عاثرة ستكلفني حياتي. ملاحظة واحدة سلبية فقط كفيلة بهدم نظريتك التي أكدتها بمليون مشاهدة سابقًا. 

انحياز الفعل

نحن الآن في ملعب نشاهد مباراة لكرة القدم والمباراة على وشك الانتهاء، النتيجة الآن ٢-٢ وقبل نهاية المباراة بعدَّة ثوانٍ حصلت ضربة جزاء لأحد الفريقين، دعونا نركّز انتباهنا على حارس المرمى، الحارس لديه ثلاثة احتمالات متساوية بصورة إحصائية.

الكرة سوف تُرمى لجهة اليمين أو الشمال أو الوسط، وعلى الرغم من أنه لا يعرف لأي اتجاه ستذهب الكرة؛ فالحارس وبنسبة كبيرة سيرمي نفسه لجهة اليمين أو الشمال، ومن النادر جدًّا أن يظل واقفًا في المنتصف. لكن لماذا يحدث ذلك؟

بفرض أنه فشل في التصدّي للكرة، فشله بعد أن يرمي نفسه للجانب الخاطئ أفضل وأقل إحراجًا من فشله في صدّها وهو متجمّد في مكانه وينظر للكرة المتوجّهة نحو اليمين أو الشمال. 

ما قام به اسمه انحياز الفعل، فعندما تواجه موقفًا جديدًا أو أنك لا تعرف ما الذي يجب عليك فعله فإنك تميل لأن تقوم بأي تصرّف، بل تختار التصرّف الأكثر نشاطًا حتى لو لم يكن له داعٍ.

القياس بحجم النشاط

هذا الطبيب مثلًا كان في بداية مزاولته لمهنته يتصرّف وفقًا لما تستدعيه الحالة ووفقًا لخطورة المرض، ولكن بعد مدّة انتبه لأن المرضى لا يثقون به ولا بمهارته إلّا إذا قام بفحص المريض بكلّ الأجهزة الموجودة حتى لو أن الحالة لا تستدعي ذلك، ولكن هذا التصرّف يطمئن المريض ويُشعره بأن الطبيب يفعل شيئًا حيال مريضه. 

إذًا؛ فالموضوع يُقاس بالنشاط وبأننا ننحاز دائمًا للفعل الأكثر نشاطًا، وخصوصًا في المواقف غير الواضحة نسعى لأن نقوم بأي فعل سواء كان ذلك سيساعدنا أم لا ونحس بعد ذلك بشعور أفضل، حتى لو أن الوضع لم يتحسّن.

راقب نفسك وأنت تمارس هذه المغالطة؛ فعندما يكون الموقف غير واضح لا تفعل شيئًا إلى أن تتمكن من تقدير الموقف بصورة أوضح. 

السببية المضلِّلة

هذان الزوجان أنجبا ما يقارب العشرين طفلًا، وخلال حياتهما لاحظا شيئًا غريبًا. أنه طالما هناك قمل في رأس الطفل؛ فيكون الطفل سليمًا وبصحة جيدة، وما أن يختفي القمل من رأسه فإنه يصاب بالحمى والمرض. على الرغم من غرابة الموضوع فإنه تكرر أمام أعينهم عشرات المرات ولم يعد لديهما مجال للشك. بهذا فقد اقتنع الزوجان بأن طريقة العلاج لمرض أطفالهما بأن يضعا القمل في رؤوسهم وكذلك لحمايتهم من الأمراض.

ما حصل اسمه السببية المضللة. هنا فعلًا ملاحظتهما دقيقة وحقيقية في موضوع القمل لكنّهما فسرا الموضوع بطريقة خاطئة.

القمل يعيش في شعر الطفل طالما أنه سليم، لكن بمجرد أن يبدأ بالمرض وترتفع درجة حرارته وذلك يرفع حرارة أطراف القمل فيهرب تاركًا شعر الطفل لأنه لم يعد بيئة مناسبة له. ذلك كان تفسير الموضوع وليس أن غياب القمل هو ما يسبب المرض ولا أنّ وجوده يحمي الطفل مثلما كانا يعتقدان!

الكتب وذكاء الطفل

حسنًا، إذا كنت ترى أن المثال السابق كان ساذجًا والأسرة كانت ساذجة وغير واعية؛ فيمكن أن نُعقّد الحكاية قليلًا. في دراسة حقيقية طُبقت على عدد كبير من الأطفال وجدوا بأن الأطفال الذين يحققون درجات عالية في المدرسة أو أنهم ناجحون في الحياة بصورة عامة كانوا يشتركون بأنهم جاؤوا من بيت غني بالكتب.

الناس استنتجوا من الدراسة تلك بأن الكتب ستزوّد مدارك الأطفال وستنمّي ذكاءهم وستجعلهم ناجحين بصورة عامة، وبذلك فلو أردتُ زيادة فرص نجاح أطفالي فليس عليَّ سوى أن أجلب الكثير من الكتب بحيث تظل بقرب الأطفال بشكل دائم. يمكننا القول بأنني هنا وقعت في السببية المضللة تمامًا مثل قصة القمل والأطفال.

فلو نظرنا إلى رجل ذكي ومثقف. عندما يصبح هذا الرجل أبًا فسيرث الأطفال جيناته المتعلّقة بالذكاء وأيضًا هو سيعلّمهم ويربيهم بطريقة تسمح لهم بالتفوق وأيضًا عن طريق الصدفة البحتة الأطفال سيكبرون في بيت مليء بالكتب، قام والدهم بشرائها لأنه يحبّ المطالعة. هل نعتبر بأن الكتب هي التي شكّلت الفرق؟ لا الكتب هنا ربما تظهر وكأنها السبب الواضح، بينما السبب الحقيقي هو الجينات والتربية.

إهمال المعدل الأساسي

"حنفي" رجل نحيف الجسم ويلبس نظارة سميكة، شعره مبعثر ومغرم بسماع الموسيقى. هل تتوقع بأن يكون حنفي سائق سيارة أجرة أم أنه فنان تشكيلي؟ 

كثير من الناس ستميل بأن تختار أنه فنان تشكيلي، مع أنه إحصائيًّا فإن عدد سائقي الأجرة أكثر مئة مرة من عدد الفنانين التشكيليين، وبصورة حسابية بسيطة فإن احتمالية أن يكون الأول أكبر بكثير من نسبة أن يكون الثاني إلا أننا نميل للثاني.

خطأ التفكير هذا اسمه "إهمال المعدل الأساسي".

تعالوا نتخيل أننا دخلنا محاضرة لطلبة إدارة أعمال وسألنا الطلبة الذين هناك: أين ترى نفسك في المستقبل؟ 

المعدّل الأساسي

سيجيب معظمهم بأنهم سيكونون مديرين لشركات دولية خلال السنوات القليلة المقبلة. هذا الحماس جميل وليس لديَّ أي اعتراض عليه، لكن بصورة إحصائية واعتمادًا على البرنامج الدراسي الذي يتعلمونه فإن نسبة أن أحدهم سيكون مديرًا لشركة دولية هي أقل من ١ بالمئة وبصرف النظر عن ذكاء الطالب أو طموحه. السيناريو المرجّح هو أنه سيكون موظفًا عاديًا في شركة عادية.

أنا لا أقول لك بأن تحلم أحلامًا متواضعة؛ بل على العكس تحمّس واحلم بالنجوم، لكن ضع في حسبانك دائمًا المعدّل الأساسي ولا تتجاهله. 

عندما تستثمر كل مالك في مشروع صغير، مشروعك الصغير الواعد الذي بكل تأكيد سينجح هو شيء جميل طبعًا؛ لكن وفقًا للإحصائيات فإنه ٨٠ بالمئة من الشركات الناشئة تُقفل وتتعثر ولا تكمل في أول خمس سنين، ذلك هو المعدّل الأساسي. احلم بكل ما تريده؛ ولكن كنّ واقعيًّا بأحلامك وضع هذا المعدّل بحسبانك ولا تتجاهله وكأنه وُجِد لأجل أناس آخرين ولن يطبق عليك صديقي!

انحياز السفينة الناجية

هذا الشاب موهوب في كرة القدم ودائمًا ما يسمع حكايات عن لاعبي الكرة وعن حياتهم المترفة ومرتباتهم التي قد تصل لملايين الدولارات، وبالإضافة لذلك نظرة الناس لهم على أنهم أبطال، ولأجل كل ذلك قرر هذا الشاب أن يترك الدراسة بالكامل وأن يتفرّغ لاحتراف اللعب. 

السفينة الناجية

 هنا وقع في مغالطة مشهورة اسمها السفينة الناجية؛ لنوضّحها بهذا المثال: لدينا عشرة آلاف لاعب محترف أو ممن يمتهن الكرة كوسيلة لكسب الرزق، لكن الأخبار لا تسلط الضوء إلا على خمسين واحدًا منهم! الخمسون الأكثر تميزًا هم فقط من استطاعوا الوصول من بين العشر آلاف لاعب، وصلوا إلى مستوى المعيشة المرفه والذين يظهرون على أنهم الأشخاص الطبيعيون في تلك الشريحة من المجتمع إلا أن ذلك مجرد وهم.

 الاحتمالية الأكبر أن ذلك الشاب سيصير حاله في نهاية المطاف حال أي لاعب عادي ويعيش حياة عادية، متواضعة وفرصة كونه من بين هؤلاء الخمسين فرصة ضعيفة جدًّا.

وراء كل رائد أعمال ناجح يوجد مئة رائد أعمال متعثر، وراء كل كاتب ناجح هناك ألف كاتب كتبهم لا تُباع، وراء كل ممثل ناجح هناك ١٠ آلاف ممثل لم يستطيعوا الحصول على فرصة. وفي معظم الأوقات يصل إلينا جانب واحد من الصورة، الجانب المميز. 

لذلك قبل أن تأخذ قرارًا تأكد من أنك ترى الوضع بصورته الحقيقية، وإلا فستبالغ في تقدير الفرص.