كتاب قصة الحضارة

Book-Cover

كتاب قصة الحضارة (المؤلف: ويل ديورانت)

قصة الحضارة

الصيد


الشمس حامية، وقد مشيت طويلًا، بدأت أحس بألم في البطن، ما تعرفه أنت باسم "الجوع"، ماذا سأفعل.. ماذا سأفعل؟ ظهر أمامي غزال فاصطدته والتهمته، في اليوم التالي تكرر الأمر، وهكذا لمدة شهر؛ أجوع، أصطاد، آكل…

في أحد الأيام، والجو ممطر وأنا جائع، خرجت للصيد ولم أستطع؛ فقد اختبأت الحيوانات، بالنتيجة، جربت صعوبة أن أنام على الجوع، وتعلمت المبدأ الأول من مبادئ الحضارة، أي التفكير في المستقبل.

قبل ذلك كان تفكيري ينحصر في احتياجاتي الوقتية، تقع المشكلة ثم أفكر فيها، أما من الآن وتاليًا، فسوف أخصص جزءًا من يومي من أجل احتياجاتي المستقبلية، ومن هنا نشأ مبدأ التخزين.

الرعي


لم يكن هناك ثلاجات في هذا الزمن، فكانت الطريقة الوحيدة لحفظ لحوم الحيوانات هي بتركها حية.. المهم، عثرت على بضعة خراف وقبضت عليها، صنعت سورًا صغيرًا بقرب مكان نومي ووضعتها هناك، مع الوقت، أضفت لها بعض الدواجن وعدة أبقار… كان الهدف هو تخزين الحيوانات لتناولها لاحقًا، ولكني لاحظت أمرًا إضافيًّا يمكنني الاستفادة منه، البيض والحليب!

شيئًا فشيئًا تحول غرضي من تخزينها، من مجرد اعتبارها "طعامًا" سيؤكل لاحقًا إلى استنفاع من كل ما ينتج منه، وبهذا وجدتني أدخل مرحلة من الحضارة غير التي كنت فيها، تغيرت مهنتي من الصياد إلى الراعي.

الجماعة


ترافق مع مهنتي الجديدة متطلب مهم، الآن ليس باستطاعتي التحرك كالسابق، بأيام الصيد كان من السهل أن أحمل صيدي على ظهري وأنقله لأي مكان، الآن أحتاج إلى الاستقرار في موضع محدد لأتمكن من تربية الحيوانات، ذلك خدمني حضاريًّا ولكنه ترافق مع مشكلة.

الآن لو أنك تمساح أو أسد، فهل ستفضل أن تجري خلف طريدتك حتى تتقطع أنفاسك، مع احتمال أن تنجح بالهرب منك، أو أن تسطو على بيتي الذي فيه ما لذ وطاب من أطعمة وطرائد محبوسة في مكان صغير بحيث يسهل عليك افتراسها؟

يمكنك أن تتصور معاناتي من زيارات الحيوانات المفترسة غير المرحب بها، ولحل تلك المشكلة صرت بحاجة إلى تجنب العيش بمفردي. لا بدَّ من العثور على بشر آخرين أقيم بقربهم، ناس مثلي يواجهون التحديات عينها، هكذا سنتمكن من الدفاع عن أنفسنا، وبهذا نشأ نظام مصغر من المجتمع، أي المرحلة الثالثة من مراحل الحضارة.

الأسرة


طالما أننا سنعيش بجوار بعضنا بعضًا، ظهر موضوع يتسبب بمشكلات أخرى.. لو أنك سألت أحد الهمج قديمًا كيف التقى بامرأته، فسوف يتبين على الأرجح أنه عثر عليها وقام بخطفها ببساطة، ولا أسهل؛ تجد إحداهن فتروق لك، تذهب لمهاجمة جماعتها وأخذها عنوة، تأخذها من يد وتهرب بها.

نحن الآن في نظام مجتمع حديث التشكل ولم يعد من المناسب طريقة الزواج البدائية تلك وإلا ستكون أيامنا مليئة بالصراعات. توصل الآباء، وكبار الأسر، إلى نظام يفرض على من يرغب بالزواج من إحدى فتياتهم أن يخدم لديهم عددًا من السنين مقابل الحصول عليها. ثم تطور الأمر إلى استبدال شغل اليد بتعويض مادي يعادل سنوات العمل المطلوبة منه؛ فكرة عملية أكثر ومريحة للطرفين، عرفنا المهر.

الزراعة


الآن لدي زوجة تعيش معي، لاحظت زوجتي أمرًا غريبًا؛ قبل عدة أشهر كانت قد أوقعت حبة طماطم في أثناء دخولها إلى المنزل، انهرست فتركتها بمكانها ونسيت أمرها، واليوم انتبهت لشجيرة طماطم نبتت في مكان انسحاق حبة الطماطم، إذن وبدلًا من الخروج لجمع الثمار اكتشفنا أن بإمكاننا زراعتها بأنفسنا، وتدريجيًّا أخذت الزراعة تنتظم بشكلها الحالي.

في البداية كنا نترك الثمرة نفسها على الأرض، بعد ذلك عرفنا أن البذرة هي المسؤولة عن إنبات الزرع، فوضعناها، ولكن الطيور كانت تأكل بذوري كلما وضعتها على الأرض، أو يجرفها المطر بعيدًا. لحل ذلك توصلنا إلى أن نحفر ونخفي البذرة، ثم اكتشفنا أن الحراثة تزيد الخصوبة.

الزراعة تعدُّ مرحلة محورية في حياتنا أنا والمجموعة وكذلك الحضارة بالمجمل، أشعرتنا بالأمان تجاه المستقبل، ومنها أدركنا ما تعنيه الملكية الخاصة.

النار


في أحد أيام الصيف والحرارة شديدة، كان هناك بعض الأغصان المتروكة بإهمال أمام المنزل، وقد خرج منها شيء غريب أحمر اللون وأسميناه "النار". اكتشفت بعد ذلك أنها خرجت من الخشب لأن الهواء تسبب باحتكاكه ببعضه بسرعة، وقد تعلمت الحركة التي ولدت النار وصرت أستخدمها في أمور عديدة.

ساعدتني النار على تحسين طعامي، صار أسهل على الهضم. ساعدتني أيضًا على الوقاية من البرد وهذا غير شكل عالمي. هناك مواضع كثيرة كان قد راق لي الإقامة بها في الشمال، ولكني لم أستطع البقاء بها لأن شتاءاتها قاتلة وخصوصًا بالليل. أما الآن وبعدما صار لدي النار؛ صار بإمكاني العيش فيها بصورة دائمة.

التجارة


بعد مرور فترة من الزمن، أقبل يومًا عليَّ رجل غريب أحمر الشعر، أراد الحصول على شيء من المحاصيل التي أزرعها، وعرفت منه أنه يقيم بجانب البحر والأرض عنده ليست خصبة. مقابل عشرين كيلو من الملح الذي يستخرجه من البحر استبدلت عشرة من محاصيلي. درجت هذه الممارسة وبدأ يطبقها الجميع وسميت بالمقايضة.

المقايضة تعني أن كل من عنده سلع زائدة عن حاجته يبدلها بسلعة يحتاجها، وهكذا. ثم برزت مشكلة عندما ترغب بسلعة شخص لا يرغب بسلعتك، واحتجنا إلى سلعة وسيطة، كان المال ليحل المشكلة ولكن في ذلك الوقت لم نتوصل إلى ابتكاره بعد. جربنا القمح ولكن.. ماذا لو أنك ترغب بشراء بيت مثلًا وستدفع ثمنه طنًا من القمح، فكيف ستنقله؟ فكرة… المواشي؛ استخدمنا المواشي فهي تنقل نفسها بنفسها، شراء البيت بخمسين جملًا أسهل.

الطبقات الاجتماعية


مع هذا التمدن الآخذ في التشكل، ظهر مبدأ الملكية وترسخ بحيث جلب معه ظاهرة جديدة. الفروقات بيننا في السابق كانت تتعلق بكون أحدهم أضخم من الثاني أو أذكى؛ وهذا جعل الفروقات بسيطة ونتائجها تعتمد على قدرات كل منا، مثل أن يصطاد القوي غزالة قوية والضعيف يصطاد غزالة ضعيفة، هذا يجعلنا متساوين نوعًا ما.

مع ظهور الملكية بدأت الفروقات تتسع وتتضح أكثر، مثلًا مقارنة الذي يمتلك مئة حصان وخمسين بقرة وخمسمئة فدان من الأرض بشخص لا يمتلك كل هذا، تظهر كم هما مختلفان من ناحية أن من يمتلك أكثر هو الأكثر سلطة، ولديه الإمكانيات ليخضع له الجميع. هنا اختفت المساواة وبدأ المجتمع يترتب بشكل هرمي تتحدد طبقات كل امرئ فيه بحسب السلطة/ الملكية التي بيده.

القانون


مع كل التعقيدات التي نجمت عن كل تلك التطورات السابقة صار من المهم وجود قواعد وقوانين لتنظيم حياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم. في السابق كانت الأنظمة شفهية وكانت الكلمة كافية لنلتزم بالاتفاق المبرم بيننا. لن أحتال عليك لأنك ببساطة ستخبر جيرانك الذين هم أيضًا جيراني، وهم كذلك جميع سكان قريتنا، لو عرف الجميع أنني محتال فستتم مقاطعتي وهذا كفيل بإفساد حياتي، طبيعي أن يكفي كل هذا ليردعني.

كبرت أعدادنا، مسألة الالتزام بقواعد متفق عليها شفاهيًّا لم يعد فعالًا كالسابق، يمكنني الآن أن أحتال عليك ولتخبر جميع من تعرف لا يهم فهناك المزيد غيرهم من الذين لا تعرفهم، لن يمكنك إخبار الجميع. لا بدَّ من إيجاد طريقة مسؤولة عن النظام والعقاب، والرادع الأقوى يكون موثقًا كتابيًّا، ويقوم بتنفيذه المجتمع.. مرحلة جديدة من الحضارة فيها قوانين وشرطة ومحاكم.

الكتابة


مع تطور الحضارات أكثر فأكثر برزت الحاجة إلى تدوين أدق، دعنا نلقي نظرة على حكاية الكتابة. لنفترض أن هناك "دبًا" ضخمًا يهاجم الناس وليس هناك من يستطيع من إيقافه، ولكني تمكنت من فعل ذلك، هذا إنجاز عظيم يستدعي أن يُفخر به؛ لو لدي طريقة لأجعل كل أحد يسمع عن بطولتي… نقل الحكاية بروايتها شفاهيًّا، ليس فكرة عملية لذلك الحد، لدي فكرة أحسن؛ أرسم على جدار بيتي صورة لي وأنا أقتل الدب. هكذا سيعلم الجميع من أنا وماذا فعلت دون حاجة مني لإخبارهم في كل مرة، قصتي الآن تنتقل عبر الزمان والمكان.

لحظة؛ ربما ليس كل أحد سيفهم تفاصيل الحدث الذي وضحته بالرسم، دعني أفصلها أكثر، بدلًا من الرسمة الأولى سأعيد رسم المقاطع كلها، خمسة رسومات تظهر تسلسل الحدث، من أول ما خرجت إلى أن أنهيت حياته بيدي.

مع الوقت لاحظت أنه ما زالت هناك تفاصيل مفقودة وأنا أريد أن أخبر بكل شيء كل شيء. حسنًا لنرسم كل كلمة برسم منفصل يعبر عنها. لا يكفي؟ لا بأس، يمكننا أن نرمز لكل صوت يصدر من الفم برسم خاص به وحده. ولكن، ليس كل الناس تجيد الرسم.. طيب ها قد حولنا الرسم إلى رمز أسهل لكتابته، وهكذا صار لدينا أبجدية نكتب بها ما نود قوله.