كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

Book-Cover

كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد (المؤلف: عبد الرحمن الكواكبي بن أحمد)

جمعنا بعض الأشخاص بصورة عشوائية واتفقنا معهم أن يشاهدوا فيلمًا تدور أحداثه في مدينة بعيدة، الحياة فيها مختلفة قليلًا، بعد انتهاء الفيلم سنطلب منهم أن يصفوا ما المرض أو المشكلة التي جعلت المدينة في الفيلم بهذا السوء، وبأن يخبرونا ما العلاج أو تصورهم المناسب للحل، سنجد بأن كل شخص منهم يرى المشكلة من وجهة نظره، ويفسرها اعتمادًا على خلفيته وميوله.

من المحتمل أن تجد أحدهم يرى بأن مشكلة المدينة، أن الناس فيها غير متحررين، والحل هو مزيد من التحرر، وتجد الشخص الذي يجلس بجانبه يرى بأن مشكلة تلك المدينة أن أهلها لم يكونوا محتشمين والحل في مزيد من الانضباط.

وهكذا كل شخص مقتنع بفكرة أو نظام سياسي معين سيستخدم مشكلة تلك المدينة ليثبت وجهة نظره ويرى بأن مشكلتها قائمة لأنهم لا يطبقون أفكاره.

كتاب اليوم على الرغم من أنه كُتِب من أكثر من ١٠٠ سنة في ظروف قد تبدو بأنها مختلفة عن مدينة الفيلم؛ فإن "الكواكبي"، الرجل الذي كتب الكتاب لديه وجهة نظر عن مرض المدينة الحقيقي وكيفية تأثيره في تخلف جوانب الحياة فيها، حتى إن ظهر بأنهم غير مرتبطين ببعض، "الكواكبي" يرى بأن المرض الحقيقي هو الاستبداد.

الاستبداد

بداية ما الاستبداد؟

 الاستبداد هو التصرف بغير حساب.

فرضا بأننا نراقب بلدًا صغيرًا يحكمه فرد أو جماعة أو حتى تحكمه أمة استعمار مثلًا، المهم سواء هنا أو هنا أو هنا الاستبداد هو السلطة المطلقة سلطة تتحكم في الناس بمزاجها بدون أي مراقبة عليها أو حساب.

هذه السلطة تستخدم طريقتين لتفعل ذلك:

  • الجهل
  • الضعف

من الطبيعي أن من يتعرض للاستبداد تكون فيه الصفتان السابقتان وتلازمانه دائمًا.

طالما أنه ضعيف فسيظل مأمون الجانب لن يستطيع فعل شيء حيال مستبده، وطالما أنه جاهل لن يعرف قدراته التي يمتلكها وماذا يمكنه فعله بتلك القدرات.

الاستبداد والعلم

كان هناك ثلاثة أطفال صغار. مات أبوهم وأمهم بحادث وتركا لأطفالهما مالًا كثيرًا، ولكن بحكم أنهم لا يزالون صغارًا سيكون عمهم وصيًّا على مالهم. 

وللأسف عمهم لص، وكي يستمر في سرقة مال الأطفال. يهمه جدًّا ألا يكبر هؤلاء الأطفال ويظلوا ضعفاء ومعتمدين عليه ولا يعرفون شيئًا عن مالهم.

المستبد كذلك يهمه أن يعيش الشعب في الظلام لا يعرف شيئًا.

تجاهل العلم

لذلك سيحارب المستبد العلم أو يمكننا أن نستخدم بدلًا من كلمة يحارب، يتجاهل العلم ولا يكترث به، لأنه سيرى بأن سلطته ستضعف كلما زاد العلم، والعلم هنا لا أقصد به علوم اللغة مثلًا التي لن يجد المستبد مشكلة معها بل العلوم التي يأتي منها معرفة يمكن أن تغير المجتمع، سيظل محتكرًا لمعرفة طريقة تشغيل وعمل الآلة.

الاستبداد والدين

المستبد عمله سيكون أسهل بكثير لو استطاع أن يأخذ صفة دينية، وسيستخدم رجال الدين خاصته كي يساعدوه في هذا الأمر بحيث يطلبون من الناس الصبر والاحتمال. 

فلو قام المستبد بفعل جيد فهو يستحق الشكر والحمد، ولو قام بعمل سيئ وأثر ذلك في الناس بطريقة سيئة للغاية، عندها يجب أن يصبروا لأنه بكل تأكيد هنالك حكمة من وراء ذلك عامة الناس لا يعلمونها.

وكما كان المستبد لا يهتم بكل العلوم بل مشكلته فقط مع العلوم التي تؤدي لتغيير، فهو كذلك ليس لديه مشكلة مع العبادة بحدّ ذاتها، مشكلته الأساسية تظهر إذا وُجِدت تشريعات تواجهه وتهدد وجوده، فسيحاربها أو على الأقل سيخفيها ويمنع الناس من التحدث عنها، أما العبادات نفسها فلا تهدده لذلك لا يكترث لأمرها.

الاستبداد والمجد

كان هناك عالم مشهور، اخترع دواء ساعد الناس في حياتهم، وهذا العالم يرتدي نظارة كبيرة وشعره دائمًا مبعثر.

كانت هيئته مميزة ولم يكن يتعمد الظهور هكذا إلا أن هيئته كانت نتيجة لطبيعة حياته، النظارة الكبيرة لأن نظره أصبح ضعيفًا بسبب المتابعة، والشعر المبعثر لأنه لم يكن لديه الوقت لتسريحه. المهم؛ الناس ستربط تقليد هيئته تلك بالإنجاز الذي حققه.

بعد زمن سيأتي رجل آخر ويتمنى أن يحصل على تقدير الناس مثل ذلك العالِم وأن يُنظَر إليه بالنظرة نفسها بالرغم من أنه لم يحقق شيئًا يستحق الثناء ولن يستطيع تقليد العالِم بإنجازاته فيقلّده بالمظهر الخارجي! سيجعل شكله يبدو تمامًا كشكل ذلك العالم.

التصنع

 من الطبيعي أن كل إنسان يسعى للمجد، أنْ يحبَّه الناس وأن يحترموه، ولكنَّ المجد هذا يكون مقابل إنجاز حققه في حياته.

المستبد يرغب بالمجد ولكنه لن يقدر أن ينجز أمرًا يمجد اسمه بين الناس، لذا يتصنّع المجد ويصرف المبالغ الطائلة لتمجيد نفسه في البذخ والأبهة وسيهتم بالمباني والبهرجة بغض النظر عن الأولويات وعن حجم دولته أساسًا. لا يكترث أبدًا وينفق أموال الشعب على المظاهر الكاذبة لأن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يحقق من خلالها المجد من وجهة نظره.

الاستبداد والمال

الاستبداد يُفقِد الثقة بين المستبد وشعبه، وبسبب أن الناس لا تثق بالحكومة سيحاولون بكل السبل إخفاء أخبارهم عنها وخصوصًا أموالهم.

الناس سيتظاهرون بالفقر ويخفون أموالهم وكل مظاهر النعيم بشكل عام، لأن من يُعرَف عنه بأنه غني سيكون من المفروض عليه دائمًا أن يقدم فروض الطاعة والولاء وإلا سيعيش مهددًا في كل لحظة بأن يخسر كل شيء.

الاستبداد والإنسان

المستبد يُهمّه دائمًا أن يتذلّل الشعب له كي يقضي له مصالحه وحوائجه أو كي يحصل على حقوقه، فمثلًا إذا قام أحد رجالات النظام بظلم شخص ما فأقصى ما سيرد به النظام هو تعويض المظلوم بدون أي تفكير في حل أصل المشكلة نفسها، فيقع الظلم مرة ثانية وثالثة وعاشرة كي يبقى دائمًا ولي نعمة الشعب ويمنّ عليه كل فترة وأخرى.

الاستبداد والأخلاق

مرّ شخص اسمه "عادل" بالقرب من رجل يعتدي على سيدة بالضرب في الشارع! من الطبيعي أن يتدخل عادل ويمنع الرجل من ضربها.

الفعل الذي سيقوم به يندرج عنده تحت بند الدفاع عن الضعيف، إذا أردتُ أن أغيّر سلوك عادل وأمنعه من فعل ذلك ثانية، أحتاج إلى خطوتين:

الخطوة الأولى: التسمية

 بدلًا من تسميته ذلك السلوك بدفاع عن الضعيف سأسميه تطفلًا أو تدخلًا في شؤون الآخرين مثلًا.

الخطوة الثانية: التكرار

هو في البداية سيستنكر عدم فعل ذلك، ولكن مع الوقت الصفة الجديدة ستترسخ عنده تمامًا.

وبذلك أكون نجحت في أن ألغي صفة لم أكن أريدها في عادل، وأضع بدلًا منها صفة أريده أن يتّصف بها.

 ما الذي يفعله المستبد حتى يبدل أخلاق الناس؟

يسمي الصفات بغير أسمائها؛ فالمتظّلم الذي يسعى لأخذ حقه سيكون فاجرًا مخرِّبًا يثير المشكلات، والذي يسكت عن حقه، إنسان حكيم صالح ويفهم الأمور، المنافق سيكون سياسيًّا والصريح وقحًا وهكذا، ومن ثم يكرر هذه الخطوة مرارًا وتكرارًا إلى أن تتثبت الصفات تمامًا.

ما العلاج إذًا؟

أولا: العلم والمعرفة 

بالطبع لن يكترث أحد بالعدالة لو أنه مقتنع بأننا نعيش في غابة وأن الحياة عبارة عن قوي له كل الحقوق وضعيف يجب أن يطأطئ رأسه. بالعلم والمعرفة نسطتيع الوعي بالمرض والإحساس بوجوده!

ثانيا التدرّج

الاستبداد يقاوم بالحكمة والتدرج بالعقل وليس بالشدة- لن تتمكن الثورات ولا الإضرابات أبدًا من الإطاحة بالمستبد-.

مقاومة الاستبداد بالارتقاء، ترقي الفرد وترقي الأمة كل شخص يبدأ بنفسه وبمن له سلطة عليهم، بأن يهتم بالحقوق، حقوق الناس، يراعي الآداب ويتجنّب الاستبداد هو شخصيًّا يهتم بأخلاقه، والموضوع سينتقل منه للأشخاص المحيطين به ومن حولهم إلى أن يرتقي الفكر العام كله.