كتاب الإنسان المهدور

كتاب الإنسان المهدور (المؤلف: مصطفى حجازي)
فى مكان بعيد ما؛ كان أي طفل يولد الناس هناك يعطونه درعًا من الفضة، هذا الدرع كان يلازم الطفل من ساعة الولادة إلى أن يموت وكان له وظيفة وحيدة، هي الحماية. أي شخص يراه مرتديًا الدرع يعرف مباشرة بأنه فرد معترف به من قبل المجتمع، معترف بوجود قيمة وكيان له، وذلك يجعله شخصًا محميًا، له حقوق ومحصَّن، بدون الدرع يمكن أن يتعرض للاعتداء بأي صورة، إلى أن يأتي يوم وشخص من المجتمع- اسمه "فرج"- سيطبق عليه عملية هدر، سيسحب منه الدرع فيتحول من إنسان محمي وله حقوق، إلى شخص خارج الكيان الإنساني لا يملك أي حقوق، المجتمع لا يعترف بوجوده وأي أحد يمكنه الاعتداء عليه بدون أي مساءلة قانونية أو أخلاقية، هذا باختصار تعريف الإنسان المهدور.
في مجتمعاتنا "فرج" هو الوضع الافتراضي، فيتم ممارسة ما يسمى بالهدر الجماعي على الناس من أول مراحل الطفولة عندما يولد الأطفال بدون أي اعتراف بوجود كيان إنساني لهم، هدر بداية من عدم الاعتراف بإمكانيات الناس وإرادتهم الحرة وتقرير مصيرهم بأنفسهم، ووصولًا لإباحة الدم.
الإنسان المهدور يمكن أن ينتصر في معركة عسكرية، لكن في معركة البناء من الصعب جدًّا أن ينجح، ولذلك التعرف على طبيعة مشكلته ومحاولة علاجها يعدُّ مدخلًا لحل مشكلات المجتمع مع التخلف والتنمية. يختلف التعرض للهدر على حسب الفئة التي ينتمي لها الشخص، ولكن يوجد ثلاث فئات واضحة:
التعرض للهدر
- هدر الطفولة
هدر الطفولة، فبدلًا من رعاية الأطفال يتم هدر إمكانياتهم وقمع إبداعهم العفوي في قوالب جامدة مبرمجة مسبقًا تنظر لهم على أنهم ليسوا أكثر من أدوات لتحقيق طموح الأهل.
- هدر المرأة
هدر كيان المرأة وتحويلها لمجرد ملكية للعائلة وأداة للتواصل بين العائلات لا أكثر، وبالإضافة لأن الرجل كي يكسب شيئًا من التوازن التعويضي يسقط مشكلاته عليها.
- هدر الشباب
هدر الشباب- "جابر" لديه ابن عمره ٣٠ سنة ابنه بالرغم من أنه كبير في السن؛ فإن عقله عقل طفل صغير بعمر ١٠ سنوات، فهو لا يتحمَّل أي مسؤولية، يقضي كل يوم من حياته لاهثًا وراء متعة الحسّية. يشعر "جابر" دائمًا بالضيق من ابنه بالرغم من أنه هو السبب في تشويه وعيه، لأنه ربَّى ابنه بطريقة منعته من أن يشارك في تقرير مصيره، إذ كان يأخذ "جابر" كل القرارات عن ابنه؛ فمن الطبيعي أن يكبر هذا الطفل ولكن بجسده فقط وليس بكيانه.
لنفترض بأنني شخص أمثل السلطة في مكان ما، وبدلًا من أن أنظر للشباب على أنهم رصيدي الاستراتيجي وأسمح لهم بالمشاركة في صناعة القرار- مشاركتهم هذه هي التي كانت ستنمي لديهم حس المسؤولية تجاه وطنهم ومجتمعهم لاحقًا- لا بل سأدفعهم للظل وأهمشهم وأحرمهم من المشاركة فى صناعة مصيرهم، مصيرهم الجمعي سأحرمهم من أن يكون لهم قضية وطنية عامة تملأ حياتهم يبذلون فيها كل جهدهم، بل يمكن أن يضحُّوا بحياتهم في سبيلها، ونتيجة لذلك سيبحثون عن طرق أخرى يملأون بها وجودهم ويُغرقون أنفسهم بالمتع الحسِّية ومظاهر الاستهلاك، وفي النهاية سأتهمهم بعدم الجدية وعدم المسؤولية تجاه وطنهم ومجتمعهم.
مثلث الهدر
"شريف" كان عمدة بلد صغير ولكي يستطيع السيطرة على الناس، ويقوم بعملية هدر شاملة لكل الساكنين في المكان سيكوّن مثلث الهدر، الذي يحوي ثلاثة أركان:
المثلث
- الأول: يحوي على السلطة.
- الثاني: يحوي العائلات الكبيرة في البلد الذين يمثلون العصبية.
- الثالث: فيه رجال الدين المقربون منه.
الناس
من ثم يأتي لسكان البلد ويقسمهم لثلاث مجموعات:
- الناس (الأدوات).
هم أدوات العمدة الذين يستخدمهم لتحقيق أغراضه، بداية من حكواتي البلد الذي يمثِّل الإعلام، الذي يتغنى ببطولات وحكايات عظمة العمدة، وصولًا للغفير، الذي يمثِّل أداة الحكم المباشرة، وهذه المجموعة يوليها كل الاهتمام والرعاية.
- الناس (العقبة)
يمثلون مصدر التهديد، تضم أي مصدر تهديد للسلطة يمكن أن يشاركها معه أو ينازعه في الحكم بأي صورة. وهذه المجموعة يجب التخلص منها بمنتهى السرعة.
- الناس (العبء)
وهم بقية الناس، الشعب الموجود في المكان صدفة وليسوا من الناس الأدوات بشكل مباشر. سينظر لهم على أنهم عبء ليس لهم فائدة يأكلون بدون دفع أجر. ويتعامل معهم بإهمال وكأنهم غير موجودين. لو أن الأمر يرجع للعمدة فهو يتمنى بأن يستيقظ من نومه ويجد كل من في هذه المجموعة قد اختفى تمامًا من الوجود. ثم سينقل الناس للحيز البيولوجي.
ملء الفراغ
لكن هناك مشكلة! الناس لا يستطيعون العيش بالفراغ الوجودي هذا كما الحيوانات. المكان الفارغ يحتاج إلى شيء يملؤه وكل الأمور الطبيعية التي يمكنها فعل ذلك غير متاحة، إذًا لا يوجد أمام الإنسان المهدور حل غير استخدام أي شيء آخر لحشو هذا الفراغ.
سيهتم بالأمور التافهة الصغيرة ويعطيها أكبر من حجمها الحقيقي. سيهتم بالكلام عن نفسه لمجرد الكلام ويتغنى بالأمجاد اللفظية، ويستمد قيمته من الكلام الذي سيجد فيه حلًّا مجانيًّا، وعزاء يستر به اعتباره.
سيستقوى على من هم أضعف منه ويُسقِط عليهم ضعفه، سيهاجر هجرة نفسية أو مكانية ويبني حياته كلها على حلم الخلاص وأن الهروب هو الحل الوحيد، هذا إضافة لأنه سيكون محبطًا تمامًا، ويتجه نحو العنف والمغالاة والتطرف.
الهدر الذاتي
كان هناك سيرك يعاني عجزًا في عدد الحيوانات السيرك اشترى فيلًا وأسدًا صغيرين، وبدأ يدربهما كي يستخدمهما في العروض، سنبدأ أولًا بالفيل.
الاستسلام المتبلد
المدرب سيربط الفيل بوتد قوي جدًّا في الأرض بسلسلة قوية الفيل في بداية الأمر سيحاول بكل قوته فكَّ هذا القيد، ولكنه لن يقدر، بعد محاولات كثيرة فاشلة سيقتنع بأنه لن يتمكن من التحرر أبدًا، السلسلة أقوى منه وعندما يصل لهذه المرحلة، مرحلة الاستسلام المتبلد تمامًا! عندها لن يحتاج المدرب بعد ذلك لربطه بهذه السلسلة القوية بل يكفي أن يربطه بأي قيد، ولو كان مربوطًا بقدم كرسي، لن يحاول الفيل فكَّ قيده أبدًا.
ضبط السلوك
والآن لنراقب الأسد. المدرب سيمسك كرباجًا في يده وقطعة من اللحم في اليد الأخرى، ويطلب من الأسد طلبًا ما، فإن أطاعه سيحصل على قطعة اللحم، وإن عصاه سيضربه بالكرباج. المدرب سيضبط سلوك الأسد من خلال عملية اقتران شرطي، ويكرر الموضوع عدَّة مرات؛ وبعد ذلك لن يعود محتاجًا للكرباج لأن سلوك الأسد تمت برمجته لمدى الحياة.
إعادة إنتاج الهدر
تعرض هنا الأسد والفيل لعملية هدر في البداية، ولكنَّ المشكلة الأكبر أنهما بعد مدة من الزمن أعادا إنتاج الهدر بنفسيهما، حتى بالرغم من أن الهدر الخارجي لم يعد موجودًا، وتحول الهدر من هدر خارجي لهدر ذاتي اعتباطي.
نفترض بأنك تعرضت للهدر بأي صورة- هذا شيء سيئ بالطبع- وهو خارج عن إرادتك، لن تستطيع فعل شيء تجاهه ولكن بعد مدة من الزمن ستتواطأ على نفسك وتعيد إنتاج الهدر بنفسك. المشكلة، الجانب الأكبر منها ذاتي؛ راقب نفسك وتصرفاتك وقاوم تواطؤها مع الهدر الخارجي، وحاول تحصينها بالكفاءة النفسية والمعرفية.