إنما العلم بالتعلم
إنما العلم بالتعلم
إن العلماء كلهم مُقِرّون باتساع العلم وتشعُّب أوديته، وأن أحدًا ليس بمقدوره التسلُّط على شتى مسائله بالفقه والدراية، ولأجل ذلك كان العلماء يوصون طالب العلم بعدم المكابرة وعدم التسرع في الاستيلاء عليه جملة واحدة، فالعلم يؤخذ بالأيام والليالي، فإن أُخِذَ جملة ذهب جملة، وعلى طالب العلم أن يُعنى بأنفعه وأحسنه، وأن يعنى بدقائق العلوم لئلا تضيع فإن اتساع العلوم ربما جرف الطالب عنها، لذلك قال حبر الأمة ابن عباس: “العلم أكثر من أن يحصى، فخذوا من كل شيء أحسنه”.
وما أعجب قصة الإمام القفال وإقباله على العلم بعد أن جاوز الأربعين، وأفنى شبيبته في صناعة الأقفال، وكيف صبر على تلقِّي العلم، يقول عن نفسه: “ابتدأت التعلم، وأنا لا أفرِّق بين اختصرتُ، واختصرتَ”، فصار بعد ذلك إمامًا في عدة فنون لو استطاع أحدنا أن يتخصَّص في أحدها لما استطاع أن يبلغ منتهاها، فالعبرة بصدق العزيمة وقوة الإرادة ومحاربة الراحة التي تدعو إليها النفس.
فلنا في مثل هذا الإمام وغيره من الأئمة القدوة في التحلي بالصبر، كالربيع، تلميذ الشافعي، جاء في طبقات الشافعية: “قال القفال في فتاويه: كان الربيع بطيء الفهم، فكرَّر الشافعي عليه مسألة واحدة أربعين مرة فلم يفهم، وقام من المجلس حياءً، فدعاه الشافعي في خلوة وكرَّر عليه حتى فهم”، فلا تثبِّطنك نفسك والشيطان بضعف قدراتك على التحصيل ليثنياك عن أن تصل إلى ما وصل إليه الربيع، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، يقول الله (عزوجل): ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، وفي الحديث: “إنما العلم بالتعلم، وإنما الحِلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقَه”.
الفكرة من كتاب ارتياض العلوم
إن سعة الاطلاع وامتلاك المصادر، والاستكثار من المعلومات مطلب لبلوغ مدارج العلماء، إلا أنه وحده لا يكفي طالب العلم للرسوخ في العلم والارتياض به، بل هو مرهون قبل ذلك بسداد بصيرة الطالب، وامتلاك المواهب والاتكاء عليها لتحقيق العلم وحسن التصرف فيه، فكيف يرتاض الطالب العلوم؟ من هنا جاء هذا الكتاب المبدع، وقد صنَّفه الكاتب بطرق غير مألوفة في سائر المؤلفات، ناقلًا كلام الأئمة الكبار، بعيدًا عن الإغراق في رسوم الخطط ومباني البرامج ليمهِّد الطريق أمام طلاب العلم، فبالارتياض يسهل منه ما استصعب ويقرب منه ما بعد، فإن للرياضة جراءة وللدُّربة تأثيرًا.
مؤلف كتاب ارتياض العلوم
مشاري بن سعد الشثري: ولد في الرياض عام 1989، وهو كاتب وباحث في مركز البحوث والدراسات التابع لمجلة البيان، له عدة مقالات منشورة وغير منشورة، وله عدة مؤلفات منها: “عبقرية الإمام الشافعي المدد والمداد”، و”غمرات الأصول المهام والعلائق في علم أصول الفقه”، و”الموازنة بين المختصرات الأصولية”، و”صناعة التفكير الفقهي”.